عصمة الأئمة الأثني عشر
بقلم : العلامة الشيخ جعفر السبحاني
العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجبا، ولا يفعل محرما مع قدرته على الترك والفعل، وإلا لم يستحق مدحا ولا ثواباً. وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حداً لا تتغلب عليه الشهوات والاهواء، وبلغ من العلم في الشريعة واحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبدا.
وليست العصمة شيئا ابتدعته الشيعة ، وإنما دلهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنة رسوله . أما الكتاب فقد قال فيه سبحانه :إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذهاب الرجس والتطهير يعني العصمة في معناها العريض.
ومن الأدلة على عصمة أهل البيت عليهم السلام قول النبي صلّى الله عليه وآله: عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار. فان الحق لا يجتمع مع الخطأ والعصيان؛ إذن عليّ عليه السلام لا يمكن أن يخطأ أو يعصي وهذا مؤدي العصمة.
وقال صلّى الله عليه وآله في حق العترة : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً فالقرآن بإجماع الأمة معصوم؛ لأنه وحي إلهي والعترة عدل القرآن إذن هي معصومة.
والمراد من أهل البيت عليه السلام هم علي وفاطمة والحسن والحسين لا غير.
روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت : إن هذه الآية نزلت في بيتي: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله، ألست من أهل البيت ؟ فقال: إنك إلى خير، أنت من أزواج رسول الله. قالت: وفي البيت رسول الله عليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين فجللّهم بكسائه وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً.
روى أيضا عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم. دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال: اللهم هؤلاء أهلي.
وروى أيضا عن انس بن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج الى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر، يقول : الصلاة أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
وروى مسلم : قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم إلى زيد بن ارقم ، فلما جلسنا اليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسمعت حديثه ، ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله. قال : يا بن أخي ، والله لقد كبرت سني ، وقدم عهدي ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا فلا تكلفونيه . ثم قال : قام رسول الله صلّى الله عليه وآله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما، بين مكة والمدينة ، فحمد الله واثنى عليه ، ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به . فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، اذكّركم الله في أهل بيتي ، اذكّركم الله في أهل بيتي ، اذكّركم الله في أهل بيتي.
فقلنا : من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال : وايم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها ، فترجع إلى أبيها وقومها . أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. روى المحدثون عن النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله أنه قال: إنما مثل أهل بيتي في امتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.
فشبّه صلوات الله عليه وآله أهل بيته بسفينة نوح في أن من لجأ اليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار ومن تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أن ذلك غرق في الماء وهذا في الحميم.
نقل ابن حجر في صواعقه: ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظّمهم شكرا لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدى علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان.
ومما يدل على عصمة الامام على وجه الاطلاق قوله سبحانه: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم.
فإن الله سبحانه أمر بطاعة أولى الأمر على وجه الاطلاق ، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.
ونقل أن من البديهي أنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداء من دون تدخل أمر آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اولي الأمر : فمقتضى الجمع بين هذين الامرين ، أعني وجوب إطاعة اولي الأمر على وجه الاطلاق ، أن يتصف اولوا الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الاطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية الهية ربانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ، وليس هذا إلا عبارة اخرى عن كونهم معصومين ، وإلا فلو كانوا غير واقعين تحت العناية ، لما صح الامر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صح الامر بالطاعة بلا قيد وشرط ، فيستكشف من اطلاق الامر بالطاعة اشتمال المتعلق على خصوصية تصده عن الامر بغير الطاعة.
وممن صرح بدلالة الآية على العصمة الرازي في تفسيره قال: إن الله تعالى أمر بطاعة اولي الامر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن امر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد امر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الامر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من امر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن اولي الأمر المذكورين في هذه الآية لابدّ وأن يكونوا معصومين.
والحمد لله رب العالمين الذي أنعم علينا بنعمة الولاية لأوليائه المعصومين المكرمين.