اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين (*)
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1).
يدعو الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة عباده المؤمنين إلى ملازمة التّقوى، والتقوى صفة أو ملكة يكتسبها الإنسان من خلال عوامل عديدة، ويكون معها ملتزمًا بتعاليم الشريعة الإسلامية الغراء، فاعلًا لما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه من واجبات، ومنتهيًا عن ما نهاه عنه عزّ وجل من منهيّات، وهي سبب الفوز والنجاح والفلاح في الدّنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2)، وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3)، وقال: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4)، وقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (5)، والآيات في ثمار التقوى وفوائدها كثيرة جدًّا.
وأمّا عوامل الوصول إلى التقوى فعديدة، أذكر لكم في حديثي هذا بعضًا منها، فمنها ممارسة العبادة بشكل واسع وكبير، فالاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى بأداء العبادة بمختلف أشكالها وأنواعها يفضي إلى حصول العبد على ملكة التقوى. وهناك عبادات مخصوصة ورد في النّصوص الشّريفة التّصريح بأنّ من آثارها وثمارها إكساب فاعلها للتقوى، فالصلاة مثلًا من العبادات التي لها هذه الخاصيّة، فإذا مارسها العبد وأتى بها مراعيًا في أدائه لها شروط صحّتها وقبولها فإنّ من آثارها الحصول على التقوى قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (6)، فالصلاة مصدر من مصادر الشّحن الإيماني، فمن خلالها يحصل العبد على شحنات إيمانية، فيزداد منسوب إيمانه ويقوى شيئًا فشيئًا من خلال الممارسة الدائمة والمستمرّة لهذه العبادة، فيصل إلى مرحلة من الإيمان القوي الأمر الذي يمكننا أنْ نصف هذه الحالة من الإيمان بالتّقوى التي يدعو الله سبحانه وتعالى إليها عباده، بحيث يشكّل هذا الإيمان القوي رادعًا له يردعه ويمنعه عن فعل أيّ مخالفة شرعيّة بترك واجب أو بفعل محرّم.
والصوم أيضًا من العبادات التي تكسب التقوى، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7)، فمن أهم فوائد الصوم وآثاره أنّه يعوّد الإنسان على مقاومة غرائزه وشهواته، وبذلك تقوى إرادته، وقوّة الإرادة هي العنصر الأساس الذي يبتني عليه الصبر، ومن امتلك خصلة الصبر قوي على فعل الطاعة وعلى ترك المعصية، وليست التقوى إلاّ فعل الطاعة واجتناب المعصية.
نعم قد يقول قائل أنّ هناك من يصلّي ولكنه يمارس الفحشاء ويرتكب المنكر، ومن يصوم ولا يرتدع عن فعل المعاصي والمخالفات الشرعيّة فكيف نوفق بين ما تذكره النصوص الشرعية من أنّ لهذه العبادات ثمرة التقوى وبين فعل ممارسيها هذا؟
فنقول في جوابه: لو أننا وجدنا من يصلي ويصوم ولا يتحقق لديه شيء من آثار هذه العبادات فالخلل إنّما هو في نفس فاعلها والمؤدّي لها، فهو من لم يحقق الشرائط والأسس والعناصر التي تجعل من عبادته عبادة مثمرة، فإخبار الله سبحانه وتعالى عن معطيات وثمار هذه العبادات حق وصدق لا يمكن أنْ لا تتحقق لو وجدت الشرائط التي تجعل منها عبادة فاعلة.
ومن عوامل الوصول إلى التقوى والحصول عليها تذكّر الموت، فمن يعيش حالة التّذكر الدائم والمستمر للموت، ويعلم بأنّه سيرحل يومًا ما عن هذه الحياة الدّنيا ليلاقي نتائج أعماله إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، فلا شك أنّ ذلك سيردعه عن ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، قال: «من ارتقب الموت سارع في الخيرات» (8).
وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، أنّه قال: «وأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشّهوات، وكفى بالموت واعظًا» (9).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «ذكر الموت يميت الشّهوات في النّفس، ويقلع منابت الغفلة، ويقوّي القلب بمواعد الله، ويرق الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفئ نار الحرص، ويحقّر الدّنيا» (10).
وليست التّقوى إلاّ فعل الواجبات واجتناب المنهيّات، ففي الرّواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» في بيان معنى التّقوى، قال: «أنْ لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك» (11).
ولما لتذكّر الموت من دفع للإنسان نحو التزام خط الطاعة لله سبحانه وتعالى وعدم التجاوز لحدوه والتّعدي على أحكامه وتشريعاته وقوانينه حثّت النصوص الشريفة على تذكّر الموت، فعن النبي «صلى الله عليه وآله»، قال: «أفضل الزّهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التّفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة» (12).
كما ورد الحثّ على فعل كل ما من شأنه أنْ يذكّر الإنسان بالموت كزيارة القبور، فيقول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنّها تذكركم بالموت» (13).
وفي رواية أخرى عنه «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنّها تزهد في الدّنيا وتذكّر الآخرة» (14).
فمن يزور القبور فإنّه وبدون اختيار منه أو إرادة، شاء أم أبى، سيعيش حالة من التذكّر للموت، سيتذكّر بأنّه سيرحل من هذه الحياة الدّنيا كما رحل عنها هؤلاء الذين جاء ليزورهم ووقف على قبورهم لطلب الرّحمة والمغفرة من الله لهم.
ثم وكما أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو عباده المؤمنين في هذه الآية الكريمة إلى ملازمة التقوى فكذلك يدعوهم أيضًا إلى أنْ يكونوا مع الصّادقين، وما من شك في أنّ المراد بالكون مع الصادقين ليس الاجتماع معهم في الأبدان لعدم الفائدة من ذلك ولكونه مستحيلًا أيضًا، فيتعيّن أنّ المراد من ذلك هو اتّباعهم في أقوالهم وأفعالهم، والسير على نهجهم وهداهم.
وكذلك ليس المراد بالصّادق هنا من اتّصف بالصّدق ولو مرّة واحدة أو مرّات وإنّما من كان صادقًا في جميع أفعاله وأقواله، ومن كان موافقًا لتعاليم الشريعة الغرّاء في جميع أفعاله وأقواله كان معصومًا. ثم إنّ أمر الله سبحانه وتعالى باتبّاع الصادقين من خلال أمره بالكون معهم جاء على نحو الإطلاق، ولا شك أنّ الله عزّ وجل لا يأمر باتّباع أحد على هذا النّحو مع احتمال صدور المعاصي منه، فدلّ ذلك أيضًا على أنّ من أمر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بالكون معهم معصومون، كما ويدلّ كل ذلك على أنّ المراد بالصّادقين في هذه الآية الكريمة جماعة مخصوصة معصومة، ولا ينطبق ذلك إلاّ على الأئمة الإثني عشر من أهل البيت «عليهم السلام».
ودعوة المؤمنين في الآية لأنْ يكونوا مع الصّادقين لا يختصُّ بزمان دون زمان، فالدّعوة فيها موجّهة للمؤمنين في جميع الأزمنة إلى يوم القيامة، وعليه فلا بدّ من وجود ولو صادق واحد في كل زمان ليجب اتّباعه.
كما يمكن الاستدلال بهذه الآية على وجود الصادقين في كلّ الأزمنة بالكيفيّة التالية، وهي: أنّ قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أمرٌ باتّباع الصّادقين، واتّباع الصادقين مشروطٌ بوجودهم، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب أيضًا، والنتيجة أنّ الآية تدلُّ على وجود ولو واحد من هؤلاء الصّادقين في كل زمان إلى يوم القيامة، وبما أنّ الآية كما أسلفنا تدل على أنّ هؤلاء الصادقين معصومون، وأنّ مفهوم الصادقين فيها لا ينطبق إلاّ على أئمة أهل البيت «عليهم السلام» فإنّ الآية تكون دليلًا على وجود ولو إمام واحد معصوم من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» في كل زمان وعصر، لا يخلو زمان من وجود واحد منهم، ودلالة هذه الآية في هذه الجزئية هي نفس دلالة الحديث المعروف بحديث الثقلين، وهو قول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: «إنّي قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا بعدي، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (15).
فيدلّ هذا الحديث الشريف على أنّ الزّمان لا يخلو من وجود واحد من عترة النبي «صلى الله عليه وآله» يكون مع القرآن، لأنّ عدم الافتراق المنفي فيه بين القرآن الكريم والعترة الطاهرة يراد منه - والله العالم- عدم الافتراق بكلا قسميه المادي والمعنوي، فالعترة لا تفترق عن القرآن بشخصها المتمثل ولو في واحد من أفرادها وفي سيرتها وسلوكها قولًا وفعلًا.
وهذه الدلالة لحديث الثقلين ليست مما انفرد الشيعة الإمامية باستنتاجها منه وإنّما استنتجها أيضًا غيرهم من علماء أهل السّنة، فهذا ابن حجر يقول: «وفي أحاديث التّمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانًا لأهل الأرض» (16).
وهي نفس دلالة العديد من الأحاديث الأخرى، ومنها بعض نصوص حديث الإثني عشر. قال النبي «صلى الله عليه وآله»: «لا يزال الدّين قائمًا حتّى تقوم السّاعة أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (17).
فهذا النّص للحديث يدل على أنّ مدّة خلافة وإمامة هؤلاء الإثني عشر تمتد من بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» وإلى قيام السّاعة، وقد أثبتنا في أكثر من مرّة بالدّليل أنّ حديث الإثني عشر هذا لا ينطبق إلاّ على الأئمة الإثني عشر الطاهرين من أهل بيت النبي «صلى الله عليه وآله»، والحديث يدل على وجود ولو واحد منهم في كل زمان وجدت فيه هذه الأمّة إلى يوم القيامة، فدل كل ذلك على أنّ هناك في زماننا هذا إمامًا من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» هو إمام هذا الزّمان وخليفة الرّسول فيه، وهو حسب عقيدتنا الإمام المهدي «محمد بن الحسن العسكري» عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
________________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج 1" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) التوبة: 119.
(2) النّور: 52.
(3) يونس: 62 - 64.
(4) يوسف: 57.
(5) النبأ: 31 - 37.
(6) العنكبوت: 45.
(7) البقرة: 183.
(8) الريشهري، ميزان الحكمة 8/223، رواية رقم: 19254.
(9) الحر العاملي، وسائل الشيعة 2/437.
(10) المجلسي، بحار الأنوار 6/133.
(11) المجلسي، بحار الأنوار 67/276.
(12) المجلسي، بحار الأنوار 6/137.
(13) المتّقي الهندي، كنز العمّال 15/646.
(14) المتّقي الهندي، كنز العمّال 15/646.
(15) أحمد بن حنبل، مسند أحمد 18/114، رواية رقم: 11560.
(16) ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة 2/422.
(17) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم 3/1453، رواية رقم: 1822.