من أدلّة عصمة عترة النبي (1) (*)
قال العلاّمة محمد رضا المظفر: «ونعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أنْ يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا. كما يجب أنْ يكون معصومًا من السّهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشّرع والقوّامون عليه حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أنْ نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أنْ نعتقد بعصمة الأئمة، بلا فرق» (1).
سبق وأنْ أثبتنا أنّ الإمام القائم مقام النبي لا بدّ وأنْ يكون معصومًا، وعليه فمن قامة الأدلّة على عصمته من أفراد هذه الأمّة وثبت أنّه ادّعى الإمامة لنفسه ثبتت إمامته، وآية التطهير وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2)، تدل على عصمة أهل البيت المخاطبين فيها، وقبل بيان كيفيّة دلالتها على عصمتهم لا بدّ من تحديد المرادين بأهل البيت، فمن هم أهل البيت هؤلاء الذين خاطبهم الله تعالى في هذه الآية وأذهب عنهم الرّجس وطهرهم من كل دنس تطهيرًا؟
هناك عدّة أقوال وآراء في هذه المسألة، فقسم من علماء أهل السّنة يذهب إلى أنّ المقصود بأهل البيت في الآية خصوص زوجات النبي «صلى الله عليه وآله»، ومنهم من ذهب إلى القول بأنّ المقصود بأهل البيت زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» وبنو هاشم جميعًا، بينما ذهب الشيعة الإمامية ومعهم جمع من علماء أهل السنة (3) إلى أنّ المراد بأهل البيت هم النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» والسيّدة الزّهراء «عليها السلام» والإمامين الحسن الحسين «عليهما السلام».
ويستدل علماء الشيعة الإمامية ومن قال بقولهم من علماء أهل السنة إلى روايات عديدة رواها الفريقان سنّة وشيعة تدل على أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» حدد وخصص مفهوم أهل البيت في هذه الآية فيه وفي من جمعهم تحت كساءه وهم علي وفاطمة والحسن والحسين «عليهم السلام»، ومن هذه الرّوايات على سبيل المثال لا الحصر - وأنقل هنا روايات من مصادر أهل السنة - ما رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه عن عائشة زوج النبي «صلى الله عليه وآله» أنّها قالت: «خرج النبي «صلى الله عليه وآله» وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}» (4).
وما رواه الآجري في كتابه الشريعة عن أم سلمة «رضي الله عنها» أنّها قالت: «أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» كان في بيتها على منامة له تحته كساء خيبري، فجاءت فاطمة «رضي الله عنها» ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ادعي زوجك وابنيك حسنًا وحسينًا، فدعتهم، فبينا هم يأكلون إذْ نزلت على النبي «صلى الله عليه وآله» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» الكساء فغشاهم به، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا» (5).
وما رواه أبو عيسى الترمذي عن أم سلمة «رضي الله عنها» أنّها قالت: «أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساءً، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرّجس وطهرهم تطهيرًا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟! قال: إنّك إلى خير» (6).
هذه بعض النصوص الصحيحة والصريحة في دلالتها على أنّ النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد حدد المرادين بأهل البيت في آية التطهير فيه وفي من جمعهم معه تحت كسائه، وأنّ آية التطهير نزلت فيهم وليس في نساء النبي «صلى الله عليه وآله» كما يدّعي أصحاب الرأي الأول، ولا يشمل مفهوم أهل البيت فيها جميع بني هاشم مع زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» كما يذهب إلى ذلك فريق آخر.
وسلك النبي «صلى الله عليه وآله» مسكًا آخر لتخصيص الآية بأصحاب الكساء «عليهم السلام»، فقد أثبتت الرّوايات أنّه وبعد نزول هذه الآية كان يأتي كل صباح وقت صلاة الفجر وعلى مدى ستة أشهر أو تسعة أشهر - حسب اختلاف الرّوايات - إلى باب دار علي وفاطمة «عليهما السلام» ويقرأ الآية الكريمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فيروي الحاكم النيسابوري وغيره عن أنس بن مالك قال: «أنّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر، يقول: الصلاة يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}» (7).
ومما يؤيد ويؤكد نزولها في أصحاب الكساء «عليهم السلام» واختصاصها بهم ما ورد في بعض روايات أهل السنة من تصريح للإمام الحسن بن علي بن أبي طالب «عليه السلام» بنزولها فيهم، ففي مجمع الزّوائد للهيثمي، قال: «إنّ الحسن بن علي حين قتل علي استخلف، فبينا هو يصلّي بالنّاس إذْ وثب إليه رجل فطعنه في وركه، فتمرّض منها أشهر، ثم قام فخطب على المنبر، فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنّا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله عزّ وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فما زال يومئذ يتكلم حتّى ما ترى في المسجد إلاّ باكيًا» (8).
وصرّحت بنزولها في أصحاب الكساء السيّدة أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي «صلى الله عليه وآله» فروى عنها حكيم بن سعد أنّها قالت: «نزلت هذه الآية في رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعلي وفاطمة وحسن وحسين «عليهم السلام» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}» (9).
وصرّح بنزولها فيهم الصحابي أبو سعيد الخدري، ففي معجمي الطبراني الأوسط والصغير، روى بسنده عن أبي سعيد الخدري في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ...} قال: «نزلت في خمسة؛ في رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين» (10).
وصرّح بذلك أيضًا الإمام جعفر بن محمد الصادق «عليه السلام» فعن عبد الرّحمن بن كثير قال: «قلت لأبي عبد الله «عليه السلام»: ما عنى الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}؟
قال: نزلت في النبي «صلى الله عليه وآله»، وأمير المؤمنين، والحسن، والحسين، وفاطمة، «عليهم السلام». فلما قبض الله نبيه، كان أمير المؤمنين، ثم الحسن، ثم الحسين «عليهم السلام»، ثم وقع تأويل هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (11)، فكان علي بن الحسين «عليه السلام»، ثم جرت في الأئمة من ولده الأوصياء، فطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله» (12).
ومن ذهب من علماء أهل السنة إلى أنّ الآية الكريمة نزلت في زوجات النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» لم يستند إلاّ إلى دليل السياق، وهو وقوع الآية بين آيات يخاطب الله سبحانه وتعالى فيها زوجات النبي «صلى الله عليه وآله»، ولكن هذا الدّليل لا يمكن اعتماده والأخذ به هنا لوجود النصوص الصريحة والصحيحة الثابتة عن النبي «صلى الله عليه وآله» والتي خصص فيها مفهوم أهل البيت في الآية بأصحاب الكساء، فهي حجة تجعلنا نرفع اليد عن دليل السياق (13)«فمع وجود الحجة من أحاديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» الصحيحة التي خصّصت مفهوم أهل البيت في الآية الكريمة في غير الزّوجات، يقدّم هذا الدليل الرّوائي على دليل السياق، والقول بخلاف ذلك هو اجتهاد في مقابل النّص وهو من كبائر الذّنوب» (14).
ثم أنّه لم تدّع واحدة من زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» أنّ الآية خاصة بهن ونزلت فيهن ولا أنّها تشملهن، بل ورد عن بعضهن أنّها نزلت في أصحاب الكساء، قال العلامة السمعاني: «وذهب أبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وجماعة كثيرة من التابعين منهم مجاهد، وقتادة، وغيرهما، أنّ الآية في أهل بيت النبي وهم علي وفاطمة والحسن والحسين» (15).
وقال ابن الجوزي: «والثاني (16): أنّه خاص في رسول الله «صلى الله عليه وآله» وفاطمة وعلي والحسن والحسين، قاله أبو سعيد الخدري، وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك» (17).
بعد أنْ علمنا أنّ المعنيين بأهل البيت في مفهوم أهل البيت في آية التطهير هم الخمسة أصحاب الكساء وهم النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» وعلي وفاطمة والحسن والحسين «عليهم السلام» ننتقل إلى الحديث عن دلالة هذه الآية على عصمتهم.
والاستدلال بها على عصمتهم يتوقف على معرفة معنى الرّجس ونوع الإرادة فيها، فالرّجس في الأصل هو الشيء القذر، وذكر المفسّرون مصاديق عديدة يمكن أنْ يقع عليها عنوان الرّجس وتوصف به، كالذّنب، والإثم، والشرك، والشّك، والنجاسة، وغير ذلك، وفسّره عبد الله بن عبّاس بـ «عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا» (18)، وقال المفسر المشهور مجاهد: «الرجس: ما لا خير فيه» (19). وبما أنّ لفظة الرّجس في الآية محلاة بـ «أل الجنسية» فهي تشمل كل فرد من أفراد الرّجس، فأهل البيت «عليهم السلام» منزّهون عن كل النقائص مما لا خير فيه وليس لله فيه رضا، وذلك لأنّ الإرادة في هذه الآية إرادة تكوينية والمراد لله سبحانه وتعالى بهذه الإرادة واقع قطعًا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (20)، ويستدل على أنّها تكوينية بالحصر الموجود في بداية الآية بأداة الحصر {إِنَّمَا} والتي تعتبر من أقوى أدوات الحصر في لغتنا العربية، فقد حصرت المراد في الآية وهو إذهاب الرّجس والتطهير بالمخاطبين بها، ولو كانت الإرادة تشريعية لما قصرت على أهل البيت «عليهم السلام» لأنّ الله عزّ وجل أراد بإرادته التشريعية لجميع المكلّفين تطهير أنفسهم من الرّجس من خلال امتثالهم للتكاليف الإلهية لا أنّه أراد ذلك من أهل البيت «عليهم السلام» فقط، وعليه فأهل البيت «عليهم السلام» منزّهون عن الذنب والمعصية وعن السهو والخطأ والنسيان، لأنّ كلّ ذلك من أفراد الرّجس مما لا خير فيه وما ليس لله فيه رضا، وتنزيههم عن كل ذلك هو عين العصمة التي يقول بها الشيعة الإمامية ويدعونها للأئمة من أهل البيت «عليهم السلام».
والخلاصة: لقد أثبتنا سابقًا أنّ الإمام يلزم أن يكون معصومًا وثبت بدلالة آية التطهير عصمة ثلاثة من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» وهم الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» والإمام الحسن بن علي «عليه السلام» والإمام الحسين بن علي «عليه السلام» وثبت بأدلة عديدة أنّ هؤلاء ادّعوا الإمامة وأنّهم أحق بها من غيرهم ولازم عصمتهم أن تكون دعواهم صحيحة، والنتيجة أنّ آية التطهير تدل بالدلالة الالتزامية على إمامة هؤلاء الأئمة من أهل البيت «عليهم السلام».
______________________
(*) المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج1" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) المظفّر، عقائد الإمامية، صفحة 67.
(2) الأحزاب: 33.
(3) ذكرت في كتابي «آية التطهير فوق الشبهات» صفحة 21 أقوال جمع من علماء أهل السنة في اختصاص الآية بأصحاب الكساء فراجع.
(4) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم 4/1883، رواية رقم: 2424.
الآجري، الشريعة 3/343، رواية رقم: 1753، وقال محقق كتاب الشريعة محمد نبيه سيف النّاصر: «إسناده صحيح».
(5) أبو عيسى الترمذي، سنن الترمذي 6/175، رواية رقم: 3871، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
(6) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3/172، رواية رقم: 4748، أبو عيسى الترمذي، سنن الترمذي 5/352، رواية رقم: 3206.
(7) الهيثمي، مجمع الزّوائد 9/172، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله ثقات».
(8) الهيثمي، مجمع الزّوائد 9/172، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله ثقات».
(9) الطحاوي، شرح مشكل الآثار 2/236.
(10) الطبراني، المعجم الأوسط 3/380، رواية رقم: 3456، المعجم الصغير، صفحة 231، رواية رقم: 375.
(11) الأنفال: 75.
(12) ابن بابويه، الإمامة والتبصرة من الحيرة، صفحة 48.
(13) قال الطبري في تفسيره 9/389: «فغير جائز صرف الكلام عمّا هو في سياقه إلى غيره إلاّ بحجة يجب التسليم لها، من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرّسول تقوم به حجة، فأمّا الدّعاوى فلا تتعذّر على أحد».
(14) حسن العجمي، آية التطهير فوق الشبهات، صفحة 41.
(15) السّمعاني، تفسير السّمعاني 4/281.
(16) أي الرأي الثاني من الآراء الواردة في المراد بأهل البيت في الآية.
(17) أبو الفرج الجوزي، زاد المسير في علم التفسير 6/381 - 382.
(18) البغوي، تفسير البغوي 3/528.
(19) السّيوطي، الدّر المنثور 3/356.
(20) يس: 82.