لا عجلة في التعذيب (*)
{وربك الغفور ذو الرحمة، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلًا} (1).
الآية الكريمة واحدة من آيات قرآنية كثيرة تدور حول محور العلاقة بين الرب الخالق وعباده، و"الرب في الأصل التربية" كما ذكر الراغب الأصفهاني (2)، فالله سبحانه وتعالى يستهل هذه الآية المباركة بوصف ذاته المقدسة بصفة التربية لعباده، فهو المربي. وهو "الغفور"، وهذه صيغة مبالغة من "غفر" بمعنى ستر وأخفى. وهو أيضًا "ذو الرحمة"، وقد اختلف المفسرون في نوع أداة التعريف (أل) التي في "الرحمة"، أهي للجنس كما قال بعضهم؟ فعلى هذا يكون "ذو الرحمة" أشمل من "الرحمن" ومن "الرحيم" في الدلالة على الرحمة، إذ أنها تدل على كل ما يدخل تحت جنس الرحمة، أم هي للعهد كما قال آخرون؟ فيكون المعنى: صاحب الرحمة الواسعة التي تعرفونها وتعهدونها.
هذا الرب الغفور ذو الرحمة ليس عجولًا في تعذيب عباده على الرغم من استحقاقهم للعذاب، ولو أنه كان كذلك لآخذهم بأعمالهم وما جنته أيديهم، ولكانت النتيجة أن ينالهم العذاب الإلهي عاجلًا غير آجل، لكنه يؤجلهم إلى {موعد لن يجدوا من دونه موئلًا}. هذا الموعد الإلهي ذهب معظم المفسرين إلى أنه يوم القيامة، واحتمل بعضٌ الموعد الدنيوي أيضًا، فقال إنه يوم بدر. وفي هذا الموعد المحدد سينال هؤلاء ما يستحقون، من دون أن يكون لهم أي ملجأ أو منجى (موئل) يمكنه حمايتهم أو تخليصهم مما هم فيه.
وثمة في الآية الكريمة فوائد يحسن بنا التوقف عندها:
الفائدة الأولى:
المربي الأعظم وصف نفسه المقدسة بأنه "غفور" و"ذو الرحمة"، وهذا يشير إلى صفة مهمة جدًا يحتاج إليها أي مربٍّ يريد لتربيته أن تكون ذات أثر ومفعول حقيقي، هذه الصفة هي الرفق. فمهما كانت نيتنا في تربية أولادنا ومن يعنينا شأنهم صادقة مخلصة، ومهما كانت جهودنا في المجالات التربوية حثيثة وجادة، فإنّ هذا كله لن يؤتي أكله وينتج ثماره إلا إذا كان معه الرفق والتيسير والتعامل السلس الذي لا يختار الشدة والعنف، ولا يلجأ إلى الوسائل الشديدة والعنيفة إلا في حالات الضرورة. فالأصل في التربية هو الرفق واليسر والتسهيل، وفي هذا المجال ينبغي لنا أن نتأمل جيدًا حديث رسول الله (ص): "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه" (3)، وحديثه الآخر: "إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم باب رفق" (4).
الفائدة الثانية:
يُلاحظ في ترتيب ألفاظ الآية المباركة أنّ صفة المغفرة قد تقدم ذكرها على صفة الرحمة؛ ذلك أنّ التنظف والتطهر من الذنوب لا بد أن يسبق نزول الرحمة، فالذنوب هي بمنزلة القاذورات التي لا ريب أنّ إزالتها من البيت مثلًا تتقدم على ملء ذلك البيت بصنوف العطور والروائح الجميلة، وبعبارة أهل العرفان فإنّ التخلية لا بد أن تسبق التحلية.
ومعنى هذا أننا إذا أردنا لرحمة الله أن تنزل علينا وتشملنا فإنّ علينا، أولًا، أن نفعل ما يستوجب لنا مغفرته، فمغفرته مقدمة على رحمته، أي أنّ علينا أن نلجأ إلى الاستغفار. لكن النصوص الشرعية الواردة في المقام علّمتنا أنّ الاستغفار ليس مجرد لقلقة لسانية نرددها وينتهي الموضوع، فعلى المستغفر أن يجعل كل سلوكه وأعماله متناسقة مع استغفاره اللساني، وحينئذ سيكون استغفاره حقيقيًا، بل سيكون خير الاستغفار كما عن رسول الله (ص): "خير الاستغفار عند الله الإقلاع والندم" (5).
وحقًا لا يبقى للاستغفار أي معنى إذا كان المستغفر لا يني يعود إلى ذنبه ومعصيته متناسيًا استغفاره وراءه ظهريًا، فهو في فعله هذا أشبه ما يكون بمن يستهزئ – والعياذ بالله – من ربه العظيم. وهذا ما صرّح به الإمام علي بن موسى الرضا (ع) إذ قال: "المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه"(6).
الفائدة الثالثة:
أن نتعلم من الآية الشريفة كيف نمهل المخطئ، ولا نتعجل في معاقبته، على الرغم من استحقاقه العقوبة، فالآية تصرح بأنّ هؤلاء قد كسبوا بأعمالهم ما يجعلهم مستحقين للعقوبة الإلهية {لو يؤاخذهم بما كسبوا...}، ومع هذا فرب العزة لا يعجّل لهم العذاب، فلعلهم بعد كسبهم هذا يعودون إلى رشدهم، أو يعود الرشد إليهم، فيغيّرون من سلوكهم ويختارون غير السبيل الذي كانوا يسلكونه. إنّ علينا، إذن، ألّا ننبري لمعاقبة الناس من فورنا، مهما وجدناهم مستحقين لذلك، بل نمهلهم، فلعلّ الله يُحدث بعد ذلك فيهم أمرًا، فعن الإمام الحسن المجتبى (ع) أنه قال: "لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقًا" (7). وهذا في الحقيقة نمط من أنماط مداراة الناس التي حثّنا الإسلام عليها إلى الدرجة التي عبّر عنها سيد الكائنات محمد (ص) بقوله: "إنّا أُمرنا معاشرَ الأنبياء بمداراة الناس كما أُمرنا بأداء الفرائض" (8).
الفائدة الأخيرة:
الإمهال في المؤاخذة ليس يعني ترك هذه المؤاخذة من أساس وإهمالها بصورة كاملة، فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، والآية الشريفة تحدثت عن الإمهال في العقوبة، لكنها مع ذلك اختتمت بوعيد قوي الوقع: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلًا}.
إنّ إهمال المؤاخذة رأسًا وبصورة كاملة يُظهر صاحب الحق في صورة الضعف والهوان، وقد يدعو هذا الوضع الطرفَ المخطئ إلى أن يتمادى في خطئه ويستمر فيه. يظهر هذا بجلاء في تعاملنا مع الأطفال، فالرفق بهم مطلوب، وهو القاعدة الأصلية، لكن ترك مؤاخذتهم دومًا سيجعلهم يشعرون بالتدليل الزائد على الحد، وسيدعوهم هذا إلى إهمال مسؤولياتهم والتمادي في تمردهم على الوالدين، ومن ثَمّ الانفلات والابتعاد عن الطريق القويم.
وغني عن البيان أنّ المؤاخذة المطلوبة ليس المطلوب فيها أن تكون متمثلة بالضرورة في العنف والقسوة، فالمهم أن تكون ثمة مؤاخذة، وللوالدين والمربين بعدئذ مجال فسيح للتفكير في طريقتها المثلى التي تقود إلى النتائج المطلوبة.
وما ينطبق على الحياة الاجتماعية لأفراد المجتمع، ينطبق أيضًا على حياة الأمة كلها. فالأمة التي ديدنها أن تُغفل الأخطاء المرتكبة في حقها، وأن تتنازل دومًا عن حقوقها أمام الأمم المستكبرة والمتغطرسة، سوف تداس بالأقدام، ولن يكون لها موقع في ركب الحضارات المتقدمة، مثلما قال المتنبي قديمًا:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام
وقبله كان الإمام علي بن أبي طالب (ع) قد قال: "من قلّ حزمه، ضعف عزمه"(9).
الرفق المطلوب، إذن، هو الرفق المقترن بوجود مصلحة سامية فيه، والإمهال المدعو إليه هو الإمهال المشتمل على إبقاء العزة وإظهار الكرامة، دونما تنازل عن الحق أو تشجيع على الباطل والغيّ.
_______________________
(*) المصدر كتاب "الإنسان والحياة.. نظرات قرآنية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.
(1) سورة الكهف، الآية 58.