التقوى والنظر لغد (*)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدّمت لغد، واتقوا الله، إنّ الله خبير بما تعملون} (1).
تبتدئ الآية الكريمة بمخاطبة المؤمنين مستعملةً الاسم الموصول مع صلته (الذين آمنوا) لتشير إلى أنّ الحالة الإيمانية هي التي ينبغي أن تحرّك أصحابها المتصفين بها، رجالًا كانوا أم نساءً، صوب تحقيق كل ما يريده ربهم منهم، فهذا مقتضى الإيمان الصحيح الحقيقي. وتأتي التقوى في مقدمة ما هو مطلوب من كل مؤمن، وهي من الوقاية، أي أن نقي أنفسنا العذاب الإلهي بالإتيان بما أمرنا به وترك ما نهانا عنه، وقد سُئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن التقوى فقال: "أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك" (2).
وفي المقطع الثاني، تعرض الآية أمرًا ثانيًا – باستعمال صيغة الفعل المضارع المقرون بلام الطلب – فتطالب بالنظر إلى أعمالنا التي عملناها في دنيانا وقدّمناها لغد، أي ليوم القيامة، والتعبير عنه بالغد فيه إشارة إلى قرب وقوعه، فهو كاليوم الآتي بعد يومنا هذا.
والملاحظ هنا أنّ كلمة "نفس" جاءت نكرة، فما دلالة هذا التنكير؟ ذهب العلامة الطباطبائي إلى أنه يفيد التقليل، وبذا يكون في الآية الشريفة لوم وتوبيخ للمؤمنين على عدم نظرهم لغد (3)، لكن الشيخ ناصر مكارم الشيرازي اختار غير هذا، فمال إلى أنّ التنكير في الآية يفيد العموم، أي أنّ على كل إنسان أن يفكر في غده ويعمل له، دون أن ينتظر من الآخرين أن ينجزوا له شيئًا أو يؤدوا بالنيابة عنه عملًا (4).
ثم يعود المقطع الثالث من الآية فيطالب بتقوى الله، فما سرّ هذا الرجوع إلى التقوى؟ أتكرار هذا أم طلب شيء جديد؟ فإنْ كان تكرارًا فما غرضه؟ وإنْ كان الاحتمال الآخر فما حقيقته؟
أجاب المفسرون بمجموعة من الإجابات، لعلّ أهمها:
1- في الآية تكرار، وهو يهدف إلى التأكيد والتقوية وزيادة التنبيه على أهمية التقوى في الحياة وضرورتها.
2- الأمر الأول بالتقوى هو لطلب التوبة عن الذنوب الماضية، والأمر الآخر هو لطلب ترك الذنوب في المستقبل.
3- الأمر الأول يدعو إلى أداء الواجبات، والآخر يطالب بترك المحرّمات.
4- الأول ناظر إلى الأعمال في أصلها، أي لا بد أن نكون متّقين في أعمالنا، والأمر الآخر ناظر إلى ضرورة الإخلاص في تلك الأعمال.
5- الأمر الأول هو لطلب التقوى في الأعمال، بالإتيان بالواجبات وترك المحرمات، في حين أنّ الأمر الآخر هو لطلب التقوى في مقام محاسبة الذات، بمعنى أنّ المطلوب أن تكون محاسبتنا لنفوسنا دقيقة ومخلصة ومراعية لجانب التقوى في النظر لغد.
وقد اختلف المفسرون في بيان نوع "ما" في {ما قدّمت لغدٍ}، فمنهم من مال إلى كونها استفهامية، ومنهم من رجّح أنها موصولة، ومنهم من احتمل الوجهين.
ومهما يكن من أمر، فإنّ في الآية محاور للتأمل والاستفادة:
المحور الأول:
على المؤمنين أن يشمّروا عن سواعد جدّهم، ويبذلوا كل ما في وسعهم، بهدف الوصول بإيمانهم إلى مرحلة التقوى، فبهذا يحققون ما يريده ربه منهم وينالون غاية رضاه، فقد روي عن الإمام علي (ع) قوله: "أوصاكم بالتقوى وجعلها منتهى رضاه" (5).
إنّ التقوى هي التي تجعل من إيمان المؤمن إيمانًا فاعلًا مؤثرًا، يحرك صاحبه نحو ما يريده الله منه، ويمنعه عن كل ما لا يرضيه سبحانه؛ لذا قال علي (ع): "سبب صلاح الإيمان التقوى" (6).
المحور الثاني:
لا بد للمؤمنين من أن يعوا أهمية التخطيط للمستقبل والتفكير الواعي بشأنه، فبدونه لا يمكن للحياة أن تتطور ولا مجال للأهداف كي تتحقق. صحيح أنّ كلمة "غد" في الآية هي بمعنى يوم القيامة، مثلما تقدم، لكنها في رأي بعض المفسرين (7) تحمل مفهومًا أوسع، فهي تدل على كل ما هو آتٍ، ولو في هذه الحياة الدنيا.
وإنّ من نفل القول: إنّ فردًا لا يخطط لمستقبله لن يصل إلى أية نهاية سعيدة، وإنّ أمة تتخبط في سيرها دونما رؤية واضحة لما هو آتٍ لن يكون في وسعها أن تشق طريقها نحو تحقيق غاياتها وطموحاتها.
واللافت للنظر هنا أنّ الآية الشريفة لم تكتف بالتنبيه على ضرورة التخطيط للمستقبل حتى بيّنت بعض مواصفات هذا التخطيط المطلوب، فهو:
أ- لا ينسى الماضي ولا يتناساه، بل يستحضره بين يديه؛ ليعتبر منه، مستفيدًا نقاط الضعف ومواضع القوة التي كانت. وهذه الصفة مستفادة من التعبير بصيغة الفعل الماضي "قدّمت" في قوله تعالى: {ولتنظر كل نفس ما قدّمت لغد}.
إنّ الاستحضار الواعي للماضي يعني وجود محاسبة دقيقة هادفة، في مستوى الفرد ومستوى الأمة، مما يستلزم وجود إبقاء للإيجابيات واستزادة منها في المستقبل مع حرص أكيد على التخلص من السلبيات السابقة والعزم على عدم الوقوع في براثنها مجددًا. عن الإمام موسى الكاظم (ع) أنه قال: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنًا ازداد لله شكرًا، وإن عمل سيئًا استغفر الله وتاب إليه" (8).
ب - يراعي الإمكانات الموجودة والقابليات المتاحة في الواقع المعيش، فهو لا يقوم على أساس من الأحلام المثالية المحلّقة في سماوات الخيال الخصب والأمنيات البعيدة عن عالم الواقع. وهذا مستفاد من تعبير الآية بالتقديم في :{ما قدّمت لغد}، فالتقديم يعني التحقق الفعلي الذي لا يمكن أن يكون إلا مستندًا إلى ما في الواقع من مواصفات وإمكانات.
والحقّ أنّ الواقع المبني على التقوى لن يكون عند الله تعالى إلا كبيرًا كثيرًا، مهما بدا للناس – نتيجة مادية نظراتهم القاصرة – صغيرًا قليلًا. هذا ما أكده رسول الله (ص) حين قال: "لا يقلّ عمل بالتقوى، وكيف يقلّ عمل يُتقبل؟" (9).
المحور الأخير:
يلاحظ في الآية المباركة أنّ الأمر بالتخطيط للغد قد وقع بين أمرين اثنين بالتقوى، وقد استفاد بعض المفسرين (10) من ذلك أنّ هذا التخطيط للغد ينبغي أن ينطلق من التقوى وينتهي إليها، فالانطلاق من التقوى معناه ألّا نخطط إلا بما يرضي الله تعالى ويحقق في الواقع الخارجي الأهداف الإلهية السامية التي من شأنها أن تسعد البشر وتحقق لهم التكامل والرفعة في المجالات كلها، فلا نكون في تخطيطنا منساقين وراء أهوائنا، ومسببين الفتنَ والقلاقل في الأمة، فعن الإمام أمير المؤمنين علي (ع): "أمنع حصون الدين التقوى" (11).
والانتهاء إلى التقوى يعني أنّ تخطيطنا ينبغي أن يكون بنحوٍ يحرك الناس والمجتمع والأمة نحو الاستزادة من التقوى في كل الشؤون الفردية والجماعية؛ ذلك أنّ التقوى ليس لها حد تنتهي إليه ولا تتجاوزه، فكلما قطع المرء والمجتمع منها شوطًا انفتحت أمامهما آفاق تليها آفاق، وكل هذا لن يكون متاحًا السير نحوه ومحاولة الوصول إليه إلا بتخطيط واعٍ هادف يتوخى التقوى ويستهدفها.