الله والتغيير
(إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) (1).
تعرض الآية الكريمة لسنة من السنن الإلهية الكونية ذوات الارتباط الوثيق بالجانب التربوي في الإنسان، هذه السنة هي كون التغيير في الحياة البشرية مرتبطًا بتغيير داخلي في النفوس البشرية قبل أن يكون متعلقًا بتغيير خارجي إلهي للأوضاع المعيشية، بل إنّ التغيير الأول هو الذي يتسبب في الأخير، ويقود، لا محالة، إليه.
وقد فهم المفسرون الآية بنحوين مختلفين من جهة الضيق والسعة:
فأما النحو الأول، وهو المشهور المعروف عند معظم المفسرين قديمًا وحديثًا، فهو أنّ التغيير الخارجي لأحوال الناس مطلقًا لا يكون إلا بتغييرهم ما في أنفسهم، بلا فارق بين أن يكون هذا التغيير الخارجي من الخير والنعمة إلى الشر والضيق، أو من الشر والضيق إلى الخير والنعمة، فالآية مطلقة وواسعة الدلالة من هذه الناحية.
وأما النحو الآخر، وهو ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي مثلًا (2)، فأنْ يقال: إنّ الآية مختصة بالحديث عن الانتقال من الخير وسبوغ النعمة إلى الشر وضيق الحال، والمعنى: أنّ الله لا يغيّر الأحوال الجيدة والنعم التي بين أيدي الناس حتى يغيّروا حالاتهم النفسية والروحية فيميلوا بها إلى الشر والانحراف. فليس للآية، بناءً على هذا، إطلاق يشمل الحالة المقابلة، وهي الانتقال من الشر إلى الخير.
وأيًا ما كان الأمر، فإنّ في الآية الشريفة دروسًا تربوية مهمة:
الدرس الأول:
علاقة الإنسان منا بربه ينبغي ألّا تسوء وتتوتر إذا أصيب بمصيبة ما أو ابتلي ببلاء من أي نوع في حياته، فلا يصح أن يتضايق ويتأذى من ربه، مما قد يقوده إلى التردي في هوّة السخط على القضاء والقدر الإلهيين، ولربما ينساق إلى ترك طاعة خالقه والإعراض عن عبادته. إنّ التعاليم القرآنية والروائية لتدلّ دلالة صريحة على أنّ تبدل النعمة وزوالها ونزول المصيبة مرتبطـ، ارتباطًا مباشرًا، بسلوك الإنسان نفسه، فبمعاصيه وجرائمه وانحرافاته يستجلب لنفسه هذه النتائج التي لا يرتضيها، فإن كان يريد أن يعتب أو يلوم فليعتب على نفسه وليلمها على ما غرسته بأفعالها وزرعته بذنوبها. قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (3).
وروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) قوله: "إنّ أبي كان يقول: إنّ الله قضى قضاءً حتمًا، لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سَلْبَ تلك النعمة، وذلك قول الله: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) (4)". هذا كله من جهة.
ومن جهة أخرى، لا يكون مقبولًا من المرء أن يعلّق اهتداءه بإرادة الله تعالى، فيسوّغ عدم التزامه ببعض الأحكام الشرعية وعدم تقيّده بجوانب من الدين بكون الله سبحانه لم يرد هدايته بعد! فهو، حسب نظره القاصر، سيهتدي حينما يريد له ربه ذلك، فهو منتظرٌ تحقّق تلك الإرادة الإلهية.
إنّ الله تعالى لا يغيّرك إذا لم تغيّر أنت ما في نفسك، والهداية الإلهية لن تشملك إنْ أنت لم تردها ولم تسعَ لنيلها: (والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا، وإنّ الله لمع المحسنين) (5). وعن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: "هُدي من أَشعرَ قلبَه التقوى"، فالهداية ستأتي من الرب الهادي، لكن بعد أن يُشعر الإنسانُ قلبَه التقوى، ويولّد في داخله الداعي القربي الذي يجعله ينحو نحو ربه ويسعى إلى نيل رحمته ورضاه.
الدرس الثاني:
تفيدنا الآية الكريمة أنّ التغيير ممكن للإنسان دومًا حينما يريده حقيقةً بصدق ويتحرك نحوه فعلًا، فلا معنى لما يتذرع به كثير منّا حين نُطالب بتغيير أنفسنا، فيجيب أحدنا: أنا هكذا، ولا يمكنني تغيير أي شيء فيّ. اقبلني كما أنا أو دعني!
بعضنا لربما يحمل في داخله إحساسًا بالضعف أمام عوامل مؤثرة في بناء شخصيته كالعامل الوراثي مثلًا أو العامل التربوي أو العامل البيئي، فيخيّل إليه أنه محكوم إلى آخر عمره بما تقتضيه هذه العوامل، من دون أن يستطيع لها تغييرًا، أو يملك قابلية الخروج من تحت سطوتها، ويجعله إحساسه هذا لا يفكر في تغيير ذاته وتعديل بعض عاداته وخصائصه وسلوكه، فيوقعه هذا في كثير من الأزمات والمواقف الاجتماعية الحرجة مع الذين من حوله، لا سيما أقرب الناس إليه، كأسرته وأصدقائه وزملائه. هذا، في حين أنّ الإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول: "المرء حيث وضع نفسه برياضته وطاعته، فإنْ نزّهها تنزّهت، وإنْ دنّسها دنست" (6). إنه (ع) يجعل قياد النفس بيد الإنسان ذاته، فباختياره وإرادته يستطيع أن ينزهها مثلما يستطيع أيضًا أن يدنسها، وهذه الحقيقة مستمدة من القرآن الكريم القائل: (ونفسٍ وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها) (7).
وتتفاقم المشكلة بنحو أخطر عند الذين يعمّمون نظرتهم السوداوية هذه لتتناول حالة الأمة أيضًا، فهم لا يرونها قادرة على تغيير أحوال ضعفها الحالي ومظاهر تخلّفها في جوانب معيّنة، وكأنّ هذه الأمة المرحومة محكومة أيضًا بأن تظل – إلى قيام الساعة – تئنّ تحت وطأة قيود الجهل والفقر والظلم والاستبداد والتفرق وغيرها من مظاهر التخلف، من دون أن تملك لها تبديلًا أو عنها تحوّلًا.
وغنيّ عن البيان ما يمكن أن تقود إليه هذه النظرة السلبية القاتمة من ركون إلى التخلف، بل انجرار إلى المزيد والمزيد منه، وتهيئة كل الظروف الملائمة لوقوع الأمة تحت نير استغلال أعدائها لها وتسلطهم عليها.
الدرس الثالث:
نتعلم من الآية المباركة أيضًا أننا إن أردنا للتغيير أن يكون واقعيًا مؤثرًا فلا بد أن نبدأ من أنفسنا، لا أن ننتظر من الآخرين أن يغيّروا أنفسهم أولًا. مشكلة أناس كثيرين أنهم يظلون يؤملون من الآخرين المحيطين بهم أن يحسّنوا من أخلاقهم أو سلوكهم، من دون أن يبادروا بأنفسهم إلى تغيير ذواتهم، فالزوج يريد من زوجته أن تغيّر طريقة تعاملها معه، مثلما تنتظر الزوجة الشيء نفسه من الزوج، ولا يتحرك أيّ منهما نحو تغيير طريقته هو في التعامل مع الطرف المقابل، ومثل هذا قد يحدث بين الرئيس والمرؤوس، والشريكين، والجارين، والزميلين... وهكذا تظل الأزمات والمشكلات الاجتماعية بلا تغيير، اللهم إلا نحو الأسوأ!
إنّ المنطلق القرآني يذهب إلى ضرورة أن تكون البدأة من الذات: (حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، وإذ ذاك فقط يمكن للمرء أن ينتظر من الآخرين أن يتغيروا، حتى إنّ عدوّك يمكن أن ينقلب وليًا حميمًا لك إذا ما رأى منك تعاملًا حسنًا وتصرفًا جميلًا: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم، وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم) (8).
والحقّ أنّ من لا يصلح نفسه لا ينبغي لنا أن ننتظر منه إصلاح غيره، فالإمام أمير المؤمنين علي (ع) يقول: "كيف يصلح غيره من لا يصلح نفسه؟" (9)، ويقول كذلك: "كيف يهدي غيره من يضلّ نفسه؟" (10).
الدرس الأخير:
تعلّمنا الآية أنّ التغيير الحقيقي الناجع هو ذلك الذي يبدأ من داخل الإنسان، وليس من خارجه: (ما بأنفسهم). وهنا مكمن المشكلة عند غير قليل من الناس، ممن إذا وقعوا في مشكلات ما أو واجهوا ظروفًا خطيرة أو مزعجة سعوا إلى تغيير أوضاعهم من الخارج، فمن كانت عنده مشكلة معيّنة في عمله بادر إلى البحث عن عمل غيره، ومن واجه عقبة ما في بلده رأى الحل الأمثل في الهجرة والانتقال إلى بلد آخر، وهكذا قد يحسب بعضنا أنّ علاج مشكلته يكمن في الانتقال إلى دار جديدة للسكنى، أو في البحث عن زوجة جديدة، أو استبدال بعض موظفيه أو ما شابه ذلك كله.
إنّ حقيقة التغيير ماثلة في أن يغيّر الإنسان داخله، بأن يغيّر من نظرته إلى نفسه وإلى الحياة والآخرين؛ ذلك أننا "إذا رغبنا في إجراء تغيير جوهري وكمي، فإنه يتعين أن تنصبّ جهودنا على تصوراتنا الذهنية الأساسية" (11). المثال الواضح على هذا هو ذلك الفارق الهائل الذي يطرأ على طريقة تعامل الإنسان مع الحياة كلها فيما إذا تغيرت نظرته المادية غير الإيمانية إلى نظرة روحية إيمانية، فهذا التغيير كفيل بجعله يعي أنّ نفسه قد شرّفها الله تعالى وكرّمها وخلقها لغير شهوات هذه الدنيا الفانية، وسيجعله هذا، بلا ريب، يغيّر من سلوكه ويوجّه أفعاله وتصرفاته غير الوجهة الشهوية التافهة، فعن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته" (12).
وما ينطبق على هذا المثال الذي هو في طبيعته شاسع وواسع، ينطبق أيضًا على مشكلاتنا الصغرى التي يكمن حلّها في تغيير نظرتنا إليها وإلى طريقتنا التي نتعاطى بها معها، "وتكون الطريقة التي نرى بها الأشياء هي المصدر للطريقة التي نفكر بها والطريقة التي نتصرف بها" (13).
_____________________________
(*) المصدر كتاب "معالم التربية الإلهية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.