الإمام علي أعلم الأمّة (*)
عن سلمان «رضي الله عنه» قال: «قلت يا رسول الله لكل نبي وصيّ، فمن وصيّك؟ فسكت عنّي، فلمّا كان بعد رآني فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه قلت لبيك، قال: تعلم من وصيّ موسى؟ قلت: نعم يوشع بن نون. قال: لم؟ قلت: لأنه كان أعلمهم. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب» (1).
قلنا سابقًا أنّ هذه الرّواية تدل على أنّ وصيّ النبي والإمام القائم مقامه وخليفته على أمته يلزم أنْ يكون أعلم أهل زمانه، بدليل أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لما أنْ سأل سلمان «رضي الله عنه» عن سبب جعل يوشع بن نون وصيًّا لموسى «عليه السلام» أجابه بأنّ يوشع كان أعلمهم، أي أنّه كان أعلم أهل زمانه، وقد أقرّه النبي «صلى الله عليه وآله» على جوابه هذا، وإذا رجعنا إلى التاريخ وبحثنا عن أعلم النّاس من بين المسلمين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» في تلك الحقبة من الزّمن، في حياة النبي «صلى الله عليه وآله» وبعد وفاته وجدنا أنّ الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» أعلمهم جميعًا، والأدلّة على ذلك كثيرة جدًّا، وسأنقل لكم في حديثي هذا العديد من هذه الأدلة مما ورد من جهة الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وجهة أهل السنة، ومن هذه الأدلّة ما ورد في الرّواية الصحيحة عن بريد بن معاوية قال: «قلت لأبي جعفر «عليه السلام»:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2)، قال: إيّانا عنى، وعليٌّ أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله» (3).
وفي رواية صحيحة أخرى عن أبي بصير أنّه سأل الإمام الصادق «عليه السلام» عن قول الله عزّ وجل: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} هو علي بن أبي طالب «عليه السلام»؟، قال: فمن عسى أنْ يكون غيره» (4).
أكثركم إنْ لم نقل كلّكم قد سمع بقصة آصف بن برخيا مع النبي سليمان «عليه السلام»، وكيف أنّه جاء له بعرش بلقيس في لحظة هي أقل من طرفة عين، لما كان يتمتّع به من مرتبة عالية من العلم والمعرفة، فهو لا يملك علم الكتاب كلّه بل مقدارًا منه، قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (5)، فـ «من» في قوله تعالى: {عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} تبعيضيّة، أي أنّ آصف بن برخيا عنده بعض علم الكتاب، فإذا كان آصف عنده هذا العلم اليسير من الكتاب، بحيث كانت له هذه القدرة التي هي نوع من الولاية التكوينيّة فاستطاع أنْ يأتي بعرش ملكة سبأ من تلك المسافة البعيدة الشاسعة، وفي جزء بسيط جدًّا من الزّمن لا يتعدّى لمح البصر، فكيف بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» الذي عنده علم الكتاب كاملًا؟
هذا العلم يجعل للفرد قدرة على التّصرّف في الأمور الكونية بإذن الله عزّ وجل، وهو علم وهبه الله تعالى لخاصة من عباده لما لهم من منصب إلهي كمنصب النبوّة والإمامة، زوّدهم به كل واحد منهم بمقدار ما أراد الله له من هذا العلم، فكان لأمير المؤمنين «عليه السلام» النّصيب الأوفر منه، ولم يثبت بدليل صحيح معتبر أنّ أحدًا من أصحاب النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد أعطي مثل هذا العلم الذي خص الله سبحانه وتعالى به وليّه علي بن أبي طالب «عليه السلام»، نعم قامت الأدلّة عندنا أنّ بقية الأئمة الإثني عشر من أهل البيت «عليهم السلام» قد وهبهم الله سبحانه وتعالى ما وهب جدّهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأمير المؤمنين «عليه السلام» من علم.
إنّ علم الإمام علي «عليه السلام» هو علم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقد ورث أمير المؤمنين علم النبي الأكرم، والنصوص والرّوايات الدّالة على ذلك رواها الفريقان سنة وشيعة، ومما ورد من طرق أهل السنة، ما روي عن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» أنّه قال: «... والله إنّي لأخوه ووليه، وابن عمه، ووارث علمه، فمن أحق به مني» (6).
ومما ورد من طرق الشيعة ما عن الإمام الباقر «عليه السلام» أنّه قال: «فلمّا قضى محمد «صلى الله عليه وآله» نبوّته، واستكملت أيّامه، أوحى الله إليه، يا محمد قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك، فاجعل العلم الذي عندك والأيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوّة في أهل بيتك عند علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فإنّي لم أقطع علم النبوّة من العقب من ذرّيتك، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء» (7).
ولا شكّ أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» كان علمه علمًا لدنيًّا وواسعًا، فقد أثر عنه أنّه قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلاّ الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (8)» (9).
وفي رواية أنّه «صلى الله عليه وآله» قال: «أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}» (10).
وأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بأعلمية الإمام علي «عليه السلام» وأنّه باب مدينة علمه، فقد أثر عنه أنّه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب» (11).
وفي هذا الحديث دلالة على أنّ الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» عالم بعلم رسول الله «صلى الله عليه وآله» فلو أنّه لم يكن كذلك لما جعله النبي «صلى الله عليه وآله» بابًا لمدينة علمه، وأرشد النّاس لأخذ علمه من جهة علي «عليه السلام» وبواسطته.
وصرّح بأعلميته على الجميع لابنته فاطمة الزهراء «عليها السلام» عندما قال لها: «يا فاطمة أما ترضين أنّي زوجتك خير أمتي، أقدمهم سلمًا، وأكثرهم علمًَا، وأفضلهم حلمًا؟» (12).
ومن الأخبار الدّالة على أنّه «عليه السلام» تلقّى من النبي «صلى الله عليه وآله» علومًا كثيرة ما ورد عن الإمام أبي جعفر «عليه السلام» قال: «إنّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» علّم عليًّا ألف حرف، كل حرف يفتح ألف حرف، والألف حرف يفتح ألف حرف» (13).
وتدل هذه الرّواية على أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» علمّ الإمام عليًّا «عليه السلام» أصول وأسس الكثير من العلوم والمعارف، وجعل بيده مفاتيحها بحيث أنّه يستطيع بواسطة هذه الأصول والأسس والمفاتيح أنْ يعلم الكثير من الأمور ويهتدي إلى الكثير من الحقائق.
وصرّح «عليه السلام» مرارًا وتكرارًا بالقول «سلوني قبل أن تفقدوني»، وروى بعض علماء أهل السّنة وبأسانيد صحيحة عندهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أنّه سمع الإمام عليًّا «عليه السلام» يقول: «سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدّثتكم به، وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم بسهل أم بجبل» (14).
وكيف لا يكون «عليه السلام» عالمًا حقيقة العلم بآيات كتاب الله المجيد وهو الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عنه بأنّه يقاتل على تأويل القرآن الكريم كما قاتل النبي على تنزيله، قال الصحابي أبو سعيد الخدري: «كنّا مع النبي «صلى الله عليه وآله» فانقطعت نعله، فتخلّف علي يخصفها، فمشى قليلًا ثمّ قال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النّعل، يعني عليًّا، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنّه سمعه من رسول الله «صلى الله عليه وآله»» (15).
فهذه الرّواية تدل على أنّه «عليه السلام» كان عالمًا تمام العلم بالقرآن الكريم وعارفًا معرفة تامة بتأويله، فلو لم يكن كذلك لما صحّ أن يقال عنه بأنّه يقاتل على تأويل القرآن.
ولم يكن علمه «عليه السلام» بالكتب السماوية منحصرًا بالقرآن الكريم، وإنّما كان عالمًا أيضًا بكتب الأنبياء السالفين كالتوراة والإنجيل، فهناك رواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» يقول فيها، أنّ الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «لو ثنى النّاس لي وسادة كما ثني لابن صوحان لحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتّى يزهر ما بين السماء والأرض، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتّى يزهر ما بين السماء والأرض، ولحكمت ما بين أهل الفرقان بالفرقان حتّى يزهر ما بين السّماء والأرض» (16).
وهذه الأهلية للحكم بين أهل التوراة بأحكام التوراة وأهل الإنجيل بأحكام الإنجيل، وأهل القرآن بما ورد في القرآن الكريم من أحكام تكشف عن علم ومعرفة بما تضمنته هذه الكتب السماوية من أحكام وأدلّة عليها، فلو لم يكن له هذا العلم والمعرفة لما كانت له أهلية الحكم بها.
وبثبوت أنّه «عليه السلام» أعلم الجميع من أهل زمانه في فنون العلوم المختلفة لا سيما العلم التام والمعرفة الحقيقية وحسب الواقع بمعارف الشريعة الإسلامية الغراء وأحكامها وكافة تعاليمها، وأنّ علمه بذلك علم لدنّي، حيث لم يثبت أنّه تلقى هذه العلوم عن أحد سوى عن نبي الإسلام «صلى الله عليه وآله»، ومن طريق الإلهام والتحديث حسب ما صرّحت به النّصوص المأثورة عن أبنائه الطاهرين من أئمة أهل البيت «عليهم السلام»، وقيام الدّليل على أنّ الأعلم هو الأحق بتولي منصب الخلافة والإمامة، ثبت أنّه هو الوصي لرسول الله «صلى الله عليه وآله» على أمته، والقائم مقامة في الولاية عليها.
_____________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج 1" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) الطبراني، المعجم الكبير 6/221.
(2) الرّعد: 43.
(3) الكليني، الكافي 1/229.
(4) الصّفار، بصائر الدّرجات، صفحة 235.
(5) النّمل: 40.
(6) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/136، رواية رقم: 4635.
(7) الكليني، الكافي 1/293.
(8) لقمان: 34.
(9) الهيثمي، مجمع الزّوائد 8/263، وقال: «رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح».
(10) نفس المصدر السابق.
(11) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/13، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(12) المجلسي، بحار الأنوار 38/19.
(13) الصّدوق، الخصال، صفحة 648 - 649.
(14) يوسف القرطبي، جامع بيان العلم وفضله 1/464، رواية رقم: 726.
(15) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/132، رواية رقم: 4621.
(16) الصّفار، بصائر الدرجات، صفحة 136 - 137.