سلطان الشيطان (*)
{وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك، وربك على كل شيء حفيظ} (1).
جاءت هذه الآية الشريفة بعد حديث قرآني عن قصة قوم سبـأ الذين كفروا بأنعم الله تعالى عليهم، فجازاهم بسيل العرم وبتبديل النعم، وقد ذكر القرآن أنّ ذلك منهم كان اتّباعًا لإبليس الذي صدّق عليهم ظنّه، وقد أرادت هذه الآية التي هي محل البحث أن تبيّن أنّ إبليس ليست لديه القدرة على إجبارهم، فهو لا يملك عليهم أي سلطان (والسلطان بمعنى التسلط والقدرة)، لكنهم أطاعوه وانقادوا وراءه بملء إرادتهم واختيارهم، فأذن له الله بعد ذلك – ومن باب الجزاء – أن يتسلط عليهم. وهذا الإذن الإلهي إنما كان لأجل أن يتميز في الواقع الخارجي وفي مقام العمل المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، والتميز الخارجي هو المراد من "لنعلم"، وإلا فالله سبحانه هو العليم بشؤون عباده، لا يفوته منها شيء؛ لذا تنتهي الآية بقوله تعالى: {وربك على كل شيء حفيظ}، و"الحفيظ" هو بمعنى العالم الذي لا يفوته المعلوم، لا بجهل ولا بسهو ولا بنسيان ولا بغير ذلك.
وهنا محطات للتأمل، يحسن بنا التوقف عندها:
المحطة الأولى:
الإنسان منّا مطالب بأن يتحمل مسؤوليته عن تسلّط الشيطان عليه، فلا معنى لأن يتذرع حين يقع في المعاصي والذنوب بكون الشيطان مسيطرًا عليه وموسوسًا له، وكأنه بهذا يبحث لنفسه عن عذر أو مهرب من تحمّل الوزر، وكأنْ لم تكن لديه إرادة يستطيع بها أن يدفع كيد الشيطان ووسوسته عن نفسه. إنّ الشيطان، في واقع الأمر، لا يستطيع التسلط القهري على الإنسان، ولا يمكنه إجباره على سلوك سبل المعاصي. كل ما يفعله هو أنه يدعو الإنسان لطاعته ويزيّن له معصية الله تعالى، فإن استجاب الإنسان له فلا يلومنّ إلا نفسه، فهو الذي أعطى لعدوه سلطانًا على نفسه، وهو ذا الشيطان يقول كما نقل القرآن عنه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} (2).
ولولا أنّ الإنسان مسؤول عن تسلّط الشيطان عليه، ولولا أنه قادر على دفعه عن نفسه، لما وجدنا في النصوص الشرعية كل هذه التحذيرات منه والدعوات إلى ضرورة التوقي منه ومحاربته، كما في قول الإمام علي بن أبي طالب (ع) مثلًا: "احذروا عدوًا نفذ في الصدور خفيًا، ونفث في الآذان نجيًا" (3).
المحطة الثانية:
تسلّط الشيطان علينا إنما يعود، في المقام الأول، إلى ضعف إيماننا، فلو أنّ إيماننا بالله – جلّ وعزّ – كان إيمانًا حقيقيًا ممتزجًا مع كل ذرات وجودنا، وحاضرًا معنا في كل حركاتنا وسكناتنا، لما سمحنا للعدو الذي طالما حذّرنا منه الله تعالى بأن يقترب منا ويسيطر علينا، ولكنّا دومًا على حذر شديد منه، متخذين لأنفسنا كل الدروع الواقية التي من شأنها أن تحمينا منه. من هنا وجدنا الإمام الصادق (ع) حين سأله بعض أصحابه عن الإيمان أجاب: "الإيمان بالله أنْ لا يُعصى" (4). ومن الواضح أنّ الإمام لم يفسّر الإيمان هنا ببيان مفهومه، بل ببيان نتيجته وأثره، فلا يكون الإيمان حقيقيًا إلا إذا كان مؤثرًا في إبعاد صاحبه عن طرق المعصية كلها.
لكن، ما مفهوم الإيمان؟
هذا السؤال لا مندوحة لنا منه إذا أردنا أن نعرف ما الذي ينبغي لنا أن نقوّيه في أنفسنا لنمنع الشيطان من السيطرة علينا؟
يجيب رسول الله (ص) عن سؤالنا بقوله: "الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان"(5). هذه، إذن، ثلاثة جوانب يرتبط الإيمان بها:
أ- القلب: وهذه اللفظة لا يراد منها العضو الصنوبري الشكل الموجود في الطرف الأيسر من القفص الصدري، بل المراد منها المعنى الذي استعملها القرآن الكريم فيه، أي جهاز الفكر والفهم عند الإنسان، أي العقل، قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (6)، وقال سبحانه: {لهم قلوب لا يفقهون بها} (7).
نعم، الإيمان هو في أساسه معرفة، أن يعرف الإنسان الله تعالى معرفة صحيحة، فتكون عقيدته سليمة مبنية على أسس يقينية ثابتة بالعقل، وليست راجعة إلى الأوهام والمنامات والموروثات الخرافية والأخبار السقيمة. ومتى ما تحققت هذه المعرفة بحق وعلى النهج المطلوب، آنذاك لن يجرؤ الشيطان على محاولة التسلط عليه؛ لأنه سيدرك إذ ذاك أنّ هذا الإنسان تستدعي معرفته الإلهية خوفًا حقيقيًا من ربه، وهيبة صادقة له، وهذان العاملان لن يتركا صاحبهما يصبح مطيّة للشيطان ومغرياته. يقول الإمام علي (ع) في دعاء الصباح: "من ذا يعرف قدرك فلا يخافك؟ ومن ذا يعلم ما أنت فلا يهابك؟" (8).
وحقًا لقد وجدنا في تاريخنا أناسًا لم يكونوا من الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين، لكن إيمانهم بلغ درجة رفيعة بنحو انصرفوا معه عن التفكير في أمور مباحة، بل في أمور مهمة وضرورية، فكيف لا يصرفهم هذا الإيمان القوي، إذن، عن المحرمات واتباع سبل الشيطان؟ أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – كان واحدًا من هؤلاء، فقد "بكى أبو ذر من خشية الله حتى اشتكى بصره، فقيل له: لو دعوت الله حتى يشفي بصرك، فقال: إني عن ذلك مشغول، وما هو بأكبر همي، قالوا: وما يشغلك عنه؟ قال: العظيمتان الجنة والنار" (9).
المحطة الثالثة:
مع أنّ الله – سبحانه – عليم بقلوب عباده ونياتهم، خبير بمن كان في قلبه إيمان ومن لم يكن، فإنه لا يرتّب أثرًا على هذا العلم الذي لا يكون إلا مطابقًا للواقع، بل يمهل الناس حتى يظهر إيمان المؤمن في عمله الخارجي، ويظهر كذلك شك الشاك وجحود المنكر {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك}، فلا بد، في حكمته وعدله، من انعكاس النيات القلبية وترجمتها في الواقع الخارجي المعيش، آنئذ فقط ينفتح المجال للمؤاخذة وترتيب الأثر.
لكن، أين نحن من هذا؟ ألست تجدنا، في كثير من الحالات، لا نجزم بوجود نيّة السوء عند من نتعامل معهم من الناس، ومع هذا نرتّب الأثر؟
صحيح أنّ الإسلام لا يرتضي وجود نيات سوء من بعضنا بإزاء بعض؛ لذا ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: "من الشقاء فساد النية" (10)، وقوله أيضًا: "عند فساد النية ترتفع البركة" (11)، بيد أنه لا يبيح لنا أن نجزم بكون نيات الآخرين فاسدة، ما دام المجال مفتوحًا أمام افتراض حسن النية، فليست كل إساءة بدرت من الآخرين في حقي لا بد أن تكون ناشئة من نية فاسدة مبيّتة، وليس كل خطأ وقع لا بد أن يكون مقصودًا. والأغرب أنّ ثمة أناسًا يجزمون بوجود نية السوء لدى الآخرين حتى إذا لم يظهر من هؤلاء أي سلوك أو تصرف خارجي ينبئ عن فساد نياتهم! ثم إنهم بعد هذا الجزم يسارعون إلى ترتيب الآثار، فتراهم يقاطعون ويخاصمون ويتباعدون على أساس نيات الآخرين، النيات التي لا سبيل إلى اليقين بوجودها من أصلها!
المحطة الأخيرة:
ما أعظم هذا التذكير المتكرر من القرآن الكريم للإنسان بوجود رقابة إلهية عليه: {وربك على كل شيء حفيظ}!
أجل، لو أنّ هذا الإنسان يتذكر دومًا أنّ الله سبحانه مطّلع عليه، عالم بحاله، لا تخفى عليه منه خافية، لكان هذا كاشفًا عن علوّ إيمانه وعظمة يقينه. يقول رسول الله (ص): "أفضل الإيمان أن تعلم أنّ الله معك حيث ما كنت" (12).
إننا في حياتنا العملية، حينما نجزم، بل حينما نحتمل فقط، وجود آلات تصوير ومراقبة في مكان ما، فإننا نضبط تصرفاتنا ونحسّن من أفعالنا، خوفًا من أن نؤاخذ أو نُلام على شيء قد يبدر منا. لكننا نجزم ونقطع بوجود رقابة إلهية دائمة لا تنقطع ليل نهار، ومع هذا نتصرف وكأنها معطلة أو غير موجودة أساسًا، أليس هذا دليلًا واضحًا على ضعف إيماننا ويقيننا بالله تعالى؟
ولو أننا استحضرنا هذه الرقابة الإلهية في نفوسنا استحضارًا حقيقيًا صادقًا، فلن تجدنا نقرب الذنب أو نفكر فيه. ينقل بعض المقربين من سماحة الشيخ الفقيه العارف محمد تقي بهجت (قدس سره) أنه اقترح عليه تأليف كتاب في الأخلاق والتقوى، فما كان من سماحته إلا أن قال: وما حاجتكم إلى كتاب في الأخلاق، يكفيكم قوله تعالى: {ألم يعلم بأنّ الله يرى} (13).
________________________
(*)المصدر كتاب "الإنسان والحياة.. نظرات قرآنية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.