الغيبة
الشهيد الثاني : الشيخ زين الدين العاملي
وكما يظهر من وصفها في الآية الكريمة، فهي من أشدّ أنواع الرذائل. فما هي الغيبة لغةً واصطلاحاً ؟ وما هي أقسامها ؟ وما هو علاجها وكيفية تجنّبها ؟
معنى الغيبة:
الغيبة بكسر الغين وسكون الياء وفتح الباء اسم لقولك (اغتاب فلان فلاناً) إذا وقع في غيبته والمصدر (الاغتياب) يُقال (اغتابه اغتياباً) والاسم (الغيبة).. هذا بحسب المعنى اللغوي.
وأمّا في الاصطلاح، فلها تعريفان:
أحدهما مشهور، وهو ذكر الإنسان حال غَيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يُعدُّ نقصاناً في العرف بقصد الانتقاص والذم.
وذكر القيد الأخير (أي لزوم توفر قصد الانتقاص) إنما هو لاستثناء حالات معينة من دائرة الغيبة، كذكر عيب إنسانٍ للطبيب تسهيلاً لعلاجه، وما شابه.
والتعريف الثاني: (التنبيه على كل ما يكره نسبته إليه).. وهو أعمّ من الأوّل، لشمول مورده اللّسان والإشارة والحكاية وغيرها. وهو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللّسان، وقد جاء على المشهور قول النبي ((صلى الله عليه وآله وسلم) وسلم) : (( هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه)).
وتحريم الغيبة في الجملة إجماعيٌّ بل هو (كبيرة موبقة) للتصريح بالتوعّد عليها بالخصوص في الكتاب والسنّة. وقد نصَّ الله على ذمّها في كتابه، وشبّه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال: ( وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) .
وعن جابر وأبي سعيد الخدريّ قالا: قال النبيُّ ((صلى الله عليه وآله وسلم) وسلم) : (( إيّاكم والغيبة ، فإنّ الغيبة أشدُّ من الزنا.. إنَّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يُغفرُ له حتى يَغفر له صاحبُهُ )).
وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( مررت ليلة أُسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم )). وعنه قال: خطبنا رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر الربا وعظّم شأنه فقال: إنّ الدرهم يصيبُه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ستّ وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم. وأوحى الله عزَّ وجلّ إلى موسى بن عمران أنَّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة، وإن لم يتب فهو أوَّل من يدخل النار.
وروي أنَّ عيسى (عليه السلام) مرَّ والحواريّون على جيفة كلب فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا؟ فقال عيسى (عليه السلام): (( ما أشدَّ بياض أسنانه..)) وكأنّه ينهاهم عن غيبة الكلب، وينبّههم على أنّه لا يذكر من خَلْق الله إلاّ أحسنه.
وقيل في تفسير قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ ): الهُمزة : الطعّان في الناس , واللُمزة : الذي يأكل لحومَ الناس.
واعلم أنّ السبب الموجِب للتشديد في أمر الغيبة وجعلها أعظم من كثير من المعاصي الكثيرة هو اشتمالها على المفاسد الكليّة المنافية لغرض الحكيم سبحانه، بخلاف باقي المعاصي فإنها مستلزمة لمفاسد جزئية. وبيان ذلك أنَّ المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على همّ واحد، وطريقة واحدة، وهي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر والنواهي، ولا يتمُّ ذلك إلاّ بالتعاون والتعاضد بين أبناء النوع الإنسانيّ، وذلك يتوقّف على اجتماع هِمَمِهم، وتصافي بواطنهم، واجتماعهم على الألفة والمحبّة، حتى يكونوا بمنزلة عبدٍ واحدٍ في طاعة مولاه، ولن يتمَّ ذلك إلاّ بنفي الضغائن والأحقاد والحسد ونحوه، وكانت الغيبة من كلٍّ منهم لأخيه مثيرة لضغنه، ومستدعية منه لمثلها في حقّه، لا جرم ، وكانت ضدَّ المقصود الكلّي للشارع ، وكانت مفسدة كليّة، ولذلك أكثر الله ورسولُهُ النهي عنها والوعيد عليها.
أقسام الغيبة:
لمّا عرفت أنَّ المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الإعلام به أو التنبيه عليه، كان ذلك شاملاً لما يتعلّق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه، حتّى في ثوبه وداره.
وقد أشار الصادق (عليه السلام) إلى ذلك أي في مصباح الشريعة بقوله: (( وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه، فالبدن كذكرك فيه العَمَش والحَوَل والعَور والقَرَع والقِصَر والطّول والسّواد والصّفرة وجميع ما يُتصوَّر أن يوصف به ممّا يكرهه، وأما النسب بأن تقول أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكاف أو تاجر أو حائك أو جاهل أو نحو ذلك ممّا يكرهه، كيف كان، وأمّا الخلق بأن تقول إنّهم سيّئ الخُلُق، بخيل، متكبِّر، مُراءٍ، شديد الغضب، جبان، ضعيف القلب ونحو ذلك، وأمّا في أفعاله المتعلّقة بالدِّين كقولك سارق، كذَّاب، شارب الخمر، خائن ظالم متهاونٌ بالصلاة، لا يُحسن الركوعَ والسُجُود، ولا يحترز من النجاسات ليس بارّاً بوالديه، لا يحرسُ نفسه من الغيبة والتعرُّض لأعراض الناس، وأمّا فعله المتعلّق بالدُّنيا كقولك قليل الأدب متهاون بالنّاس، لا يرى لأحدٍ عليه حقّاً، كثير الكلام ، كثير الأكل، نؤوم يجلس في غير موضعه، ونحو ذلك، وأمّا في ثوبه كقولك إنّه واسع الكُمِّ، طويل الذيل، وسخ الثياب، ونحو ذلك )).
واعلم أنَّ ذلك لا يقصر على اللّسان، بل التلفّظ به، إنّما حُرِّم لأنَّ فيه تفهيمَ الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض كالتصّريح، والفعل فيه كالقول والإشارة والرمز والإيماء والغمز واللمز والكتبة والحركة، وكلُّ ما يفهِمُ المقصودَ داخلٌ في الغيبة، مساوٍ للسان في المعنى الذي حُرّم التلفُّظ به لأجله، ومن ذلك ما روي عن عائشة أنّها قالت: دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأتُ بيدي (أي قصيرة) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( اغتبِتها)) ومن ذلك المحاكاة بأن تمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة، بل أشدُّ من الغيبة، لأنّه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتاب فإنّ الكتاب كما قيل أحد اللّسانين.
ومن ذلك ذكر المصنّف شخصاً معيّناً وتهجين كلامه في الكتاب إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لا يتمُّ الغرض من الفتوى وإقامة الدلائل على المطلوب إلاّ بتزييف كلام الغير ونحو ذلك، ويجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة في ذلك، وليس منه قوله قال قوم كذا ما لم يصرّح بشخص معين، ومنها أن يقول الإنسان بعض من مرَّ بنا اليوم، أو بعض من رأيناه حاله كذا، إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيّناً لأنَّ المحذور تفهيمه دون ما به التفهّم فأمّا إذ لم يفهم عنه جاز. كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كره من إنسان شيئاً قال: (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا يعيّن )).
ومن أسوء أنواع الغيبة, الغيبة الصادرة عن المتسمين بالفهم والعلم المرائين، فإنّهم يغلّفون كلامهم بعبارات أهل الصلاح والتقوى ليُظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغيبة في حين أنهم يقصدون الانتقاص.. ولا يدرون بجهلهم أنّه جمعوا بين فاحشتين: الرياء والغيبة.
وذلك مثل أن يُذكر عند أحدهم إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحبِّ الرياسة أو بحبِّ الدُّنيا أو بالتكيّف بالكيفيّة الفلانيّة، أو يقول: نعوذ بالله من قلّة الحياء أو من سوء التوفيق أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرَّد الحمد على شيء إذا علم منه اتّصاف المحدَّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك.. فإنّه يغتابه بلفظ الدعاء، وسَمْتِ أهل الصلاح، وإنّما قَصْدُهُ أن يذكر عيبه بضربٍ من الكلام غير المباشر المشتمل على الغيبة والرياء.
ومن ذلك أنّه قد يقدِّم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان، إنه لم يكن يقصّر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما نُبْتَلى به كلّنا، وهو قلّة الصبر. فيذكر نفسه بالذمِّ ومقصوده أن يذمَّ غيره، وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمِّ أنفسهم، فيكون مغتاباً مرائياً مزكيّاً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظنُّ بجهله أنّه من الصالحين المتعفّفين عن الغيبة. هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم أو العمل، من غير أن يتقنوا الطريق، فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم، ويضحك عليهم، ويسخر منهم.
ومن ذلك أن يذكر ذاكرٌ عيب إنسان فلا يتنبّه له بعض الحاضرين، فيقول أحدهم حينئذ: سبحان الله ما أعجب هذا! وذلك حتّى يُصغي الغافل إلى المغتاب، ويلتفت إلى قوله. إنه يذكر هنا الله سبحانه، ويستعمل اسمه أداةً لتحقيق خبثه وباطله، وهو يمنُّ على الله بذكره جهلاً منه وغروراً.
ومن ذلك أن يقول: جرى من فلان كذا أو ابتلي بكذا، بل يقول: جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا تاب الله علينا وعليه. فهو يظهر الدعاء له والتألّم والصداقة والصّحبة، والله مطّلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنّه قد تعرّض لمقتٍ أعظم ممّا يتعرَّض له الجهّال إذا جاهروا بالغيبة.
ومن أقسامها الخفيّة الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجّب فإنّه إنّما يظهر التعجّب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة، فيزيد فيها. فكأنّه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق، فيقول: عجبتُ ممّا ذكرتَه، ما كنت أعلم بذلك إلى الآن، ما كنت أعرف من فلان ذلك !.. يريد بذلك تصديق المغتاب، وتشجيعه على الغيبة باللّطف. والتصديق للغيبة هو غيبة ٌ، بل مجرّد الإصغاء إليها ، بل السكوت عند سماعها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :
(( المستمع أحد المغتابين ))، وقال الإمام علي (عليه السلام): (( السامع للغيبة أحد المغتابين )) ومراده (عليه السلام) السامع على قصد الرضا، لا على وجه الاتفاق أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل.
ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين مشاركتهما للمغتاب في الرضا، وتكيّف ذهنهما بالتصوُّرات المذمومة، وإن اختلفا في أنّ أحدهما قائل، والآخر قابل، فأحدهما ذو لسان يعبّر عن نفس قد تنجّست بتصوُّر الكذب والحرام والعزم عليه، والآخر ذو سمع يتقبّل تلك الآثار عن سوء اختيار، فتألَفها نفسه وتعتادها، ولذلك قيل: السامع شريك القائل.
فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلاّ بأن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه ، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلامٍ غيره فلم يفعلْه لزمه، ولو قال بلسانه اسكت وهو يشتهي ذلك بقلبه، فذلك نفاق وفاحشة أُخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (( من أُذلَّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذلّه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق )) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( من ردَّ عن عرض أخيه بالغَيب كان حقاً على الله أن يردَّ عن عرضه يوم القيامة )) وقال أيضاً: (( من ردَّ عن عرض أخيه بالغَيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار )) وروى الصدوق بإسناده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (( من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها عنه في مجلس فردَّها عنه ردَّ الله عنه ألف باب من الشرِّ في الدُّنيا والآخرة، وإن هو لم يردَّها وهو قادر على ردٍِّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرَّة )). وبإسناده إلى الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (( من اغتِيبَ عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه، نصره الله في الدُّنيا والآخرة، ومن لم ينصرْه ولم يَدْفعْ عنه، وهو يقدر على نصرته وعونه خفضه الله في الدُّنيا والآخرة )).
ــــــــــــ
(*) استعنّا في هذا المقال بكتاب كشف الريبة عن أحكام الغيبة للفقيه الشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني.