عنف الرّجل ضدّ زوجته وأثره على الأسرة (*)
قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1).
مما لا شك فيه أنّ العلاقة الزّوجية بين الرّجل والمرأة لا تكون دائمًا على توافق تام، فقد تمر من حين إلى آخر بحالة من عدم الانسجام نتيجة لوقوع اختلاف ما بينهما، والذي قلَّ أنْ تخلو منه علاقة من العلاقات الزّوجية، وهذا الاختلاف سوف يكبر ويتفاقم إنْ لم يعالجه الزّوجان بالحوار الذي يسوده الحب والاحترام والتفاهم الخالي من العنف، فهو العلاج الأمثل لكل حالة توتر قد تحصل بين الزّوجين، ومما يؤسف له أنّ بعض الأزواج إذا ما أخطأت زوجته في حقّه مهما كان نوع هذا الخطأ وإنْ كان خطئًا بسيطًا يكفي فيه تنبيهها عليه لتتجنبه فإنّه يتعامل معها بالعنف، وهذا العنف يأخذ أشكالًا مختلفة؛ من سبّها وشتمها وتوجيه الكلام السّيء والقبيح وما فيه إهانة واحتقار لها، وقد يتعدى عند بعض الأزواج توجيه مثل هذا الكلام الزّوجة، فيوجهه أمامها وبمسمع منها إلى أهلها وأقاربها كأبيها وأمّها وإخوتها وأخواتها وقد يوجّهه إلى غيرهم من أرحامها، أو الضّرب الذي قد يكون في بعض صوره ضربًا شديدًا مؤلمًا يخلّف أثرًا على بدنها أو يكون مدميًا في بعض الحالات، وهذا التّصرف السّلبي من الزّوج تجاه زوجته مما يزيد المشكلة القائمة بينهما تعقيدًا وتفاقمًا، الأمر الذي قد ينتج عنه في بعض الحالات إنهاء علاقتهما الزّوجية بالانفصال والطلاق.
قد يتصوّر البعض أنّ حالات عنف الأزواج ضد زوجاتهم نادرة أو قليلة الحدوث، وهو تصور خاطئ وخلاف ما تدل عليه نتائج الدّراسات التي أجراها المتخصصون في مجال علم النفس والاجتماع وغيرهم، بل هي متفشية في كل المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، المتحضرة منها وغير المتحضّرة، فقد ذكرت منظمة الصحة العالمية بأنّ ثلثي نساء العالم يتعرّضن للإساءة والأذى البدني من جراء العنف داخل المنازل، والنّسب في البلاد الإسلامية والعربية قريبة مما في غيرها، ففي مصر مثلًا تصل نسبة النساء اللاتي يعترّضن للضّرب من قبل أزواجهن إلى 35% حسب ما جاء في دراسة للمركز القومي للبحوث في مصر (2).
إنّ المرأة التي يتعامل معها زوجها بهكذا طريقة ستعيش عدم الشعور بالأمان، الذي هو من أهم أسس العلاقة الزّوجية، وبفقدانه يخلو البيت من الحب والرّاحة، ويتحوّل إلى مكان للصراع بين أفراده، الأمر الذي ينعكس سلبًا على كافة أفراد العائلة، وبتكرار العنف ضدّها ونتيجة لقهر الزّوج المتكرر لها ستصاب بحالات من العقد النفسيّة والتي ربما تتطوّر وتكبر لتصل إلى حالات مرضيّة سلوكيّة كانتهاج العدوانية، فهي لن تكون الزّوجة المثاليّة، ولن تحمل لزوجها الودّ والحبّ والاحترام التي هي أيضًا من أهم العوامل التي تبتني عليها العلاقة الزّوجية السّعيدة، وستحاول أنْ تفرغ شحنات غضبها - إن لم تكن قادرة على الرّد بالمثل - من خلال أساليب أخرى كتعمدها إغضاب الزّوج من خلال تصرّفات وسلوكيات تكون مورد استفزاز له؛ من تقصيرها في القيام بحقوقه وإهمالها لواجباتها الزّوجيّة والأسريّة.
هذا إنْ قبلت هذه المرأة الاستمرار في هكذا علاقة، وإلاّ ففي حالات عديدة لا تقبل المرأة أنْ تعيش مع زوج يتعامل معها بهكذا طريقة، يمارس معها العنف، ويعتدي عليها قولًا وفعلًا، ويحسسها بالإذلال والمهانة ويشعرها بالإحباط واحتقار الذّات، ويحوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق، ويجلب لها العقد والأمراض الجسديّة والنفسيّة، ويضطرّها إلى أنْ تسلك سلوكيات سلبيّة، فتسعى إلى التخلّص من علاقتها معه، وفض العلقة الزّوجية وإنهائها، وبالتالي تتفكك الأسرة، وهو من أخطر الآثار الاجتماعية لعنف الرّجل ضدّ زوجته، لما هو معلوم ما لانحلال الأسر وتفككها من الأضرار الكثيرة على الفرد والمجتمع.
إنّ استخدام العنف مع الزّوجة مخالف لتوجيهات الشّريعة الإسلامية في تعامل الزّوج مع أخطاء زوجته، فالشّريعة الإسلامية توجه الرّجل إلى أنْ يتجاوز عن خطئ زوجته ويعفو عنها ويغفر لها زلّتها، قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين «عليه السلام»: «وحقُّ الزّوجة أنْ تعلم أنّ الله عزّ وجل جعلها لك سكنًا وأنسًا، وتعلم أنّ ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها وترفق بها، وإنْ كان حقك عليها أوجب فإنّ لها عليك أنْ ترحمها لأنّها أسيرك، وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها» (3).
وعن إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد الله «عليه السلام»: ما حقُّ المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسنًا؟ قال: يشبعها ويكسوها وإنْ جهلت غفر لها» (4).
فالعفو عن المسيء من المبادئ والأخلاق السامية الرفيعة التي يدعو إليها الدّين، فالتعامل به مع الزّوجة المخطئة أولى وأجدر لما يرتبطان به من رباط الزّوجية المقدّس.
وهو مخالف أيضًا لما ورد في الشّريعة الإسلامية من الحث على الإحسان إلى الزّوجة كما في حديث الإمام الصّادق «عليه السلام»: «رحم الله عبدًا أحسن فيما بينه وبين زوجته، فإنّ الله قد ملّكه ناصيتها، وجعله القيّم عليها» (5) ، ومخالف للعشرة بالمعروف التي أمر الله سبحانه وتعالى الأزواج بها في كتابه المجيد، وذلك في قوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (6)، «تلك المعاشرة التي تدل في إطلاقها على أنْ لا يتصوّر في فرد من أفرادها ولا مصداق من مصاديقها أنْ لا تكون كذلك.. وهو ما يوحيه قول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» (7)، خيريّة يوصف بها من كانت جميع تصرّفاته مع أهله وعلاقته بهم متصفة بذلك، حيث لا تبعيض لا في الإحسان ولا في المعاشرة ولا في الخيريّة، فليس الأمر بالإحسان المدعو إليه الزّوج في تعامله مع زوجته هو في جهة من تعامله معها وعلاقته بها دون جهة أخرى، ولا المعاشرة ولا الخيريّة المطلوبة مطلوبة في جهة دون أخرى.. فأحسنوا إليهن وعاشروهنّ بالمعروف وكونوا لهن خيرًا مطلقًا» (8).
إنّ توجيه السبّ والشتمّ والكلام السّيء إلى المؤمن سواء أكان زوجة أو غيرها غير جائز شرعًا، ويلحق فاعله الإثم، وهو مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى عن كلّ كلمة سيئة قالها، وكذلك ضرب الغير سواء أكان زوجة أو غيرها، فهو أيضًا مما حرّمته الشّريعة الإسلامية إذا كان بغير وجه حقٍّ، فلو أنّ الزّوج مارس الضّرب مع زوجته في غير المورد الذي أجاز له الشّرع ذلك، أو تجاوز الحدود والضّوابط الشّرعية في ذلك، فإنّه يكون قد ارتكب معصية وفعل ذنبًا يستحقُّ عليه العقاب من الله سبحانه وتعالى.
ولو أنّ الضّرب خلّف أثرًا على جسدها فيُلزم الرّجلُ بالدّية لها، فإنْ كان الضّرب على الوجه وخلّف اسودادًا ففيه ستة دنانير من الذهب، وإنْ ترك اخضرارًا فقط فثلاثة دنانير، وإنْ كان احمرارًا فدينار ونصف، وأمّا إذا كان الضّرب في غير الوجه ففي الإسوداد ثلاثة دنانير، وفي الإخضرار دينار ونصف، وفي الإحمرار ثلاثة أرباع الدّينار.
ثم إنّ العنف الذي يمارسه الرّجل ضدّ زوجته يخلّف آثارًا سلبيّة على أولادهما، حيث يخلق عندهم أنواعًا من الأمراض النّفسيّة والسّلوكيات غير الأخلاقية، فهذه أم كانت تتشاجر مع زوجها أمام أطفالها تشكو ما آلت إليه الحالة النّفسيّة لطفل من أطفالها، فتقول: «مشكلتي تعاني منها كثير من الزّوجات، فكثير ما يحدث شجار وخلافات بيني وبين زوجي أمام أطفالي الصّغار، مما يترك الأثر على نفسياتهم، وقد لاحظت مؤخّرًا أنّ طفلي البالغ من العمر تسع سنوات بدأ بالانطواء وهو يجلس مع نفسه كثيرًا دون أنْ يبدي أسبابًا لذلك» (9).
فمن الخطأ الكبير جدًا أنْ يتشاجر الوالدان أمام أولادهما، فكما قلنا سابقًا أنّ الحياة الزّوجية لا تخلو من أنْ تعتريها حالات من الاختلاف بين الزّوجين، فهذا مما قد يكون أمرًا طبيعيًّا إلاّ أنّه يلزم أنْ لا يكون التشاجر الناشئ بسبب هذا الاختلاف أمام الأبناء، فالأضرار الناتجة عن ذلك عليهم كبيرة وخطيرة، بل عليهما أنْ يختارا الوقت المناسب للنقاش والتفاهم وحل مشاكلهما، وأنْ يكون ذلك بعيدًا عن نظر ومسمع الأبناء.
والأكثر ضررًا على الأولاد أنْ يمارس والدهم العنف ضد أمّهم أمامهم، فالأم التي يستخدم معها زوجها العنف والتي تهان كرامتها وتسحق شخصيتها أمام أبنائها غالبًا ما تفقد هيبتها وجانب التأثير في شخصيتها، فلا يكون لها ذلك التأثير الكبير في مقام تربيتها لأبنائها.
كما أنّ من سلبيات ذلك أيضًا ما أظهرته العديد من الدّراسات من أنّ الأفراد الذين يعيشون في أسر يسودها العنف قد يصابون بعدوى العنف، فهم أكثر قابلية لأنْ يكونوا عدوانيين في تصرّفاتهم، «فقد وجد ستراوس (10) وزملاؤه أنّ الأزواج الذين يعيشون في أسر يسودها العنف يكون احتمال ضربهم لزوجاتهم عشرة أضعاف الرّجال الذين يعيشون في أسر لا يسودها العنف» (11).
«وتشير الدّراسات النفسيّة إلى أنّ خلافات الوالدين ومشاجراتهما قد تؤثر سلبًا في الحياة الزّوجية لأبنائهم مستقبلًا، حيث إنّ انتقال الصّراع الزّوجي من جيل إلى آخر ينتج عندما لا يتعلّم الأبناء مهارات التّحدّث وسلوكيات التّواصل والتّفاهم بسبب مشاهدتهم ومراقبتهم للخلافات التي تحدث بين آبائهم وأمّهاتهم، وكيف يتعاملون بعضهم مع بعض بشكل سلبي» (12).
فـ «الطفل الذي ينشأ في أسرة مليئة بالعنف لا شك أنّه سيتعلّم هذا النّموذج ويحمله معه إلى المجتمع والمدرسة والشّارع ثم إلى أسرته التي سيكوّنها في المستقبل، وسيتوارث العنف جيلًا بعد جيل» (13).
والخلاصة: إنّ الأضرار الناتجة عن عنف الرّجل ضدّ زوجته عديدة لا تقتصر على الزّوجة وحدها، بل تتعدها في نطاق الأسرة إلى الزّوج والأولاد، وهي أضرار من الخطورة بمكان، فلا يمكن التغاضي عنها والاستمرار في الإتيان بمسبباتها، ولذلك فعلى الرّجل أنْ يعلم بأنّ الحياة الزّوجية المستقرّة هي تلك التي تقوم على أساس من الوفاق والتّفاهم وإخلاص كل واحد من الزّوجين إلى الآخر، وعدم تعدّي بعضهما على بعض، وإنْ حصل وحدثت مشكلة ما بينهما فلا بدّ من حلّها بالتي هي أحسن؛ بالهدوء وبالعفو والحلم والصّفح والتّجاوز عن الخطأ، وأنْ يبتعدا عن إظهار ما يحصل بينهما من خلاف أمام أولادهما، لأنّ سلوك غير ذلك سيؤثر سلبًا على الأسرة واستقرارها، وقد يؤدي إلى تفكك الأسرة وتشتت أفرادها، لا سيما الأبناء الذين هم عادة ضحيّة بعض السّلوكيات الخاطئة للوالدين معًا أو لأحدهما.
______________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج 2" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) النساء: 91.
(2) كاظم شبيب، العنف الأسري، صفحة 63.
(3) القبانجي، شرح رسالة الحقوق، صفحة 715.
(4) الكليني، الكافي 5/015 - 115.
(5) الصّدوق، من لا يحضره الفقيه 3/344.
(6) النساء: 91.
(7) الصّدوق، من لا يحضره الفقيه 3/555.
(8) حسن العجمي، دروس من وحي الإسلام، صفحة 252.
(9) موزة المالكي، الأزمات النّفسيّة.. مشاكل وحلول، صفحة 91.
(10) كلود ليفي ستراوس، عالم اجتماع فرنسي، 8091م - 9002.
(11) د. حمدي بدران، العنف الأسري، دوافعه وآثاره والمكافحة، صفحة 851.
(12) د. حمدي بدران، العنف الأسري، دوافعه وآثاره والمكافحة، صفحة 161.
(13) د. وليد سرحان، أحاديث في السّلوك الإنساني، صفحة 83.