الفقر الإنساني والغنى الإلهي (*)
{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد} (1).
تتوجه الآية الكريمة بخطابها إلى الناس كافة، مذكّرة إياهم بأنهم الفقراء إلى الله (جلّ وعلا)، وهي هنا لا تقول: أنتم فقراء، بل تقول: {أنتم الفقراء} مستعملةً أسلوب القصر كما يقول البلاغيون، أي أنّ الفقراء هم أنتم أيها الناس، لا سواكم.
وفي مقابل صورة الفقر هذه، تعرض لنا الآية الصورة المقابلة: {والله هو الغني الحميد}، وهنا أيضًا لم تقل: والله غني حميد، بل لجأت إلى أسلوب القصر مرة أخرى؛ لتبيّن أنّ الغنى والحمد الواقعيين مقصوران على الله (جلّت قدرته).
ونتوقف في رحاب هذه الآية الشريفة عند بضعة أسئلة:
السؤال الأول:
هل ثمة ما اقتضى بيان حقيقة فقرنا وغنى الله سبحانه هنا في هذه الآية الشريفة تحديدًا؟ ما مناسبة الإتيان بهذا في هذا الموقع بعينه؟
ذكر المفسرون، في مقام الجواب، إجابتين اثنتين:
أ- المقتضي هنا مقتضٍ مقامي؛ ذلك أنّ المقام هو مقام مخاطبة المكذبين الذين كانوا يرون أنّ الله محتاج إليهم؛ لذا يبعث إليهم بالأنبياء والمرسلين. فهذا المقام قد اقتضى الرد على أوهامهم الفاسدة ببيان أنهم الفقراء حقًا إلى ربهم، وأنه سبحانه هو الغني الحميد (2).
ب- المقتضي لذلك سياقيّ، فالآية الكريمة جاءت بعد مجموعة من الآيات الداعية إلى توحيد الله وعدم الإشراك به، ولعلّ تلك الآيات تستثير في أذهان بعض الناس سؤالًا عن سر هذا الاهتمام الإلهي من دعوة الناس إلى توحيده وعبادته، فهل يرجع ذلك إلى حاجته – سبحانه – إلى الناس وعبادتهم؟ هذا السياق، بلحاظ السؤال المنبثق عنه، استدعى أن تتحدث آيتنا عن فقر الناس وغنى الرب (3).
السؤال الثاني:
لماذا استعملت الآية الكريمة أسلوب القصر في ربطها الفقر بالناس؟ مع أننا نعلم جيدًا أنّ كل موجودات هذا الكون، بلا استثناء، هي مفتقرة إليه سبحانه.
أجاب المفسرون عن ذلك بإجابات عدة، أهمها:
أ- الكلام وإن بدا في ظاهره مختصًا بالناس، هو في واقعه عام، بدلالة عموم التعليل، فالعلة في فقر الناس إلى الله هو كونه سبحانه خالقهم ومدبر أمورهم، وقد أشارت الآية إلى العلة بذكر لفظ الجلالة حين الحديث عن فقرهم، وبتوصيفه سبحانه بأنه الحميد، أي المحمود في فعله وهو الخلق والتدبير، وكذلك أشارت إلى العلة نفسها الآية اللاحقة: {إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد} (4)، فهي أيضًا تتحدث عن الخلق والتدبير.
وما دامت هذه العلة عامة لكل المخلوقات، وليست مختصة بالإنسان وحده، فهذا معناه أنّ المدلول الحقيقي للآية مدلول واسع رحب، وإن كان اللفظ بظاهره متحدثًا عن الناس وحدهم (5).
ب- الإنسان – الذي هو سيد المخلوقات – إذا كان مفتقرًا إلى الله (جلّ اسمه)، فغيره من المخلوقات شأنه أوضح، فهو مفتقر من باب أولى، وهذا ما يُعرف بقياس الأولوية، وبه نفهم عدم خروج شيء من الموجودات من دائرة الافتقار إلى ربها (6).
ج- مقصود الآية هو المبالغة في بيان ضعف الإنسان وفقره، فكأنه لا فقير ولا ضعيف سواه، وكأنّ فقر سائر المخلوقات وضعفها كالعدم إذا ما قيست حالتها بحالة الإنسان. وبعبارة أخرى: فالآية لا تريد نفي الفقر عن المخلوقات الأخرى، وإنما تريد بيان أنّ فقر الإنسان أجلى وأشد من سواه.
د- الآية الكريمة إنما ذكرت "الناس" وحدهم من باب التغليب، أي تغليب الحاضر على الغائب، وتغليب العقلاء أولي العلم على غيرهم، فهذا لا يعني أنّ غيرهم ليس مرادًا في الآية. والتغليب أسلوب شائع في اللسان العربي، وهو إطلاق لفظ أحد المصطحبين على الآخر ترجيحًا له عليه، كما في تغليب الأب على الأم في قولهم: "أبوان"، وتغليب القمر على الشمس في "القمرين".
السؤال الأخير:
لماذا كل هذا الحرص القرآني على تأكيد حقيقة كوننا نحن البشر فقراء إلى الله تعالى، وكونه هو غنيًا عنّا؟ هل ثمة فوائد معينة للتذكير المكرر بهذه الحقيقة؟
يمكن أن يجاب عن هذا السؤال ببيان فوائد متعددة، أهمها:
أ- الفائدة الأهم والأعظم هي ربط هذا الإنسان بالله – جلّت قدرته – ربطًا حقيقيًا، فحين يتبيّن للإنسان فقره الحقيقي، وأنْ ليس عنده من ذاته إلا هذا الفقر، وأنّ كل المخلوقات الأخرى فقيرة وضعيفة مثله، فإنه لن يعالج هذا الفقر بالالتجاء إلى موجودات وأسباب لا تختلف عنه في الحاجة والفقر، بل سيلجأ إلى حيث يكمن الغنى الحقيقي، الغنى الذاتي الذي لا يحتاج ولا يفتقر إلى غيره على الإطلاق، سيلجأ إلى ربه الذي هو أصل كل الكمال والجمال، ولن يذل نفسه لغيره. وفي هذا يقول الإمام علي (ع): "الغنى بالله أعظم الغنى، الغنى بغير الله أعظم الفقر والشقاء" (7).
هذا، وقد عدّ جمع من الفلاسفة، كما نقل صاحب "الأمثل" (8)، هذه الآية الكريمة إشارة إلى برهان من البراهين العقلية الدالة على وجود الله سبحانه، وهو البرهان المعروف عندهم بـ "برهان الإمكان"، وخلاصته: إنّ الإنسان حينما يدرك أنه فقير ومحتاج، وأنه معلول في وجوده لعلّة خارج ذاته، فإنّ هذا سيدفعه إلى البحث عن تلك العلة الخارجية. ولمّا كان كل موجود من الموجودات الخارجية التي يجدها من حوله فقيرًا مثله، فإنه لا بد أيضًا أن يحتاج إلى علة من خارجه أوجدته، وإذا تتابعت القضية هكذا فإنّ الناتج النهائي لن يكون سوى مجموعة من الموجودات الفقيرة، وهذا لا يُنتج وجودًا وغنى؛ لأنّ منتهى الفقر هو الفقر، واجتماع مجموعة كبيرة من الأصفار لا يُنتج لنا عددًا صحيحًا.
ومعنى هذا، إذن، أننا لكي نتعقل تحقق الوجود لنا ولغيرنا من الموجودات (وهذا متحقق بالبداهة) فلا محيص عن الإيمان بوجود غنيّ بذاته، مستغنٍ عن غيره، وليس معلولًا لسواه، وهو الله (جلّ وعلا) (9).
ب- من الفوائد المهمة أن يعرف الإنسان قدر نفسه، فهو فقير وضعيف، بل هو الفقر والضعف، فبأيّ وجه يتكبر على غيره من الناس؟ وقد حذّر قادة الدين من هذه الحالة المرضية تحذيرًا شديدًا، فمن هذا مثلًا ما نقل عن الإمام أمير المؤمنين (ع) من قوله: "إياك والكبر، فإنه أعظم الذنوب، وألأم العيوب، وهو حلية إبليس" (10).
إنّ أنجع طريق لإبعاد الإنسان نفسه عن طريق الكبر هو بأن يذكّر نفسه بفقره وضعفه وحقارته، فبهذا يسحب دواعي الكبر والفخر والاختيال. قال الإمام محمد الباقر (ع): "عجبًا للمختال الفخور، وإنما خُلق من نطفة ثم يعود جيفة، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به" (11).
وهذا الطريق هو الذي لجأ إليه سلمان الفارسي (رضي الله عنه) في الموقف الآتي المنقول عنه: "وقع بين سلمان الفارسي – رحمه الله – وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولاي وأولاك فنطفة قذرة، وأما أخراي وأخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم" (12).
ج- ثمة أيضًا فائدة لا ينبغي لنا أن نغفل عنها، وهي الفائدة الاجتماعية. فالله – سبحانه – وصف نفسه في نهاية الآية بكونه {هو الغني الحميد} أي أنه الغني الذي استحق الحمد من مخلوقاته نظرًا لكونه أغدق عليها من غناه وأنعم عليها بنعمه التي لا تنقطع ولا تحصى. هكذا هو الغنى الممدوح في النظرة الإسلامية، حينما يتخذ الغني من مال الله الذي آتاه إياه وسيلة للتقرب إليه من خلال إنفاقه في طريق طاعته والاستزادة من تقواه بإعانة عباده الفقراء، فعن رسول الله (ص) أنه قال: "نعم العون على تقوى الله الغنى" (13).
الإسلام، إذن، يريد من الأغنياء أن يحسنوا التصرف في المال الذي تحت أيديهم؛ ليتحقق للمجتمع الإنساني الرخاء والاستقرار والبعد عن كثير من أسباب الشحناء والنزاع، وبذا يستحق الأغنياء كل المدح والثناء. ورد في بعض الروايات أنّ رجلًا ذكر الأغنياء بمحضر الإمام جعفر الصادق (ع) فنال منهم وتهجم عليهم، فما كان من الإمام (ع) إلا أن قال له: "اسكت، فإنّ الغنيّ إذا كان وصولًا لرحمه، بارًا بإخوانه، أضعف له الأجر ضعفين" (14).
___________________