تسبيح الكون (*)
{تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهنّ، وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليمًا غفورًا} (1).
الآية الكريمة واحدة من الآيات القرآنية التي تنبّه الإنسان على المظاهر والموجودات الكونية الأخرى المحيطة به، وعلى مدى صلتها وارتباطها الوجودي والوظيفي به وبدوره في هذه الحياة. فمظاهر الحياة وكائناتها هي كلها "تسبّح" لبارئها (جلّت قدرته)، هكذا يصرّح القرآن الكريم، لكن بأي معنى هو هذا التسبيح؟ وما مظهره؟
هنا اتجاهات لدى المفسرين في بيان المراد:
الاتجاه الأول: ذهب فيه معظم المفسرين، على اختلاف مدارسهم الفكرية ومناهجهم التفسيرية، وخلاصته أنّ التسبيح المقصود هنا ليس التسبيح القولي، فمن الواضح أنْ ليس كل الموجودات تقدر عليه؛ فمنها ما لا عقل له، ومنها لا حياة فيه، وإنما المراد هو التسبيح الحالي، فهي جميعًا تدل بحالها على تسبيح خالقها، وليس بلسانها، أو بعبارة أخرى: هي تسبّح بلسان الحال وليس بلسان القول.
والاتجاه الثاني: اختاره بعض المفسرين، منهم صاحب الميزان، وحاصله أنّ المراد في الآية الشريفة هو التسبيح القولي، فكل الموجودات تسبّح بأقوالها، لكنها ليست أقوالًا نفهمها نحن البشر، فهي بأجمعها حيّة بدرجة معينة من الحياة لا نعيها نحن، وهي كلها ذوات علم وإدراك من درجة ما، وإن خفي ذلك علينا لقصورنا وعجزنا.
وقد استند أصحاب هذا الاتجاه فيما ذهبوا إليه إلى مجموعة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة، فمن الآيات القرآنية:
- {وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء، وإنّ منها لما يهبط من خشية الله} (2).
- {ولقد آتينا داود منا فضلًا، يا جبال أوّبي معه والطير}(3).
- {إنّا سخّرنا الجبال معه يسّبحن بالعشيّ والإشراق} (4).
ومن المرويات التي اعتمدوا عليها:
- نهى رسول الله (ص) عن قتل الضفدع، وقال: "نعيقها تسبيح" (5).
- "ما صيد طير في السماء ولا سمك في الماء حتى يدع ما افترض الله عليه من التسبيح" (6).
- "عن أبي حمزة الثمالي قال: "قال محمد بن علي بن الحسين (ع) وسمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا، قال: يسبحن ربهن عز وجل ويسألن قوت يومهن" (7).
- عن أبي حمزة قال: "كنا مع علي بن الحسين (ع) فمرّ بنا عصافير يصحن، فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا، قال: أما إني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكني سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول: إنّ الطير إذا أصبحت سبّحت ربها، وسألته قوت يومها، وإنّ هذه تسبّح ربها، وتسأله قوت يومها" (8).
- عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (ع) عن أبيه (ع) أنه دخل عليه رجل، فقال: "فداك أبي وأمي، إني أجد الله يقول في كتابه: {وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، فقال له: هو كما قال. فقال: أتسبّح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض؟ وذلك تسبيحه، فسبحان الله على كل حال" (9).
جدير بالذكر هنا أنّ بعض المفسرين المائلين إلى الاتجاه الأول حاولوا الإشكال على اعتماد أصحاب الاتجاه الثاني على هذه الروايات، بناءً على أنّ "هذه المجموعة من الأحاديث والروايات، والتي لبعضها معانٍ دقيقة، تُظهر أنّ التسبيح العام للموجودات يشمل كل شيء بدون استثناء، وكل هذا يتطابق مع ما ذكرناه في التفسير الثاني، أي أنّ التسبيح هو تسبيح تكويني أو تسبيح بلسان الحال" (10).
فهذا الإشكال، إذن، يريد أن يمنع دلالة هذه الروايات على معنى التسبيح القولي، ذاهبًا إلى أنها منسجمة مع كون التسبيح بلسان الحال.
لكنّ الإنصاف أنّ هذا الإشكال ليس في محله؛ ذلك أنّ في مضامين هذه الروايات مدلولات قد لا تنسجم مع إرادة التسبيح بلسان الحال، من مثل كون التسبيح في أوقات معينة دون سواها (الطيور في الصباح مثلًا)، ووجود حالات ينقطع فيها التسبيح. ومن الواضح أنّ التسبيح بلسان الحال لا يختص بوقت دون آخر، ولا ينقطع أبدًا ما دام الشيء المسبّح موجودًا. هذا إضافة إلى دلالة الروايات على كون التسبيح متضمنًا معاني معينة مقصودة بأعيانها، مما يكشف عند المعصومين (ع) عن "إدراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن، ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره ويناسبه من الألفاظ والكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى" (11).
والاتجاه الأخير في المقام: هو ما اصطفاه بعض المفسرين من أنّ التسبيح الكوني المقصود في الآية الشريفة محل بحثنا هو تركيب من لساني الحال والقول، فهو تسبيح تكويني وتشريعي؛ ذلك "لأنّ أكثر البشر وكل الملائكة يحمدون الله عن إدراك وشعور، وكل ذرات الوجود تتحدث عن عظمة الخالق بلسان حالها" (12).
وهذا الاتجاه هو، في الحقيقة، جمعٌ بين الاتجاهين السابقين ومحاولة للتوفيق بينهما، دون أن يكون فيه جديد يُضاف إليهما.
ثم إنّ الآية المباركة بعد ذكرها التسبيح ذكرت التحميد أيضًا، فقالت: {وإنْ من شيء إلا يسبّح بحمده}. وإذا كان التسبيح هو التنزيه عن النقائص، فإنّ التحميد هو الثناء على الجميل الاختياري، فكأنّ الآية بهذا تشير إلى أنّ للموجودات كافة دلالة على جهتين اثنتين:
أ- جهة نقصانها في ذواتها، وهذه الجهة تدعو إلى تنزيه خالقها عن هذه النقائص، أي تدعو إلى التسبيح.
ب- جهة كمال من يسدّ نقصها، وهذه هي الجهة الداعية إلى التحميد.
وبعد هذا كله، ذكرت الآية تعبيرًا استوقف المفسرين والباحثين، وهو قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، فهذا التعبير مفهوم تمامًا بناءً على الاتجاه الثاني الذاهب إلى كون التسبيح المقصود قوليًا، إذ من الواضح والجلي أنّنا لا نفقه ما تقوله المخلوقات الكونية في تسبيحها بلسان قولها المختص بها. لكن، كيف نفهم هذا التعبير القرآني بناءً على الاتجاه الأول القائل بكون التسبيح بلسان الحال؟ فقد يقال إنّ من الواضح لنا جميعًا أنّ المخلوقات كلها تنزّه خالقها بلسان حالها المفتقر إليه، فليس هذا، إذن، مما لا نفقهه.
أجاب صاحب "الأمثل" بإجابتين، حاصلهما:
أ- الخطاب هنا ليس موجهًا لكل الناس، بل إلى الأكثرية الجاهلة منهم، لا سيما المشركون، فهؤلاء هم الذين لا يفقهون ذلك التسبيح، أما العلماء المؤمنون فوضعهم مختلف.
ب- إنّ هذا الذي نعلمه من هذا التسبيح ليس سوى نزر يسير من أسرار الكون الهائل، وهذا القليل ملحق بالعدم، فكأنه ليس بشيء؛ لذا صحّ أن يقال إننا لا نفقه تسبيح الموجودات (13).
واختتمت الآية بـ {إنه كان حليمًا غفورًا}، ومناسبة اختيار هاتين الصفتين الإلهيتين تحديدًا (الحلم والمغفرة) هو ارتباطهما الوثيق بكونه – سبحانه – لا يستعجل بتعذيب أولئك الذين لا يؤمنون به، على الرغم من كل الآيات والشواهد والأدلة الدالة عليه، جلّ وعلا.
وجدير بنا هنا التوقف عند بعض عطاءات هذه الآية الشريفة:
العطاء الأول:
يريد الإسلام من المسلم أن ينظر إلى كل الموجودات الكونية نظرة خاصة، يراها بها قريبة من نفسه، شريكة معه في عبادة ربه والإخلاص له سبحانه. وهذه النظرة من شأنها أن تجعل المسلم ينظر إلى كل شيء من حوله نظرة حنان ورعاية، لا نظرة عداء وتسلّط وتحدٍّ.
وفي الأحاديث الشريفة ورد الكثير من الحث على التعامل الرفيق السليم مع مظاهر الوجود، لا سيما الحيوانات الأليفة التي هي الأقرب صلة بحياة الإنسان. فمن هذا مثلًا:
- النبي (ص): "لا تضربوا وجوه الدواب، فإنّ كل شيء يسبّح بحمده" (14).
- وعنه (ص) أنه مرّ على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: "اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرًا لله منه" (15).
- وعنه (ص) أيضًا: "الزرع يسبّح، وثوابه للّذي زرع" (16).
- وعن الإمام الصادق (ع): "نهى رسول الله (ص) عن أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها؛ لأنها تسبّح بحمد ربها" (17).
العطاء الثاني:
لا يفتأ القرآن الكريم يذكّر الإنسان بمدى جهله بهذا الكون وما فيه من الموجودات {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، وهو بهذا يدفع الإنسان دفعًا نحو رفع ما يمكنه رفعه من هذا الجهل العظيم، ليبحث في آفاق هذا الكون ويتعرف مجاهله ويستكشف أسراره.
إنّ هذا الموقف القرآني يحمل درسًا مهمًا لهذا الإنسان، خلاصته: إنّ طريق العلم والتعلم يبدأ حقيقةً من الاعتراف بالجهل ثم السعي نحو رفعه، فعلاج المرض لا يكون إلا بعد أن يعرف المريض أنه مريض، ثم يبذل جهده للمعالجة. أما إذا أصر المريض على كونه معافى سليمًا، وظل الجاهل يرى نفسه عالمًا، بل لربما صار معجبًا بهذا العلم الذي يتوهمه، فهذا طريق الخسران المبين، وقد قال رسول الله (ص) في هذا: "من قال إني عالم فهو جاهل.
العطاء الثالث:
إذا كان الكون كله، بجميع ما فيه من مخلوقات على اختلافها وتنوعها، يسبّح الله – جل وعز- ويحمده، فكيف يسمح الإنسان لنفسه بأن يخرج على هذا النظام الآفاقي البديع ويشذّ عنه؟ يحصل ذلك حينما يغفل عن عبادة ربه ويطيع شيطانه، فيهيم على وجهه في فيافي المعاصي، ويذيق قلبه ظمأ الحرمان من معين طاعة الله وعذوبة عبادته، ويقبل لنفسه أن يستبدل العاجلة بالآجلة، والمعصية بالطاعة. وقد قال رسول الله (ص): "بئس العبد عبد خُلق للعبادة، فألهته العاجلة عن الآجلة، وشقي بالعاقبة" (18).
العطاء الأخير:
ذكر التسبيح والتحميد في الآية الشريفة يشير إلى أنّ الإنسان محتاج لأجل السير الحقيقي في طريق تكامله إلى عاملين مهمين اثنين: إلى تذكّر نقصه، وإلى استحضار كمال ربه. فكونه يتذكر أنه ناقص وضعيف وفقير ومسكين سيجعله يحرك كل طاقاته ويبذل كل إمكاناته نحو التكامل والارتفاع وبلوغ ما تقرّ به عينه. وهو ذا أمير المؤمنين علي (ع) يقول في دعائه: "وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين" (19).
وكون الإنسان يستحضر، في المقابل، كمال ربه سيجعله يرتبط بربه وينجذب نحوه؛ لأنّ الإنسان بفطرته طالب للكمال ومنشدّ نحوه، فإذا ما أيقن أنّ إلهه هو الكمال محضًا دون أن تشوبه أية شائبة من نقص أو تعتريه أية حالة فقر أو جهل أو بخل، فإنّ هذا حريّ بأن يجعل هذا الإنسان لا يرتضي الابتعاد عن ربه مهما كانت المغريات عظيمة. يقول الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة من المناجيات الخمس عشرة المروية عنه: "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلًا؟ ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولًا؟"(20).
إنّ استحضار هذين الجانبين معًا سيحقق في وجدان الإنسان توازنًا بين جانبي الخوف والرجاء؛ ذلك أنّ استحضاره نقصه وضعفه سيدفعه نحو الخوف على نفسه والقلق على مصيره الأخروي، لكن استحضاره كمال ربه وسعة عفوه وعظيم رحمته سيدعوه إلى الأمل وانتظار رحمته. وكثيرة هي الأدعية التي نجد المعصومين فيها يقرنون بين جانبي الخوف والرجاء انطلاقًا من استحضارهم الضعف الإنساني في مقابل الكمال الإلهي، منها مثلًا الدعاء الذي يقول فيه الإمام السجاد (ع): "إلهي كيف أدعوك وأنا أنا؟ وكيف أقطع رجائي منك وأنت أنت؟" (21)، ومنها أيضًا دعاء أبي حمزة الثمالي الذي يقول فيه الإمام السجاد (ع) أيضًا: "أدعوك يا رب راهبًا راغبًا، راجيًا خائفًا، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت" (22).
(*) المصدر كتاب "الإنسان والحياة.. نظرات قرآنية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.