مشروعية شد الرحال لزيارة القبور
بقلم : الشيخ حسن عبد الله العجمي
يهتم الشيعة الإمامية الإثنا عشرية بزيارة القبور والصلاة والدعاء عندها، خصوصاً قبر النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، وقبور الأئمة الطاهرين من أهل بيته «عليهم السلام»، باعتبار أنّ ذلك من تمام الوفاء بعهودهم عليهم الصلاة السلام، وموجب لشفاعتهم لزائرهم، ففي الخبر الصحيح الذي رواه الشيخ ابن بابويه الصدوق «رحمه الله» في كتابه «علل الشرائع» بسنده عن الحسن بن علي الوشاء أنّه قال: ( سمعت أبا الحسن الرضا «عليه السلام» يقول: «إن لكل إمام عهداً في عتق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديق بما رغبوا فيه كانوا أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»)(1)، وقال النبي «صلى الله عليه وآله»: (من زارني حيّاً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة)(2)، ولأنّ مواقع تلك القبور مواطن لاستجابة الدعاء والارتباط بالله عزّ وجل والانقطاع إليه، إضافة إلى الفوائد الكثيرة الأخرى.
ولا يخالف الشيعة في استحباب زيارة القبور أو جوازها غيرهم من المسلمين، بل المسلمون جميعهم متفقون على ذلك.
النصوص من أقوال رسول الله في الحث على زيارة القبور
فهذا نبي الإسلام «صلى الله عليه وآله» يرخّص للمسلمين زيارتها ويحثهم على ذلك من خلال بيانه لما في زيارتها من ثمار وآثار جليلة وفوائد جمّة.
فعن بريدة أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: («... نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها...») (3).
وعن ابن مسعود أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: («... ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تزهّد في الدّنيا وترغب في الآخرة») (4).
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي «صلى الله عليهوآله» أنّه قال: («نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة...») (5).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: ( «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكركم الموت») (6).
وفي رواية أخرى أخرجها الحاكم أيضاً أن أنساً قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: ( «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنّه يرق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجرا») (7).
وفي رواية أخرى للحاكم النيسابوري يرويها بسنده عن أنس عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنه قال:(«إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن شاء أن يزور قبراً فليزره، فإنّه يرق القلب ويدمع العين ويذكر بالآخرة») (8).
وعن عبد الله بن أبي ملكية قال: (إن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرّحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها) (9).
وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: («... إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تذكركم الآخرة ...» ) (10).
ولو أردنا أن نستقصي الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والدالة على جواز زيارة القبور بل واستحبابها لاحتجنا أن نسوّد الكثير من الصفحات، وفيما ذكرناه كفاية.
وإذا كان المسلم يجني مثل هذه الثمار والفوائد التي ذكرتها الروايات السالفة بزيارته لقبر الإنسان العادي، فلا شك أن الفوائد التي يجنيها من زيارته لقبور الأنبياء والأئمة عليهم جميعاً الصلاة والسلام تكون أكبر وأكثر فيتأكد حينها استحباب زيارة قبورهم.
وعليه فإن من ينتقد الشيعة أو غيرهم من المسلمين لزيارتهم القبور فهو إنّما يرد على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وينتقد نبي الإسلام لأنّه هو الذي وجّه المسلمين وأرشدهم إلى ذلك وحثهم عليه.
من أقوال علماء أهل السنة في استحباب زيارة القبور
وأمّا أقوال وكلمات الأعلام من علماء أهل السنة حول زيارة القبور فإليك جملة منها: -
قال أبو محمد عبدالله بن قدامة المقدسي في كتابه الكافي في فقه ابن حنبل: (ويستحب للرجال زيارة القبور لأن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الموت»، رواه مسلم، وإذا مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: «كان رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهلالديار من المؤمنين والمسلمين وإن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية» وفي حديث آخر: «ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين»، وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم»، وإن زاد اللهم اغفر لنا ولهم كان حسناً، وأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان إحداهما لا يكره لعموم ما رويناه ولأن عائشة «رضي الله عنها» زارت قبر أخيها عبد الرحمن، والثانية يكره لأن النبي «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» قال: «لعن الله زوّارات القبور» وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ بقيت الكراهية، ولأن المرأة قليلة الصبر فلا يؤمن تهييج حزنها برؤية قبور الأحبة فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله بخلاف الرجل) (11) .
وقال في كتابه المغني: (لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة زيارة الرجل القبور، وقال علي بن سعيد: سألت أحمد عن زيارة القبور تركها أفضل عندك أو زيارتها؟ قال: زيارتها.
وقد صح عن النبي «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» أنه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الموت»، رواه مسلم والترمذي بلفظ «فإنها تذكر الآخرة» ) (12) .
وقال أيضاً: (وإذا مر بالقبور أو زارها استحب أن يقول ما روي عن مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية.
وفي حديث عائشة ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين .
وفي حديث آخر: اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، وإن زاد قال اللهم اغفر لنا ولهم كان حسنا)(13) .
وقال مرعي بن يوسف الحنبلي في كتابه دليل الطالب: (وتسن زيارة القبور للرجال وتكره للنساء وإن اجتازت المرأة بقبر في طريقها فسلمت عليه ودعت له فحسن وسن لمن زار القبور أو مر بها أن يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسال الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمناأجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم)(14).
وقال أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي الحنبلي في كتابه زاد المستنفع: (تسن زيارة القبور إلاّ للنساء ويقول إذا زارها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم) (15).
وقال محمد الشربيني الخطيب في كتابه الإقناع: (ويندب زيارة القبور التي فيها المسلمون للرجال بالإجماع، وكانت زيارتها منهياً عنها ثم نسخت بقوله صلى الله عليه [وآله] وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، ويكره زيارتها للنساء لأنها مظنة بكائهن ورفع أصواتهن، نعم يندب لهن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم فإنها من أعظم القربات وينبغي أن يلحق بذلك بقية الأنبياء والصالحين والشهداء، ويندب أن يسلم الزائر لقبور المسلمين مستقبلاً وجه الميت قائلاً ما علمه صلى الله عليه [وآله] وسلّم إذا خرجوا للمقابر: «السلام على أهل الدار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية»، أو «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» رواهما مسلم ويقرأ عندهم ما تيسر من القرآن الكريم فإن الرحمة تنزل في محل القراءة، والميت كحاضر ترجى له الرحمة ويدعو له عقب القراءة لأن الدعاء ينفع الميت وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة، وأن يقرب زائره منه كقربه منه في زيارته حياً احتراماً له، قال النووي: ويستحب الإكثار من الزيارة وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل ) (16) .
وقال في مغني المحتاج: ( ويندب زيارة القبور التي فيها المسلمون للرجال بالإجماع وكانت زيارتها منهياً عنها ثم نسخت لقوله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم»: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» ولا تدخل النساء في ضمير الرجال على المختار.
وكان «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» يخرج إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، وروي «فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت»، وإنما نهاهم أولاً لقرب عهدهم بالجاهلية فلما استقرت قواعد الإسلام واشتهرت أمرهم بها.
وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه ما حاصله: أنه من كان يستحب له زيارته في حياته من قريب أو صاحب فيسن له زيارته في الموت كما في حال الحياة، وأما غيرهم فيسن له زيارته إن قصد بها تذكر الموت أو الترحم عليه ونحو ذلك .
قال الإسنوي: وهو حسن، وذكر في البحر نحوه .
قال الأذرعي: والأشبه أن موضع الندب إذا لم يكن في ذلك سفر لزيارة القبور فقط، بل في كلام الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز السفر لذلك واستثني قبر نبينا «صلى الله عليه [وآله] وسلّم»؛ ولعل مراده أنه لا يجوز جوازاً مستوي الطرفين أي فيكره .
ويسن الوضوء لزيارة القبور كما قاله القاضي الحسين في شرح الفروع، أمّا قبور الكفار فزيارتها مباحة وإن جزم الماوردي بحرمتها .
وتكره زيارتها للنساء، لأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن لما فيهن من رقة القلب وكثرة الجزع وقلة احتمال المصائب، وإنما لم تحرم لأنه «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» مر بامرأة على قبر تبكي على صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري، متفق عليه، فلو كانت الزيارة حراماً لنهى عنها .
وعـن عائشـة «رضي الله تعالى عنها» قالت: كيـف أقـول يا رسـول الله؟ - يعني إذا زارت القبور- قال: «قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ، رواه مسلم .
وقيل تحرم لما روى ابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة «رضي الله تعالى عنه» أن النبي «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» لعن زوّارات القبور وليس هذا الوجه في الروضة وبه قال صاحب المهذب وغيره .
وقيل تباح جزم به في الإحياء وصححه الروياني إذا أمن الإفتتان عملاً بالأصل والخبر فيما إذا ترتب عليها بكاء ونحو ذلك .
ومحل هذه الأقوال في غير زيارة قبر سيد المرسلين، أما زيارته فمن أعظم القربات للرجال والنساء وألحق الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء والصالحين والشهداء وهذا ظاهر وإن قال الأذرعي لم أره للمتقدمين.
قال ابن شهبة: فإن صح ذلك فينبغي أن يكون زيارة قبر أبويها وإخوتها وسائر أقاربها كذلك فإنهم أولى بالصلة من الصالحين .
والأولى عدم إلحاقهم بهم لما تقدم من تعليل الكراهة ... الخ ) (17) .
وقال العلامة محمد الزهري في السراج الوهاج: (ويندب زيارة القبور للرجال وتكره للنساء، وقيل: تحرم، وقيل: تباح، وجزم به في الإحياء، ومحل تلك الأقوال في غير زيارة قبور الأنبياء وأهل الصلاح وإلاّ فزيارتهم سنة للنساء أيضاً ويسلم الزائر للقبور ندباً ويقرأ ما تيسر من القرآن ويدعو للميت عقب القراءة ويستقبل عنده القبلة ) (18) .
وقال إبراهيم بن علي الفيروز آبادي الشيرازي في كتابه التنبيه:(ويستحب للرجال زيارة القبور، ويقول إذا زار: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ) (19) .
وقال النووي في روضة الطالبين: ( يستحب للرجال زيارة القبور وهل يكره للنساء وجهان أحدهما - وبه قطع الأكثرون - يكره، والثاني: وهو الأصح عند الروياني لا يكره إذا أمنت من الفتنة، والسنة أن يقول الزائر: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، وينبغي للزائر أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة لو زاره.
وسئل القاضي أبو الطيب عن قراءة القرآن في المقابر فقال الثواب للقارئ ويكون الميت كالحاضر ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر لهذا المعنى، وأيضاً فالدعاء عقيب القراءة أقرب إلى الإجابة والدعاء ينفع الميت) (20) .
وقال محمد بن عمر الجاوي في نهاية الزين: ( ويسن زيارة القبور وورد أن من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر الله له وكان باراً لوالديه، وفي رواية من زار قبر والديه في جمعة أو أحدهما فقرأ عنده «يس» والقرآن الحكيم غفر الله بعدد ذلك آية وحرفاً، وفي رواية من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة كان كحجة ) (21) .
وقال أبو البركات حسن بن عمار الشرنبلاني في كتابه نور الإيضاح:(فصل في زيارة القبور: ندب زيارتها للرجال والنساء على الأصح ويستحب قراءة يس لما ورد أنه من دخل المقابر فقرأ يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات ) (22).
وقال علاء الدين الكاساني في بدائع الصنائع: ( ولا بأس بزيارة القبـور والدعاء للأموات إن كانوا مؤمنين مـن غير وطء القبور لقول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ، ولعمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم إلى يومنا هذا) (23).
وقال صفي الدين المباركفوري في شرح قوله «صلى الله عليه وآله»: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»: (أمر بزيارة القبر بعد النهي عنها، فهو للإباحة أو الاستحباب كما تقرر في الأصول، وإلى الاستحباب ذهب الجمهور، وحكى بعضهم الإجماع عليه، وحكى عبد البر عن بعضهم وجوبها.
قيل: سبب النهي عن زيارة القبور في أول الأمر أنّهم كانوا قريبي عهد بعبادة الأوثان والأصنام، وكانت قبور بعض الصالحين من جملة الأوثان، فخشي أن لا يفهم البعض مقصد الزيارة فيدعو أهل القبور لكشف الشدائد وقضاء الحوائج فيقع في الشرك، فلما استحكم عندهم معنى التوحيد أذن لهم في الزيارة لأنّها تذكر الأخرى وتزهد في الدنيا)(24).
وقال الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في تعليقة له حول مسألة زيارة القبور: ( لا خلاف بين أهل العلم في إباحة زيارة القبور، ولكن هناك اختلافات بسيطة يمكن إجمالها فيما يلي:
قال الجمهور غير الحنفية: تندب زيارة القبور للرجال للاعتبار والتذكر، وتكره للنساء لأنّها مظنة لبكائهن ورفع صوتهن لما تميزن برقة القلب وقلت احتمال المصائب وإنّما لم تحرم عليهن زيارة القبور لحديث مسلم عن أم عطية: «نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا».
وقال الحنفية: تندب زيارة القبور للرجال والنساء على الأصح، لما روى ابن أبي شيبة أن رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كل حول، فيقول: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار»، كما كان رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى.
ويستحب للزائر أن يقرأ «يس» لما ورد ذلك من حديث رواه أنس.
وزيارة النساء إن كانت لتجديد الحزن والبكاء والندب على ما جرت به عادتهن لا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور» فإن كانت للاعتبار والترحم من غير بكاء فلا بأس.
وقد روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن زيارتها تذكر» وقد زار رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» قبر أمّه، وقد رأى بعض أهل العلم أنّ حديث أبي هريرة أن رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» لعن زوّرات القبور، وحديث ابن عبّاس لعن رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، رأى بعض
أهل العلم أنّ هذا كان قبل أن يرخص في زيارة القبور، فلمّا رخّص عمّت الرّخصة للرجال والنساء، ومنهم من كرهها للنساء وقال: الإذن يختص بالرّجال دون النساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن) (25).
وقال الدكتور محمد ضياء الرّحمن الأعظمي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة: (لا خلاف بين العلماء في استحباب زيارة القبور لأنّها ترقق القلوب، وكانت زيارتها منهيّاً عنها أولاً ثم نسخ، وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، كما جاء النهي في بعض الروايات: «ولا تقولوا هجراً»، والهجر هو الكلام الباطل)(26).
جواز شد الرّحال لزيارة القبور
ثم إنّ الروايات التي أوردناها سابقاً ليست خاصة بزيارة القبور القريبة في القرية أو البلد التي يسكنها المسلم أو المدينة التي يقطنها، وعليه فلا مانع من شدّ الرحال لزيارة قبر قريب أو نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء في أي مكان من بقاع الأرض، وما تمسّك به ابن تيمية وأتباعه كدليل على المنع مـن ذلك وهـو قوله «صلى الله عليه وآله»: «لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثةمساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» لا يصلح دليلاً وينبئ عن قلة فهم عندهم أو عناد، فالحديث لا علاقة له بحرمة السفر لزيارة قبر نبي أو وصي أو ولي أو قريب، وإنما المنهي عنه هو شدّ الرّحال للصلاة والعبادة في مسجد من المساجد غير المساجد الثلاثة والنهي الوارد هو نهي كراهة وليس نهي حرمة، ولمزيد من التوضيح للحديث نقول :
أولاً: إن المستثني منه في الحديث لا يخلو إمّا أن يكون «المسجد» أو «المكان» فإن كان الأول فتكون صورة الحديث: «لا تشد الرّحال إلى مسجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... الخ» وعلى هذه الصورة يكون المنهي عنه – هذا على فرض أن النهي هنا نهي حرمة، وهو ليس كذلك طبعاً– هو شد الرّحال إلى مسجد من المساجد غير المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث، فليس فيه نهي عن شد الرّحال إلى أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، وعليه فلا دلالة في الحديث – على هذا الوجه – على عدم جواز شدالرّحال لزيارة القبور .
وعلى الثاني تكون صورة الحديث:«لا تشد الرّحال إلى مكان إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... الخ» وتفسير الحديث على هذه الصورة يلزم منه كون جميع أفراد السفر محرّمة وغير جائزة سواء كان لزيارة مسجد أو غيره من البقاع أوالأمكنة، وهذا لا يأخذ به أحد ولا يلتزم بهذا القول واحد من الفقهاء، فهذه الصورة لا يمكن الأخذ بها .
ثانياً: إنّ النهي عن شد الرّحال إلى أي مسجد سوى المساجد الثلاثة ( لا يعني أنّ شد الرحال إلى المساجد الأخرى حرام، بل معناه أن المساجد الأخرى لا تستحق شدّ الرحال إليها، وتحمّل مشاق السفر من أجل زيارتها، لأن المساجد الأخرى لا تختلف – من حيث الفضيلة – مع الآخر اختلافاً كبيراً (27) فالمسجد –سواء كان في المدينة أو في القرية أو في المنطقة – لا يختلف مع الآخر اختلافاً كثيراً وعليه فلا داعي إلى أن يشدّ الإنسان الرحال إليه، أمّا إذا شدّ الرحال إليه فليس عمله هذا حراماً ولا مخالفاً للسنة الشريفة .
ويدل عليه ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين ) (28) .
يقولمجد الدين الفيروز آبادي: ( أما حديث لا تشد الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد فلا دلالة فيه على النهي عن الزيارة بل هو حجة في ذلك، ومن جعله دليلاً على حرمة الزّيارة فقدأعظم الجرأة على الله ورسوله، وفيه برهان قاطع على غباوة قائله وقصوره عن نيل درجة كيفية الاستنباط والاستدلال) (29) .
ولقد ضلل العديد من علماء أهل السنّة ابن تيمية الحراني عندما استند إلى هذا الحديث وأفتى بحرمة شد الرّحال لزيارة قبر النبي المصطفى «صلى الله عليه وآله».
قال الشيخ ابن حجر الهيثمي في مبحث سن زيارة قبر الرسول «صلى الله عليه وآله» ما نصّه: ( ولا يغترّ بإنكار ابن تيمية لسنّ زيارته «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» فإنه عبدٌ أضلّه الله كما قال العزّ بن جماعة، وأطال في الرّد عليه التقي السبكي في تصنيف مستقل، ووقوعه في حق رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلّم» ليس بعجيب فإنه وقع في حق الله، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً، فنسب إليه العظائم، كقوله: إن لله تعالى جهة ويداً ورجلاً وعيناً وغير ذلك من القبائح الشنيعة، ولقد كفّره كثير من العلماء عامله الله بعدله، وخذل متّبعيه الذين نصروا ما افتراه على الشريعة الغراء ) (30).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.
_____________________
(1) علل الشرائع صفحة 459 .
(2) قرب الإسناد صفحة 65 .
(3) صحيح مسلم 2/672 رواية رقم: 977.
(4)صحح ابن حبّان 3/261 رواية رقم: 981.
(5) المستدرك على الصحيحين 1/305 رواية رقم: 1386، شرح مشكل الآثار 12/181 رواية رقم: 4744، مسند عبد بن حميد 2/120 رواية رقم: 983، معرفة الآثار والسنن 5/351 رواية رقم: 7800، المنة الكبرى شرح وتخريج السنن الصغرى للبيهفي 3/119 رواية رقم: 1196، سنن البيهقي الكبرى 4/128 رواية رقم: 7196.
(6) المستدرك على الصحيحين 1/531 رواية رقم: 388.
(7) المستدرك على الصحيحين 1/532 رواية رقم: 1392.
(8) المستدرك على الصحيحين1/532 رواية رقم: 1394.
(9) المستدرك على الصحيحين 1/532 رواية رقم: 392، سنن البيهقي الكبرى 4/131 رواية رقم: 7207.
(10) مسند أحمد بن حنبل 2/111-112 رواية رقم: 1235.
(11) الكافي 2/80-81.
(12)المغني 3/517.
(13) المغني 3/517-518 .
(14) دليل الطالب صفحة 63 .
(15) زاد المستنفع صفحة 28 .
(16) الإقناع1/208.
(17) مغني المحتاج1/542-543 .
(18) السراج الوهاج صفحة 115.
(19) التنبيه صفحة 37.
(20) روضة الطالبين 1/656-657.
(21) نهاية الزين صفحة 164.
(22) نور الإيضاح صفحة 66.
(23) بدائع الصنائع 1/320.
(24)منة المنعم في شرح صحيح مسلم 2/77.
(25)معرفة الآثار والسنن 5/350.
(26) المنة الكبرى 3/120.
(27)إلاّ مسجد الكوفة وحائر الحسين «عليه السلام» فقد ورد في فضلهما أحاديث كثيرة.
(28) الوهابية في الميزان صفحة 151-152.
(29) الصلات والبشر صفحة 127.
(30) المقالات السنية صفحة 99 ، نقله عن حاشية ابن حجر على شرح الإيضاح.