عملي وعملكم (*)
[وإنْ كذّبوك فقل لي عملكم ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون * ومنهم من يستمعون إليك، أفأنت تُسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك، أفأنت تهدي العُمي ولو كانوا لا يبصرون * إنّ الله لا يظلم الناس شيئًا ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون] (1).
هذه الآيات الشريفة جاءت في سياق تعليم النبي الأعظم محمد (ص) كيفية التعامل مع الكافرين المعاندين الذين كثيرًا ما قد يتعرض لمواجهتهم والتعاطي الرسالي معهم. إنها تعلّمه أن يخاطبهم حالتئذ بأنّ كل طرف له أعماله التي هو مسؤول عنها، ولن يتحمل أي طرف جريرة أعمال الطرف الآخر ونتائج أفعاله: [وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون].
ثم تبيّن الآيات أنّ هناك أناسًا قد يَبدون، في ظاهر حالهم، أنهم يستمعون إلى تلاوتك كتابَ الله وإلى كلامك – يا رسول الله – معهم وينظرون إليك وأنت تخاطبهم وتُجري المعجزات أمامهم، لكنهم، في واقعهم، لا يستفيدون شيئًا من استماعهم ونظرهم، فكأنهم صم وعمي بلا فرق؛ لأنهم جميعًا لا يستفيدون من أسماعهم وأبصارهم في السير في طريق الهدى والابتعاد عن سبل الضلال.
وفي الآيات دروس مهمة نغنمها منها:
الدرس الأول:
المهم في مقام الهدى والضلال، وصراع الحق مع الباطل، إنما هو العمل، فهو المحكّ الوحيد الذي ينماز عليه المهتدي من الضالّ، والمحقّ من المبطل، وليست ثمة أية أهمية للادعاءات والشعارات بالغًا ما بلغ جذبها وجمالها.
هؤلاء الكفار كذّبوا رسول الله (ص) مدّعين أنهم على الحق وهو مبطل، واتهموه (ص) بمجموعة من الاتهامات السيئة الخطيرة التي أشارت إليها آيات قرآنية أخرى، محاولين إسقاطه من أعين الناس وتنفيرهم عنه، فما كان من القرآن الكريم إلا أن احتكم إلى العمل، فهو الفيصل الوحيد: [وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون].
أجل، ففي المنظور الإسلامي يكون التفاضل بين الناس ونيل المقامات والشرف عند الله (جلّ وعلا) بالأعمال وليس بالأقوال، مهما كان نوعها؛ لذا وجدنا الإمام أمير المؤمنين عليًا (ع) يقول: "الشرف عند الله سبحانه بحسن الأعمال، لا بحسن الأقوال" (2).
الدرس الثاني:
الأسلوب الرسالي المثالي في التعامل مع الضالّين المكذّبين يتلخص في جانبين مهمين أشارت إليهما الآيات المباركة: فأما الجانب الأول فهو الثبات على المبدأ، وعدم الخضوع والضعف والانقياد لباطلهم، فالمؤمن لا ينهار عزمه ولا تتضعضع إرادته مهما قوي التكذيب وازدادت التحديات التي يواجهها؛ ذلك أنه عزيز بعزة الله سبحانه، ومن يكن كذلك فليس في سجلّ حياته للذل محل ولا مقام: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون] (3) ، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن كل شيء، إلا إذلال نفسه" (4) .
وأما الجانب الآخر فيتمثل في أن يبيّن المؤمن لأهل الضلالة المكذّبين أنه ليس في حاجة إليهم، ولا تحرّكه نحو هدايتهم مصلحة شخصية ما، فلكل طرف أعماله التي هو مسؤول عنها، بل هم المحتاجون، لأجل نجاتهم وسعادتهم، إلى هدايته وجهوده التي يبذلها في سبيلهم. وهذا أسلوب قرآني معروف تحدثت عنه آيات عدة في كتاب الله العزيز، منها الآية الكريمة: [يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد] (5).
هذه الآيات الكريمة التي هي محل كلامنا جاءت، إذًا، تعلّم النبي (ص) كيفية التعامل الرسالي الأفضل مع أولئك الناس، لأنهم بهذا الأسلوب سينقادون إلى الحق من منطلق كونهم باحثين عن مصالحهم، كسائر الناس، ومصالحهم هذه إنما تكمن في اتّباع النبي (ص) والأخذ بمنهج الحق الذي جاء به. وبناءً على ذلك، لا تكون هذه الآيات متنافية على الإطلاق مع آيات وجوب الأمر بالمعروف أو آيات وجوب الجهاد حتى تكون منسوخة كما قيل.
الدرس الثالث:
ذهب بعض المفسرين (6) إلى أنّ السبب في عدم استفادة هؤلاء شيئًا من استماعهم للقرآن ودعوة النبي (ص) ومن مشاهدتهم المعجزات كامن في كونهم لم يكونوا يحملون في دواخلهم نيات صادقة للاستفادة من كل ذلك، بل كان كل همّهم منصبًّا على العثور على ثغرات في كلام النبي (ص) وسلوكه ينفذون منها لأجل تكذيبه والتصدي لدعوته.
وإذا كان هذا هكذا حقًا فمن الجدير بنا أن ننتبه لنيّاتنا حينما نودّ الإقبال على الأعمال الصالحة التي هي أساسًا وسائل تقرّبنا إلى ربنا (جلّ شأنه)؛ ذلك أنّ هذه الوسائل إنما تكون ذات أثر حقيقي حينما تكون منبعثة من نيّة خالصة صادقة، فالصلاة مثلًا لن تحقق أثرها في حياتنا، ولن تنهانا عن الفحشاء والمنكر، إلا إذا أقمناها راغبين، بصدق وإخلاص، في الاتصال الحقيقي بربنا والعروج بأرواحنا إليه، وليس لمجرد إسقاط ما افترضه علينا وأدائه كيفما كان!
وهكذا الحال فيما يرتبط بالدروس والمحاضرات والكتب والمواقع الإلكترونية الدينية، فهي لا تجدي في انتشال الإنسان من أوحال الضلالة والسير به في طريق الهداية إذا أقبل عليها غافلَ القلب معرضًا، أو مستهدفًا إحصاء العيوب والعثرات التي تشتمل عليها، بل لا محيص له عن نيّة الاهتداء والاستفادة منها؛ كيما يحقق الله تعالى له مراده ويوصله إلى مقصوده، فعن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال: "على قدر النيّة تكون من الله العطيّة" (7).
الدرس الأخير:
أوضحت الآية الأخيرة أنّ الحالة التي وصل إليها هؤلاء – وهي حالة عدم استفادتهم مما يسمعون أو يرون من الحق – لم تكن بظلم من الله لهم، بل بظلمهم أنفسَهم، إذ أعرضوا عن الحق واتّبعوا الشهوات، فعميت قلوبهم: [إنّ الله لا يظلم الناس شيئًا ولكنّ الناس أنفسهَم يظلمون]، وهذه الحالة ينبغي لنا أن نكون منها على حذر شديد، لئلا نقع فيها ونحن غافلون.
لقد شاءت الحكمة الإلهية لهذا الإنسان أن يُخلق مزودًا بالعقل الذي يميّز به بين الخير والشر، والحق والباطل، وأرسل له الأنبياء والمرسلين، وأنزل له الكتب السماوية؛ لكي يسير هذا الإنسان في طريق التكامل والتسامي، ويتخذ من هذه الحياة الدنيا وإمكاناتها المتنوعة وسائله التي تعينه على قطع طريقها في مسير متصاعد على الدوام إلى الأعلى، حيث القيم الرفيعة والأهداف الإلهية السامية. فإذا اختار هذا الإنسان التكذيب بالحق، وحرّك خطواته في طرق الضلالة والانحراف، فإنه بهذا يكون قد وضع نفسه في غير الموضع الذي خُلقت له، وحرمها سعادة الدارين، ومنع عنها النعيم الخالد الذي أراده الله تعالى لها، وبذا يكون قد ظلم نفسه ظلمًا بيّنًا فاحشًا، وعاقبة الظلم لا يختلف عاقلان في فداحتها ووخامتها. ومن الملاحظ أنّ عددًا غير قليل من الروايات الشريفة أشار إلى ذلك بعبارات مطلقة تشمل ظلم الآخرين وظلم النفس أيضًا، كقول رسول الله (ص): "الظلم ندامة، والطاعة قرة عين" (8)، وقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): "من ظلم عظمت صرعته" (9)، وكذلك أيضًا قول الإمام محمد الباقر (ع): "الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة" (10).