الزّوجة المتطلّبة (*)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1).
عديدة هي الأسباب والعوامل التي تعكر صفو الحياة الزّوجيّة، وتجعل من هذه العلاقة علاقة غير وطيدة، يشوبها التوتر وعدم الانسجام، بل إنّ بعضها له الأثر الكبير في خلق حالة من النّفور الشّديد بين الزّوجين، الأمر الذي قد يؤدي في بعض الحالات إلى إنهاء علاقتهما الزّوجية.
وهذه الأسباب والعوامل إمّا أنْ يكون منشؤها الزّوج أو الزّوجة أو كلاهما، أو بسبب تدخل طرف ثالث في حياتهما الزّوجية، وأقتصر في حديثي هذا على ذكر سبب واحد من الأسباب التي تكون الزّوجة هي السبب في حدوثها، وهو كثرة طلباتها الماديّة والزّائدة والمتكررة التي تثقل بها كاهل الزّوج.
فإنّ للمرأة على زوجها حقوقًا، منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، ومن الحقوق الواجبة على الزّوج لزوجته حقُّ النفقة، فالزّوج مطالب شرعًا بأنْ ينفق على زوجته، سواء كانت فقيرة أم غنية، فعليه أنْ يقوم بتوفير ما تحتاج إليه في معيشتها؛ من الطعام والكسوة والفرش والغطاء والمسكن والخدم إذا كانت في بيت أبيها وأهلها قبل الزّواج ممن يُخدم، وتشمل النّفقة العلاج وآلات التدفئة والتّبريد وأثاث المنزل وغير ذلك، وتقدير ذلك كله موكول إلى العرف، فما يراه العرف في المكان الذي تعيش فيه المرأة من النّفقة، فيجب على الزّوج بذله لها، مراعيًا في ذلك شأنها ووضعها الاجتماعي وفي حدود إمكانياته.
وعليه فليس من حق الزّوجة الواجب على الزّوج أنْ ينفق عليها زائدًا عن النّفقة الواجبة لها عليه والمحدّدة شرعًا أو عرفًا، نعم يستحب له أنْ يوسع على عياله، زوجة كانت أو غيرها ممن هو مسؤول عن إعالته والنفقة عليه، وعدّ الإنفاق على العيال والتوسعة عليهم أفضل من الصّدقة على الغير وأكثر ثوابًا، مع ما للصّدقة من الثّواب العظيم. في الرّواية عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين «عليه السلام» أنّه قال: «أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله» (2).
وليس من الواجب عليه أنْ ينفق عليها زائدًا عن ما يليق بشأنها، فلو أنّ شأنها ووضعها الاجتماعي يقتضيان أنْ يكون لها من الثياب ما هو متوسط القيمة مما تلبسه أغلب نساء ذلك المجتمع، فليس من حقّها الواجب على الزّوج أنْ يلبسها من الثياب ما هو غالي الثمن حتى وإنْ كان قادرًا على ذلك، وكذلك ليس من اللازم عليه أنْ ينفق عليها زائدًا عن حدود إمكانياته، وعلى المرأة أنْ لا تخلق مشكلة مع زوجها إذا كانت إمكانياته محدودة، فعليها أنْ لا تلح عليه لكي يحضر لها ما لا يقدر عليه، بل عليها أنْ تصبر وتراعي في ذلك زوجها.
هناك من النساء من تخلق مشكلة مع زوجها، وتوجد حالة من الشّقاق والنّزاع معه، وتجلب له الأذيّة لأنّه لم يستجب لها في كل ما تطلبه منه من حاجيات وأشياء، مع علمها بأنّه غير قادر على ذلك، وهذا خلاف حسن التّبعل المطلوب من الزّوجة أنْ تعيشه مع زوجها، وخلاف العشرة بالمعروف المطلوبة من كل واحد من الزّوجين أنْ يعاشر بها الآخر، فالمرأة التي تعيش حسن التّبعل هي تلك المرأة التي تعاشر زوجها بالمعروف، فتلتزم بما عليها من حقوق وواجبات تجاهه، وتتعامل معه بالأخلاق الفاضلة الحسنة، ومن المعاشرة بالمعروف أنْ لا تكلّف المرأة زوجها أو تطلب منه شيئًا لا يقدر عليه ولا يطيقه، سواء أكان من أمر النفقة أو غيرها، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «أيّما امرأة أدخلت على زوجها في أمر النّفقة وكلفته ما لا يطيق لا يقبل الله منها صرفًا ولا عدلًا إلاّ أنْ تتوب وترجع وتطلب منه طاقته» (3).
وأذيّة المرأة لزوجها بغير وجه حق شرعي مما لا يجوز شرعًا، ويلحقها بسببها الإثم، ففي الرّواية عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه وإنْ صامت الدّهر وقامت وأعتقت الرّقاب وأنفقت الأموال في سبيل الله، وكانت أول من ترد النار» (4).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها أو تغمّه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله» (5).
ينقل أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» جاء ذات يوم إلى البيت، فقال للسيدة فاطمة الزهراء «عليها السلام»: «يا فاطمة هل عندك شيءٌ تغذينيه؟ فقالت: لا والذي أكرم أبي بالنّبوّة ما عندي شيءٌ أغذيكه، ولا كان لنا بعدك شيءٌ منذ يومين إلاّ شيءٌ أوثرك به على بطني وعلى ابني هذين، فقال لها: يا فاطمة ألا أعلمتني حتّى أبغيكم شيئًا؟ فقالت: إنّي أستحي من الله أنْ أكلّفك ما لا تقدر عليه» (6).
إنّ السيدة الزهراء «عليها السلام» في هذه الجزئيّة من معاشرتها لزوجها كما في غيرها من سائر جزئيات العلاقة معه تعطي للمرأة المسلمة المؤمنة درسًا رائعًا، فلمّا علمت من حال زوجها أنّه غيرُ قادر على أنْ يحضر لهم ما هم بحاجة إليه من ضروريات العيش والحياة «وهو الغذاء»، لم تطلب منه ما لا يطيق مراعاة لحاله، وانطلاقًا من حسن التّبعل معه ومعاشرته بالمعروف، واستحياءً من ربّها أنْ تكلّف زوجها شيئًا هو غير قادر عليه. فأين هذا الخلق السامي الرّفيع الذي كانت عليه السّيدة الزهراء «عليها السلام» مما تفعله بعض النساء في علاقتهن مع أزواجهن حيث تؤذيه وتخلق له المشاكل وتحوّل حياته إلى جحيم لا يطاق بسبب أنّه لم يحضر لها شيئًا لا من الضّروريات وإنّما من الكماليات؟!
إذًا فالزّوجة الصّالحة هي تلك التي تقدّر إمكانيات زوجها الماليّة، فلا ترهقه بالطلبات لا سيما إذا كانت غير ضروريّة وتفوق إمكانياته، وذلك من باب حسن التّبعل والمعاشرة بالمعروف، ولأنّها تعلم أنّ الإكثار على الزّوج من الطلبات والإلحاح عليه فيها والإصرار على تنفيذها مما يؤذي الزّوج ويزعجه، وقد تحدث بسبب ذلك مشكلة بينهما فتكون هي من عرضت حياتها الزّوجية للاضطراب وعدم الاستقرار، وخلقت في داخل الأسرة جوًّا من التّوتر وعدم الهدوء والرّاحة، فتصبر على ما هي عليه حتّى وإنْ كانت في ضنك وضيق من العيش، فلا تفضّل شيئًا على محبّة زوجها واستقرار حياتهما الزّوجية.
هناك من الزّوجات من تريد أنْ تعيش حبّ الظهور والمباهاة والتميّز في كل شيء في ملابسها ومسكنها وسيارتها إنْ كانت ممن يقود سيارة، وغير ذلك، فلا تقنع إلاّ بالمتميّز والجديد، ومن الأنواع والأصناف غالية الثّمن، فترغب بين الفينة والأخرى بتبديل أثاث المنزل وتجديده، وتغيير هاتفها بهاتف أحدث، وسيارتها بسيارة أخرى جديدة، وهكذا، وكل ذلك تطلبه من الزّوج، وتلح عليه إلحاحًا شديدًا في الاستجابة إلى طلباتها، وتخلق معه مشكلة إنْ هو امتنع أو تردد في ذلك، فيقع الزّوج المسكين أمام خيارات كلّها ذات نتائج سلبية إنْ لم يتمكن من إقناع زوجته في التراجع عن طلباتها، فهو إمّا أنْ يلجأ إلى الاستدانة والاقتراض الأمر الذي يخلق عنده حالة من القلق وعدم الرّاحة بسبب التفكير الدائم والمستمر في كيفيّة تسديد دينه، ويزداد ذلك القلق والشعور بعدم الرّاحة في حالة مطالبة الدائن له بالمال الذي اقترضه منه، وهذا من شأنه أنْ يوجد حالة من الفتور في علاقة هذا الرّجل بزوجته، بل قد يخلق ذلك في بعض الحالات حالة من بُغْض الرّجل وكراهيته لزوجته، لأنّه يرى أنّها هي من دفعه إلى الاقتراض، وجلب له عدم الرّاحة وجعله يعيش القلق، فتتغيّر العلاقة بينه وبينها إلى عدم الانسجام نتيجة لغياب عنصر المودّة والمحبّة، الذي هو من أهم العناصر التي يلزم أنْ تتوفر في العلاقة بين الزّوجين لتكون علاقة استقرار وانسجام.
أو أنّه لا يستجيب لها في طلباتها، ويتحمّل كل الآثار السّلبية المترتبة على ذلك؛ من تكرارها وإصرارها عليه في الاستجابة لها، ومن عدم التزامها بواجباته الزّوجية ومسؤوليتها الأسريّة عنادًا منها له. أو أنّه يسعى إلى التخلّص منها لا سيما مع يأسه من عدم تغييرها لطبعها هذا، فيقدم على طلاقها وفراقها.
فقد لا يتردد بعض الرّجال في إنهاء علاقته الزّوجية مع زوجته المتطلّبة تخلّصًا من جميع مشاكل وآثار عادتها السّلبيّة هذه، فهذا أحدهم يقول أنّ زوجًا غضب من إلحاح زوجته المتكرر عليه لشراء ثوب لها لكي تلبسه في حفل زواج اختها، مما دعاه ذلك إلى طلاقها بعد زواج دام بينهما لسنين عديدة.
فهذه الزّوجة طالبت زوجها لكي يشتري لها ثوبًا لتلبسه لحضور حفل لإحدى قريباتها، ومن ثم طالبته بآخر لتلبسه في حفل زفاف شقيقتها، لعدم رغبتها في تكرار لبس الأول.
يقول الزوج: إنّ دخلي الشّهري قليل وزوجتي أرهقتني كثيرًا بطلباتها وشراء الملابس الجديدة لها، فلا أستطيع تحمّل المزيد من عدم مبالاتها بوضعي المادّي. ولمّا لم تفلح محاولات أقاربهما في الإصلاح بينهما وإقناع الزّوجة بالتنازل عن طلباتها وثني الزّوج عن قراره في إنهاء علاقته معها الذي بات مقتنعًا بأنّه الحل الأنسب، لجأ إلى طلاقها وفض العلقة الزّوجيّة بينهما.
فالمرأة التي لا تكون عندها نيّة التغيير من عاداتها وطباعها لتتناسب مع حالة زوجها المالية فإنّ علاقتها معه ستتعثر لا محالة، وقد تنتهي العلاقة الزّوجيّة بينهما كما حصل مع هذه المرأة.
نعم كان على هذا الرّجل أنْ يتريّث ويسعى إلى إصلاح طباع زوجته بدلًا من أنْ يلجأ إلى طلاقها والتخلّص منها، فالطلاق وإنْ كان جائزًا وحلالًا ولكنّه من أبغض الحلال عند الله سبحانه وتعالى، وكثيرًا ما تكون الآثار السّلبيّة الناشئة عن الطلاق كبيرة وكثيرة، فقد تكون سلبياته أكثر وأكبر من السّلبيات التي كانت الموجب لإيقاعه.
وفي الختام أقول: لتعلم المرأة وليعلم الرّجل أنّ علاقة الزّواج جعلها الله سبحانه وتعالى علاقة مودّة ورحمة، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(7)، فهو سبحانه أرادها علاقة يخيّم عليها السّكون والطمأنينة، وتظللها السكينة، ويرفرف عليها الهدوء والرّاحة، فعلى كلا الزّوجين أنْ يتقبل الآخر بمحاسنه وعيوبه، ويحاول أنْ يصلح من عيوبه بقدر الإمكان والاستطاعة، وأنْ يتغاضى ويتجاوز كل واحد منهما عن هفوات وأخطاء الآخر، لتستقيم حياتهما الزّوجية ويبعدانها عن كل ما من شأنه أنْ يكون سببًا لتوترها وتعثرها.
________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج 2" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) الرّوم: 12.
(2) الكليني، الكافي 4/11.
(3) الطبرسي، مكارم الأخلاق، صفحة 202.
(4) الحر العاملي، وسائل الشيعة 02/361.
(5) الحر العاملي، وسائل الشيعة 16/082.
(6) الفيروزآبادي، فضائل الخمسة من الصحاح الستة 2/5421.
(7) الرّوم: 12.