من أدلّة إمامة الإمام علي .. حديث الغدير (*)
عديدة هي الوسائل التي بواسطتها يعرف الإمام الذي يكون حجة الله سبحانه وتعالى في أرضه على عباده، ومن هذه الوسائل النّص عليه من النبي أو الإمام الذي يسبقه، والإشارة إليه بشخصه وعينه، وتعريفه للنّاس بإسمه تمامًا كما فعل النبي «صلى الله عليه وآله» في غدير خم عندما نص على الإمام ومن له الولاية العامة المطلقة على المسلمين من بعده، وهو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فلما أنْ أنهى النبي «صلى الله عليه وآله» مناسك حجته التي عرفت بحجة الوداع أو حجة الإسلام، وهو في طريق عودته من مكة إلى المدينة هبط عليه الأمين جبرائيل «عليه السلام» بالآية المباركة {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (1)، فأبلغه عن الله سبحانه وتعالى بأن يقيم الإمام عليًّا «عليه السلام» خليفة له وإمامًا على المسلمين ووصيًّا له على أمته وأنْ يبلّغ للنّاس ولايته وفرض طاعته على كل مسلم. وكان ذلك في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة المباركة، في منطقة الجحفة بالقرب من غدير يعرف بغدير خم، وكان الوقت ضحى، فتوقف النبي «صلى الله عليه وآله» عن المسير، وأمر بردّ المتقدّم من النّاس وانتظر المتأخر منهم، فلمّا أنْ اجتمعوا جميعًا عنده وحان وقت صلاة الظهر، صلّى بهم في جوٍّ شديد الحرارة جدًّا، وبعد أنْ انتهى من الصلاة قام فيهم خطيبًا على منبر عمل له من أحداج الإبل، فخطبهم خطبة بليغة طويلة، ابتدأها بالحمد والثناء على الله عزّ وجل، ووجه في كلامه لمن حضر من المسلمين الكثير من النّصائح والمواعظ، ومن ثم نصّب الإمام عليًّا «عليه السلام» إمامًا على المسلمين، وجعل له من الولاية عليهم مثل ما له هو من الولاية عليهم، فكان مما قاله:
«إنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّي ميت وأنّكم ميتون، وكأنّي قد دعيت فأجبت وأنّي مسؤول عما أرسلت به إليكم، وعمّا خلّفت فيكم من كتاب الله وحجته وأنّكم مسؤولون، فما أنتم قائلون لربكم؟ قالوا: نقول: قد بلّغت ونصحت وجاهدت -فجزاك الله عنّا أفضل الجزاء- ثم قال لهم: ألستم تشهدون أنْ لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله إليكم؟ وأنّ الجنة حق؟ وأنّ النار حق؟ وأنّ البعث بعد الموت حق؟ فقالوا: نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد على ما يقولون، ألا وإنّي أشهدكم أنّي أشهد أنّ الله مولاي، وأنا مولى كل مسلم، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهل تقرون لي بذلك، وتشهدون لي به؟ فقالوا: نعم نشهد لك بذلك، فقال: ألا من كنت مولاه فإنّ عليًّا مولاه، وهو هذا.
ثم أخذ بيد علي «عليه السلام» فرفعها مع يده حتى بدت آباطهما: ثم: قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، ألا وإنّي فرطكم وأنتم واردون عليّ الحوض، حوضي غدًا وهو حوض عرضه ما بين بصرى وصنعاء، فيه أقداح من فضة عدد نجوم السماء، ألا وإنّي سائلكم غدًا ماذا صنعتم فيما أشهدت الله به عليكم في يومكم هذا إذا وردتم عليَّ حوضي، وماذا صنعتم بالثقلين من بعدي، فانظروا كيف تكونون خلفتموني فيهما حين تلقوني؟ قالوا: وما هذان الثقلان يا رسول الله؟ قال: أمّا الثقل الأكبر فكتاب الله عزّ وجل، سبب ممدود من الله ومنّي في أيديكم، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضى وما بقي إلى أنْ تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو علي بن أبي طالب وعترته «عليهم السلام» وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (2).
وفور انتهائه «صلى الله عليه وآله» من تنصيب الإمام علي «عليه السلام» وليًّا على المسلمين أنزل الله سبحانه وتعالى عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3)، ثم أمر «صلى الله عليه وآله» المسلمين بأنْ يبايعوا عليًّا ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، فتهافت الناس عليه يهنئونه ويباركون له، وكان من جملتهم أبو بكر وعمر، وكان عمر بن الخطّاب يقول له: «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».
ولم يرد النبي «صلى الله عليه وآله» من المولى في قوله: «مولاه» إلاّ الأولى بالتّصرّف، بدليل أنّه «صلى الله عليه وآله» أخذ الإقرار من ذلك الجمع من المسلمين على أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وذلك في قوله: «ألا وإنّي أشهدكم أنّي أشهد أنّ الله مولاي، وأنا مولى كل مسلم، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهل تقرون لي بذلك وتشهدون لي به؟» فلمّا أنْ أقرّوا له بذلك فقالوا: «نعم نشهد لك بذلك»، فرّع على ذلك وعطف عليه بقوله: «ألا من كنت مولاه فإنّ عليًّا مولاه»، فقطع بذلك الطريق على كل من يحاول أنّ يؤول معنى هذه اللفظة إلى معنى آخر غير المعنى الذي أراده «صلى الله عليه وآله» منها، وأثبت بذلك أنّ الولاية التي للإمام علي «عليه السلام» على المسلمين هي نفس الولاية التي له هو عليهم، لا فرق بين ولايتيهما، فكما أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» أولى بالتّصرّف في أمور وشؤون المسلمين من أنفسهم فكذلك أمير المؤمنين «عليه السلام» أولى بالتّصرّف في أمورهم وشؤونهم من أنفسهم.
فلو لم يرد النبي «صلى الله عليه وآله» من أخذه الإقرار من أولئك المسلمين على أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم أنْ يجعل ذلك قرينة على إرادة معنى واحد تعيّن عند السامعين من لفظة «مولاه» لأوضح مراده منها لكونها محتملة لأكثر من معنى، ولما لم يبيّن باللفظ معنى معيّنًا أراده منها علمنا أنّه لم يرد إلاّ معنى واحدًا وهو «الأولى بالتّصرّف» وجعل أخذ الإقرار منهم على كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم هو القرينة على ذلك، وأنّه بهذه القرينة أفهم السامعين أنّه أراد هذا المعنى فقط، فنحن نجلّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» -وهو البليغ- أنْ يأتي بكلام لا يبيّن من خلاله مراده منه لفظًا أو من خلال القرينة.
ولقد فسّر علماء أهل السّنة قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (4) بأنّ للنبي «صلى الله عليه وآله» الولاية العامة المطلقة على المسلمين، فهو المتصرّف في أمورهم وأولى بهم في كل شيء يخصّهم من أنفسهم، قال العلاّمة النسفي وهو من علماء أهل السنة ومفسّريهم: «{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي أحقّ بهم في كل شيء من أمور الدّين والدّنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ...» (5).
وقال العلاّمة أبو السّعود وهو أيضًا من علماء أهل السنة ومفسّريهم: «{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي في كل أمر من أمور الدّين والدّنيا كما يشهد به الإطلاق، فيجب عليه أنْ يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقّه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ...» (6).
ومثل قوليهما قاله غيرهم من المفسرين من أهل السنة.
والنبي «صلى الله عليه وآله» لم تكن له هذه الولاية العامّة المطلقة على المسلمين إلاّ لأنّه نبي ورسول وإمام، فإذا ثبت أنّ هذه الولاية أعطيت لأحد غيره من هذه الأمّة دلّ ذلك على أنّ من أعطيت له هذه الولاية هو القائم مقام النبي «صلى الله عليه وآله» في أمّته، وإذا ثبت أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» هو من جعلت له هذه الولاية كان ذلك دليلًا على أنّه هو المتولّي لأمور النّاس بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا غيره، له من الولاية على الأمّة ما للنبي من الولاية عليها.
وقد يقول قائل أنّه عليك لكي تستدل بهذه المقدّمة (7) أنْ تثبت أنّها متواترة، فنقول في جوابه:
أولًا: أنّ حديث الغدير حديث متواتر، ورود من طرق كثيرة جدًّا، وعلماء الشيعة مجمعون على تواتره، وأمّا علماء أهل السّنة فصرّح الكثيرون منهم بتواتره وكثرة طرقه، فذكر العلاّمة الذّهبي في كتابه تذكرة الحفّاظ أنّه رأى مجلّدًا لطرق حديث الغدير من جمع وتأليف المفسّر والمؤرّخ السّني المشهور ابن جرير الطبري، يقول الذهبي: «فاندهشت له ولكثرة طرقه» (8).
وقال العلّامة عمر بن أحمد بن شاهين: «... وقد روى حديث غدير خم عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نحو مائة نفس ومنهم العشرة (9)، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة، تفرّد علي بهذه الفضيلة لم يشركه فيها غيره» (10).
وقال ابن حجر العسقلاني: «وأمّا حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فقد أخرجه الترمذي والنّسائي وهو كثير الطرق جدًّا، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان» (11).
نعم إنّ أغلب من يقول من علماء أهل السنة بتواتر حديث الغدير إنّما يقصد تواتر عبارة «من كنت مولاه فعلي مولاه»، ولكن صحّ أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» قال غيرها من العبارات والكلام في نفس المناسبة، وذلك يكشف عن أنّ بعض الرّواة بتر من حديث النبي «صلى الله عليه وآله» بعض ما قاله في تلك المناسبة وروى بعضه فقط، فيكون الاستدلال بالمقدّمة المذكورة بقوّة الاستدلال بالعبارة التي صرّحوا بتواترها.
ثانيًا: إنّ المقدّمة المذكورة بالألفاظ التي ذكرناها أو بالألفاظ التي بمعناها وردت من طرق مستفيضة، بل هي متواترة، فبتتبع سريع في روايات حديث الغدير وجدت أنّها مروية من طريق ثلاثة عشر صحابيًّا، وهم: الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، زيد بن أرقم، أبو الطفيل عامر بن واثلة، سعد بن أبي وقّاص، عبد الله بن عبّاس، أبو هريرة الدّوسي، البراء بن عازب، حذيفة بن أسيد، حذيفة بن اليمان، أبو أيوب الأنصاري، جرير بن عبد الله، عبد الله بن أبي أوفى، وأبو قدامة الأنصاري.
وعلى رأي أغلب علمائهم تكون المقدّمة المذكورة متواترة، لأنّ بعضهم يشترط لتحقق التواتر أنْ يكون الحديث مرويًّا من إثني عشر طريقًا، وبعضهم من عشرة طرق، وبعضهم أقل.
ثالثًا: إنّ أغلب علماء أهل السّنة لا يشترطون التواتر فيما يثبت به مسائل العقيدة، ويكتفون بالخبر الواحد الصحيح لإثباتها، وعليه فيصح الاحتجاج عليهم بخبر الآحاد الصحيح عندهم.
_______________________
(*)المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج 1" للشيخ حسن عبد الله العجمي
(1) المائدة: 67.
(2) الصّدوق، الخصال، صفحة 65 - 68.
(3) المائدة: 3.
(4) الأحزاب: 6.
(5) النّسفي، تفسير النّسفي 2/297.
(6) أبو السّعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 7/91.
(7) أخْذُ النبي «صلى الله عليه وآله» الإقرار من أولئك الجمع بأنّ له الولاية العامّة عليهم وكونه أولى بهم من أنفسهم.
(8) الذّهبي، تذكرة الحفّاظ 2/713.
(9) يقصد العشرة من الصحابة الذين يقول أهل السنة بأنّهم مبشّرون بالجنة!
(10) ابن شاهين، شرح مذاهب أهل السنة، صفحة 103.
(11) ابن حجر، فتح الباري 7/74.