من أدلّة عصمة عترة النبي (2) (*)
قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»: «إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا» (1).
أثبتنا فيما سبق أنّ آية التطهير وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) دلّت على عصمة ثلاثة من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» وهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» والإمام الحسن بن علي «عليه السلام»، والإمام الحسين بن علي «عليه السلام»، وهناك أدلّة عديدة على عصمة هؤلاء الثلاثة وبقيّة الأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين «عليهم السلام»، ومن هذه الأدلّة ما روي عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرّاشدين المهديين، فتمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ...» (3).
وما من شكّ في أنّ المراد بالخلفاء الرّاشدين هنا هم الأئمة الإثنا عشر الذين أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم، وأنّهم القائمون على الأمّة من بعد وفاته وإلى يوم القيامة (4)، والنبي «صلى الله عليه وآله» في قوله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرّاشدين المهديين» قرن سنّته بسنّة هؤلاء الخلفاء، وحثّ الأئمة على الأخذ بهما جميعًا، وبما أنّ سنته وهي قوله وفعله وتقريره حجة فكذلك سنّة هؤلاء الخلفاء وهي قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة أيضًا، وهذا مما يدل على أنّ هؤلاء الخلفاء لا يقعون في قولهم وفعلهم وتقريرهم في خطأ، فهم إذًا معصومون.
فنحن ننزّه النبي «صلى الله عليه وآله» من أنْ يلزم الأمّة ويأمرها ويحثّها على الأخذ بسنّة من يعلم بأنّه يقع في قوله وفعله وتقريره في خطأ، ويكون في كل ذلك عرضة إلى مخالفة الشريعة الإسلامية الغراء في أصولها وفروعها وسائر تعاليمها وتوجيهاتها.
ويؤيّد ذلك أمره «صلى الله عليه وآله» للأمّة بالعضّ على سنّة هؤلاء الخلفاء بالنّواجذ، الدّال على أنّ سنّتهم كسنته لا يكون للخطأ فيها مكان. كما أنّ في وصف النبي «صلى الله عليه وآله» لهؤلاء الخلفاء بأنّهم مهديّون إشعارٌ بعصمتهم أيضًا، فهم مهتدون في أنفسهم وهادون لغيرهم، ومن كان مهتديًا وهاديًا مطلقًا فهو معصوم.. وعليه يكون هذا الحديث النبوي دليلًا على عصمة الأئمة الإثني عشر من عترة النبي الأكرم عليه وعليهم الصلاة والسلام.
ومن أدلّة عصمة الأئمة الإثني عشر من أهل البيت «عليهم السلام» حديث الثقلين(5)، ففي هذا الحديث الشريف أوجب النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» التّمسّك بالكتاب المجيد والعترة، وأخبر أنّ التّمسّك بهما معًا عاصمًا من الضلال، ومن يحتمل ارتكابه للذنب ووقوعه في السّهو والنسيان والخطأ يستحيل أنْ يأمر الله سبحانه وتعالى ونبيّه «صلى الله عليه وآله» بالتّمسّك به. فهؤلاء الأئمة لو لم يكونوا معصومين لجاز أنْ يكون المتمسّك بهم ضالًّا، وبما أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» أمر بالتّمسّك بهم على نحو الإطلاق وبدون قيد أو شرط دلّ ذلك على هداية المتمسّك بهم مطلقًا، ومن كان التمسّك به هداية دائمًا فهو معصوم.
إضافة إلى ذلك فإنّ النبي «صلى الله عليه وآله» أخبر في هذا الحديث عن عدم افتراق عترته عن الكتاب المجيد وذلك في قوله: «ولن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض»، لأنّهم أعلم بظاهر وباطن آيات كتاب الله عزّ وجل، وبمحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيّده وخاصّه وعامّه وناسخه ومنسوخه، فهم لا يفارقونه لا في قول ولا فعل، وصدور أيّة مخالفة منهم لأحكام الدّين يعتبر افتراقًا عن الكتاب المجيد، فدلّ ذلك على أنّهم لا يرتكبون شيئًا مما هو مخالف لتعاليم الدين، وإذا كانوا كذلك كانوا معصومين.
ومنها قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك» (6).
ولا شكّ أنّ التخلّف عن أهل البيت حال خطئهم لا يعدّ هلاكًا، والنبي «صلى الله عليه وآله» جزم بأنّ النّجاة في اتباعهم والهلاك في التخلّف عنهم، فدلّ ذلك على أنّهم لا يخطئون، وإذا كانوا كذلك فهم إذًا معصومون.
ومنها قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «النّجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (7).
فالنبي «صلى الله عليه وآله» يخبر في قوله هذا عن أنّ أهل بيته «عليهم السلام» أمانٌ للأمّة من الاختلاف، وإذا كانوا كذلك فيلزم اتباعهم مطلقًا، ومن كان اتباعه واجبًا مطلقًا فلا يكون إلاّ معصومًا، ثم لو أنّهم كانوا يخطئون لجازت مخالفتهم في الخطأ بل تكون المخالفة واجبة في بعض الموارد، ولا يكون مخالفهم حينئذ من حزب إبليس، ولمّا أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» اعتبر مخالفهم مطلقًا من حزب إبليس علمنا أنّهم لا يخطئون، ومن لا يخطئ مطلقًا فهو معصوم، والنتيجة أنّ أهل البيت «عليهم السلام» معصومون.
هناك رواية ينقلها العلامة المجلسي «رحمه الله» في كتابه بحار الأنوار عن كتاب كفاية الأثر للخزاز القمّي «رحمه الله» يرويها الخزّاز القمّي بسنده عن الصحابي أبي سعيد الخدري، ومع قطع النّظر عن صحة هذه الرّواية من ناحية السند إلاّ أنّ دلالة مضمونها صحيح دلّت عليه روايات كثيرة ومنها ما هو صحيح سندًا، فمضمون هذه الرّواية مؤيدٌ ومؤكد لتلك الرّوايات، وفيها تصريح من النبي «صلى الله عليه وآله» بأنّ الأئمة «عليهم السلام» معصومون. يقول أبو سعيد الخدري: «سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: أهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء قيل: يا رسول الله فالأئمة بعدك من أهل بيتك؟ قال: نعم الأئمة بعدي إثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، أمناء معصومون، ومنّا مهدي هذه الأمّة، ألا إنّهم أهل بيتي وعترتي من لحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي» (8).
ومن النّصوص النبوية المرويّة في مصادر أهل السّنة الدّالة على عصمة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، ما رواه أبو يعلى الموصلي بسنده عن الصحابي أبي سعيد الخدري، أنّه قال: «كنّا عند بيت النبي «صلى الله عليه وآله» في نفر من المهاجرين والأنصار فخرج علينا فقال: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى، قال: خياركم الموفون المطيبون، إنّ الله يحب الحفيّ التّقي. قال: ومرّ علي بن أبي طالب فقال: الحقُّ مع ذا، الحقُّ مع ذا» (9).
فالنبي «صلى الله عليه وآله» يخبر على نحو الإطلاق بأنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» لا يفارق الحق، فهو مع الحق دائمًا وأبدًا، ولو أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لا يرى عصمة الإمام علي «عليه السلام» ويحتمل إمكانية وقوعه في الخطأ لما صحّ أنْ يخبر عنه بذلك وبهذا الشكل المطلق، فثبت أنّ قول النبي «صلى الله عليه وآله» هذا دليل على عصمة الإمام علي «عليه السلام».
ومنها ما رواه الحاكم النيسابوري عن زوج النبي «صلى الله عليه وآله» أم المؤمنين أم سلمة «رضي الله عنها» أنّها قالت أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (10).
والاستدلال بهذه الرّواية على عصمة الإمام علي «عليه السلام» شبيه وقريب من الاستدلال برواية أبي سعيد الخدري السالفة، فلو كان النبي «صلى الله عليه وآله» لا يرى عصمة الإمام علي «عليه السلام» ويحتمل وقوعه في الخطأ لما أخبر على نحو الإطلاق بأنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» لا يفارق القرآن والقرآن لا يفارقه، فلما أنْ أخبر «صلى الله عليه وآله» بهذه الطريقة المطلقة علمنا أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» معصوم.
وأيضًا من النّصوص الدّالة على عصمته «عليه السلام»، ما روي عن جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع عليًّا فقد أطاعني، ومن عصى عليًّا فقد عصاني» (11).
وفي قوله هذا يجعل النبي «صلى الله عليه وآله» طاعة الإمام علي «عليه السلام» كطاعته هو، ومعصية الإمام علي «عليه السلام» كمعصيته هو، ومن كانت طاعته كطاعة النبي «صلى الله عليه وآله»، ومعصيته كمعصيته تكون طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، لأنّ طاعة النبي طاعة لله، ومعصيته معصية لله، والنتيجة أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» تجب طاعته وتحرم معصيته، ومن جعلت الشريعة الإسلامية طاعته واجبة مطلقًا، ومعصيته محرّمة مطلقًا فلا يكون إلاّ معصومًا.
ولقد أثبتنا بالأدلّة في محاضرات وأحاديث سابقة أنّ العصمة شرطٌ أساسي في من تكون له الولاية العامة على النّاس، وبثبوت عصمة الأئمة من عترة النبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته وادّعاؤهم للإمامة وعدم ثبوت عصمة غيرهم ممن ادّعاها تثبت إمامتهم.
وكثيرة هي الرّوايات المأثورة عنهم والتي يصرّحون فيها بأنّ لهم الولاية على النّاس، وأنّهم حجج الله سبحانه وتعالى على خلقه وخلفاء نبيّه الأكرم «صلى الله عليه وآله» على أمّته، قال ابن أبي يعفور، قال لي الإمام أبو عبد الله «عليه السلام»: «يا ابن أبي يعفور إنّ الله تبارك وتعالى واحد متوحد بالوحدانية متفرد بأمره، فخلق خلقًا ففردهم لذلك الأمر فنحن هم، يا بن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده، وشهداؤه في خلقه، وأمناؤه وخزّانه على علمه، والدّاعون إلى سبيله، والقائمون بذلك، فمن أطاعنا فقد أطاع الله» (12).
______________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج1" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) الكليني، الكافي 1/191.
(2) الأحزاب: 33.
(3) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 1/176، رواية رقم: 332.
(4) لقد أثبتُّ في كتابي «من هم الخلفاء الرّاشدون؟» بالأدلة أنّ المراد بالخلفاء الرّاشدين في هذه الرّواية هم الأئمة الإثنا عشر الذين أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم، وأنّهم هم أئمة أهل البيت «عليهم السلام» الذين يعتقد الشيعة الإمامية بإمامتهم.
(5) انظر بعض نصوص هذا الحديث في صفحة 65 - 66 من هذا الجزء من الكتاب.
(6) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 2/486 و 3/163، وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».
(7) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/162، رواية رقم: 4715، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(8) المجلسي، بحار الأنوار 36/291.
(9) أبو يعلى، مسند أبي يعلى 2/318، رواية رقم: 1052، ورواه عن مسند أبي يعلى الهيثمي في مجمع الزّوائد 7/235، وقال: «رواه أبو يعلى ورجاله ثقات».
(10) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/134، رواية رقم: 4628،وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد».
(11) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/131، رواية رقم: 4617، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(12) الصّفار، بصائر الدّرجات، صفحة 81.