ذرية المؤمن ملحقة به (*)
{والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين} (1).
تعرض الآية الكريمة مظهرًا من مظاهر اللطف الإلهي والفضل الرباني، مما يناله عباده المؤمنون في يوم القيامة. هذا المظهر هو أنّ الأبناء (وإن ضعف إيمانهم ونقص عملهم الصالح) يُلحقهم الله – سبحانه وتعالى – بدرجة آبائهم في الجنة؛ إسعادًا لهؤلاء الآباء وتقديرًا لهم، فقد ورد عن رسول الله (ص) في تفسير هذه الآية: "إنّ الله يرفع ذرية المؤمن إليه في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه"(2)، وورد أيضًا عن الإمام الصادق (ع) في تفسيرها: "قصرت الأبناء عن عمل الآباء، فألحق الله عز وجل الأبناء بالآباء ليقرّ بذلك أعينهم" (3).
ولفظة "الذرية" المذكورة في الآية وإن كانت مطلقة، فتصدق على كبارهم وصغارهم، لكن هذا الإطلاق – كما قال المفسرون – منصرف إلى خصوص الكبار منهم، الذين يكونون مكلفين بالإيمان، ويصح منهم الاتّباع لآبائهم.
وهذا اللطف الإلهي يكون بفضل منه وعطاء جديدين، ولن يكون بالإنقاص مما ناله الآباء من الفضل والعطاء؛ لذا قالت الآية: {وما ألتناهم من عملهم من شيء}، "ألتناهم" بمعنى أنقصناهم، أي أننا لم ننقص من ثواب الآباء كي نعطي منه أبناءهم، بل عطاؤنا للأبناء هو ثواب زائد على ما ناله آباؤهم.
وتعلل الآية في المقطع الأخير عدم الإنقاص من الآباء بقولها: {كل امرئ بما كسب رهين}، والرهن هو الحبس، أي أنّ الإنسان محبوس ومرتهن بعمله، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشر. فالآباء لهم أعمالهم الصالحة، وسينالون ثوابها كاملًا غير منقوص.
وبعد، ففي الآية الشريفة موارد للتوقف والتأمل:
المورد الأول:
ترشدنا الآية الكريمة إلى أهمية أن نفكر في مصير أبنائنا ومستقبلهم الذي ينتظرهم في آخرتهم تفكيرًا لا يقلّ عن تفكيرنا في مستقبلهم الدنيوي. فالمرء منا لا يفتأ يخطط لمستقبل أبنائه، ويفكر في مستوى تعليمهم ووظائفهم، ولا يدخر وسعًا في تذليل الصعوبات التي قد تواجههم، ومساعدتهم في تحقيق طموحاتهم والوصول إلى ما يؤملون الوصول إليه. كل هذا مرتبط بالدنيا ومتعلقاتها، فهل نفكر في مصير أبنائنا الأخروي بالطريقة نفسها أو ما يقرب منها؟
الملاحظ عمليًا أنّ هناك من الآباء والأمهات من لا يفكر في هذا الجانب أصلًا، وإن فكّر فيه فهو لا يعطيه من الاهتمام والعناية ما يستحق. بل قد تجد بينهم من يهمه أن ينال ابنه أو ابنته الراتب المالي الكبير أو المنصب الرفيع بغضّ النظر عما قد يستتبعه ذلك من أثر سلبي في الدين والأخلاق.
إنّ الله – سبحانه وتعالى – العليم بمدى محبتنا لأبنائنا وتعلّقنا بهم يريدنا، بهذا الحديث القرآني عن إلحاق ذرية المؤمن به، أن نتفكر في آخرة أبنائنا، وألّا نقصر اهتمامنا بهم على الاهتمام الدنيوي المتعلق بالشؤون المؤقتة التي ليس ينتظرها إلا الفناء والزوال بعد حين.
وقد دلّت بعض الأخبار على أنّ هذا الاهتمام عند المؤمن بالمصير الأخروي لأبنائه يظل موجودًا لديه حتى بعد دخوله الجنة، فعن رسول الله (ص) أنه قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وذريته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب، قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به" (4).
المورد الثاني:
تدل الآية الكريمة على ضرورة أن يرسم الآباء عمليًا لأبنائهم طريق الخير والصلاح، فهي تقول: {واتّبعتهم ذريتهم}، والتعبير بـ "الاتّباع" يدل صراحةً على أنّ القضية هنا هي قضية سلوك عملي، فالآباء اختطّوا أمام أبنائهم طريقًا للعمل، أي أنهم عملوا الصالحات أمامهم، فكانوا قدوة لهم في ذلك. إنها إذن قضية مسؤولية كبيرة يتحملها الآباء، مسؤولية أن يكونوا بسلوكهم العملي قدوة صالحة لأبنائهم؛ كي يعوّدوهم الأخلاق الطيبة ويعلّموهم الآداب الجميلة، وقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: "ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن" (5).
نعم، إنّ المبادرة إلى تأديب الأبناء وتربيتهم، ليكونوا كما يريدهم الله تعالى أن يكونوا، هي الانعكاس الحقيقي والصورة الواقعية المطلوبة لمدى المحبة والارتباط والصلة الوثيقة بين الطرفين؛ لذا وجدنا أمير المؤمنين عليًا (ع) يقول في وصيته لولده الحسن (ع):
"وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة..." (6).
المورد الثالث:
هذه الحقيقة القرآنية التي تتحدث عنها الآية الشريفة (وهي حقيقة كون ذرية المؤمن ملحقة به يوم القيامة في درجته من الجنة) ليست تعني رفع المسؤولية عن الذرية، وكأنّ الجنة، بل درجاتها العليا، مضمونة لها مهما انحرفت عن الطريق وعصت وفسقت ما دام الآباء صالحين متقين. الآية ذكرت في الذرية شرط الإيمان: {واتّبعتهم ذريتهم بإيمان}، فلا بد للذرية إذن من أن تكون مؤمنة حتى تلحق بالآباء، ومعلومٌ أنّ الإيمان مرتبط أشد الارتباط وأوثقه بالعمل الصالح، إذ العمل الصالح هو تصديق الإيمان، فعن رسول الله (ص) أنه قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقته الأعمال" (7).
ثم إنّ الآية عبّرت، كما تقدم، بالاتّباع. فهذا كذلك مما يدل على أنّ الذرية مسؤولة أيضًا، فلا بد لها من الإيمان، ولا بد لها من السعي لاتّباع الآباء الصالحين في طريق الخير. غاية ما هنالك أنّ هذه الذرية لم تتمكن من بلوغ ما بلغه الآباء من رفعة وتكامل ورقيّ في طريق العبادة والطاعة لله تعالى، فمنّ عليها سبحانه وعلى الآباء بأن ألحقها بدرجة هؤلاء في الجنة.
المورد الأخير:
المقطع الأخير من الآية المباركة يحوي قاعدة من القواعد القرآنية الكبرى: {كل امرئ بما كسب رهين}، وهي قاعدة كثيرًا ما نبّه عليها القرآن الكريم وأشارت إليها الروايات الشريفة الواردة عن النبي وأهل بيته الطاهرين، بل هي قاعدة تنبني عليها كل الخلقة، وتقوم على أساسها كل رسالات السماء وجهود الأنبياء والمرسلين، وفي ظلها يكتسب المعاد والثواب والعقاب معنى.
وعلى الرغم من أهمية هذه القاعدة، وعلى الرغم من كوننا نؤمن بها بعقولنا وأفكارنا، فإنك تجد الكثيرين في هذه الحياة لا يستحضرونها في مقام العمل والسلوك، بمعنى أنّ الأعمال تنطلق لديهم من منطلق المزاج والرغبة الشخصية، أو من منطلق العادة والعرف، أو المصلحة المادية، فيفعلون ما بدا لهم، دون أن يشعروا في دواخلهم أو تتحسس نفوسهم أنهم مرهونون بأعمالهم، ومجزيون بحسبها، وهي التي سترسم مصائرهم. يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): "اعمل عمل من يعلم أنّ الله مجازيه بإساءته وإحسانه" (8). إنّ كلمة علي (ع) هذه تحتاج منا إلى تأمل وتدبر؛ فليس المطلوب منا فقط أن نعلم أننا سنجازى وفق أعمالنا، المطلوب أيضًا أن نعمل من منطلق هذا العلم وفي ضوئه. ولنا أن نتخيل كيف ستكون أعمالنا لو أننا استحضرنا وقتَ كل عمل، وقبله، أنّ مصيرنا سيرتبط به، ولا فكاك لنا عنه، إلا أن يرحمنا الله برحمته. لكن مشكلتنا أننا في مقام العمل نغفل عن هذه الحقيقة، ونباشر ما نريده من منطلق الغفلة عنها، دون أن نلتفت إلى أننا بهذا نقود أنفسنا بأنفسنا نحو الخسران المبين والسقوط المؤكد، وفي التحذير من هذه الحالة وإيقاظنا منها يقول أمير المؤمنين علي (ع): "ويل لمن غلبت عليه الغفلة، فنسي الرحلة ولم يستعدّ" (9).
____________________________
(*) المصدر كتاب "الإنسان والحياة.. نظرات قرآنية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.
(1) سورة الطور، الآية 21.
(2) الدر المنثور 6: 147- 148.
(3) التوحيد، الصدوق، ص 394.
(4) الدر المنثور 6: 148.
(5) ميزان الحكمة 10: 721.
(6) نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 393.
(7) ميزان الحكمة 1: 301.
(8) ميزان الحكمة 7: 26.
(9) نفسه 7: 259.