الدعوة للحياة (*)
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون} (1).
دعوة قرآنية موجهة إلى الذين آمنوا، تخاطب فيهم إيمانهم، وتريدهم أن ينطلقوا من منطلقه، وينظروا من منظوره؛ ليأخذهم في طريق الاستجابة لله تعالى ولرسوله الأكرم محمد (ص) حين تُوجه إليهم الدعوة لما يحييهم. وفي الآية المباركة دلالة على أنّ ما يدعو إليه الرسول هو نفسه ما يريده الله سبحانه، فالآية بعد أن قالت: {استجيبوا لله وللرسول} لم تقل: "إذا دعواكم" بصيغة التثنية، بل قالت: {إذا دعاكم} بصيغة الإفراد، مما يشير إلى أنّ الدعوة هي أساسًا دعوة الله تعالى، وما الرسول سوى مبلّغ لها.
لكن، ما المراد من قوله: {لما يحييكم}؟
اختار جمع من المفسرين لهذا التعبير القرآني معاني مقيدة ذوات دوائر ضيقة، فقيل: إنّ المراد إذا دعاكم إلى القرآن، وإلى الإيمان، وإلى ولاية الإمام علي (ع)، وإلى الجهاد، وإلى الشهادة، وإلى الجنة. وهذه المعاني – وإن دلت على بعضها روايات مروية – هي من باب بيان بعض المصاديق، أو بعبارة أخرى هي من قبيل "الجري" كما يعبّر صاحب الميزان (2)، فالتعبير القرآني هنا مطلق، وينطبق على الحياة بكل تجلياتها ومجالاتها، فالإسلام هو في واقعه دعوة للحياة في كل صورها وأبعادها: الحياة المعنوية، والحياة المادية، والحياة الاقتصادية، والحياة الثقافية، والحياة السياسية، والحياة الخلقية، والحياة الاجتماعية...إلخ. والتمسك بهذا الإطلاق الموجود في الآية المباركة من شأنه أن يعطينا هذا الفهم الواسع والمدلول الفسيح، بدلا من حصر دائرة الدلالة القرآنية في مصداق معين دون غيره من المصاديق الكثيرة. علمًا أنّ من المفسرين من مال إلى أنّ المراد هنا الحياة الأخروية (لا الدنيوية)، فهي الحياة الحقة في المفهوم القرآني: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (3).
بعد هذا، تريد الآية الكريمة من المؤمنين أن يعلموا حقيقة مهمة مفادها {أنّ الله يحول بين المرء وقلبه}، والقلب هو العضو الصنوبري الشكل المعروف في الجسم، وكثيرًا ما يُستعمل في القرآن الكريم للدلالة على القوة التي يستطيع بها الإنسان أن يدرك ويحكم، وأن يُظهر بها عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء وغيرها، فهو "النفس الإنسانية" بتعبير بعض المفسرين (4)، وهو "الروح والعقل" بتعبير غيره (5).
لكن، ما معنى حيلولة الله بين المرء وقلبه؟
من الواضح أنها ليست حيلولة مادية حسية؛ لأنّ الله تعالى منزّه عن الحسية والمادية، إذ {ليس كمثله شيء} (6)، وإنما هي كناية عن القرب الإلهي من الإنسان {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (7)، وهذا القرب ليس مكانيًا حسيًا أيضًا، وإنما هو قرب علم وإحاطة وربوبية ومالكية.
لقد ذكر المفسرون لهذه الحيلولة أبعادًا، أهمها:
أ- الاستجابة لله وللرسول ينبغي أن تكون متعمقة في قلب الإنسان، مثلما تبرز خارجًا على لسانه وكل جوارحه، فلا يضمر الإنسان في قلبه التكذيب أو الشك فيكون منافقًا.
ب- إذا وجد الإنسان نفسه مهتديًا سائرًا في طريق الله تعالى، فلا يحسبنّ أنّ هذا راجع إلى قدراته ومواهبه الذاتية، بل إنما كان هذا بتوفيق من الله سبحانه وفضل {واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه}، ولو أنه تعالى أراد سلب ذلك من عبده لما أعجزه شيء ولما منعه مانع.
ج- في حالة عدم إقبال الإنسان على الهدى وعدم إجابته نداء ربه ووقوعه في الانحرافات، عليه ألّا يكون يؤوسًا قنوطًا، فاقدًا كل الأمل في العودة، بل عليه أن يثق بأنّ الله سبحانه قادر على هدايته إن شاء {واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه}.
وتختتم الآية بقوله (عزّ من قائل): {وأنه إليه تُحشرون}، وفي هذا المقطع الشريف نلاحظ استعمالًا لأسلوب القصر المتمثل في تقديم ما حقه التأخير، أي تقديم الجار والمجرور (إليه) على المتعلّق (تحشرون)، فالآية لم تقل: "تحشرون إليه" كما هو الأصل في أن يتقدم متعلق الجار والمجرور، بل قالت: {إليه تحشرون}، وهذا يفيد الدلالة على أنّ الحشر مقصور على كونه إليه هو سبحانه دون غيره. ووجه ارتباط هذا القصر بالكلام السابق متمثل في أنّ يوم الحشر هو يوم ظهور حقائق الأشياء وارتفاع الحجب الغيبية، فكأنّ الآية الكريمة تريد أن تقول: واعلموا أنّ الله تعالى هو الذي يملككم ويملك قلوبكم في الحقيقة، وهو أقرب إليكم من كل شيء، وأنكم ستحشرون إليه فتظهر لكم عندئذ حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم، فلا يغني عنكم أي شيء منه.
إنّ في الآية دروسًا مهمة علينا أن نتعلمها منها:
الدرس الأول:
الحياة الحقة هي تلك التي يدعو الدين إليها ويريد من الناس أن يصلوا إليها، فمن يردها بصدق فما عليه سوى أن يستفيد في حياته من العطايا العظيمة التي يمنحها الدين للحياة الإنسانية. ورد عن الإمام علي (ع) أنه قال: "لا حياة إلا بالدين، ولا موت إلا بجحود اليقين..." (8).
إنّ إبعاد الدين عن الحياة يساوي – في نظر الإمام علي وهو نظر الإسلام – الموت. لكن، ومع هذا، فمن المؤسف أن نجد بين المسلمين أناسًا يدعون إلى عزل الدين عن هذه الحياة وحصره في جوانب ضيقة لا تكاد تتجاوز دائرة العبادات بالمعنى الخاص، كالصلاة والصيام والحج...إلخ.
ولئن كانت دعوات هؤلاء تكاد لا تجد لها آذانًا مصغية وعقولًا متقبلة عند معظم المسلمين، إنّ هناك من هم أخطر منهم وأضلّ سبيلًا، أعني بهم أولئك الذين لا يتورعون عن التهجم على بعض تشريعات الإسلام معتمدين على خلفيات فكرية وآراء ثقافية استقوها من مصادر مختلفة غير دينية في الغالب، فتراهم يقولون إنّ الحكم الشرعي الفلاني يتعارض مع الحرية الفكرية، وذاك لا ينسجم مع كرامة المرأة وإنسانيتها، وذلك لا يتلاءم مع حقوق الإنسان، وقد يضعون أيديهم على أحكام وتشريعات دينية يرونها غير متناسبة مع مقتضيات الزمان وظروف العصر.
مشكلة هؤلاء جميعًا، في الأساس، هي أنهم لم يفهموا الحياة مثلما يدعو إليها الإسلام، ولم يستجيبوا لله وللرسول في دعوتهما للحياة كما ينبغي أن تكون، بل عمدوا إلى فهمها من مصادر وجهات شتى، قد لا يكون لها أو لأكثرها صلة بالإسلام وفكره، ثم أتوا ليحاكموا نظرات الدين ومعتقداته وشرائعه وفقًا لما فهموه واقتنعوا به، فما لم يكن متناسبًا ومنسجمًا مع هذا فلا يستحق أن يكون!
الدرس الثاني:
لأجل نيل الحياة التي تتحدث عنها الآية الكريمة، لا بد أن تكون استجابتنا لله وللرسول استجابة مطلقة، في كل الجوانب المتعلقة بالحياة، لا أن تكون القضية انتقائية راجعة إلى أمزجتنا ونظراتنا التي تبيح لنا أن نختار من الدين ما نراه مناسبًا لنا.
إنّ معنى الإسلام، في الواقع، هو التسليم المطلق لأمر الله تعالى. عن الإمام علي (ع) أنه قال: "الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل" (9). والإيمان أيضًا لا يكون ذا قيمة حقيقية إذا لم يتضمن الإذعان الواقعي لما يريده الله ورسوله، قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (10).
يُنقل أنّ "في بعض أسفار النبي (ص) لقيه ركب، فقال (ص): ما أنتم؟ قالوا: نحن مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والتفويض إلى الله تعالى. فقال: علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون" (11).
نعم، إنّ الغنيمة الكبرى لا تكون إلا بطاعة الله تعالى فيما أراده منا في كل الجوانب والأبعاد والمجالات، فبذا تتحقق لنا قرة العين. عن الإمام علي (ع) أنه قال: "أطع تغنم" (12)، وقال: "الطاعة قرة العين" (13).
الدرس الأخير:
بما أنّ الله تعالى {يحول بين المرء وقلبه} فإنّ هذا يستلزم ألّا تقتصر استجابتنا لما يريده الله منا على الاستجابة الخارجية في أفعالنا وأقوالنا، بل لا بد للاستجابة من أن تكون متعمقة في قلوبنا، راسخة فيها.
قد يلاحظ في كثير من المجتمعات الإسلامية والأوساط الدينية أنّ ثمة أناسًا يتقيدون بأحكام الشرع ويلتزمون بما يريده الدين منهم، لكن هذا الالتزام وذاك التقيّد إنما يرتبطان بما يصدر منهم من عمل أو قول، فلا يتعلقان بأعماق قلوبهم التي لربما تكون سابحة في بحار الشكوك أو – وهذا أدهى – يكون فيها شيء ما من عدم الرضا والتسليم لأمر الله تعالى.
إنّ علينا أن نكون على يقين تام من أنّ الله سبحانه لا يريد لنا إلا مصلحتنا وخيرنا، وكل أحكامه الشرعية إنما هي في هذا المصب تصب، أدركنا ذلك أو لم ندركه بسبب قصور عقولنا المحدودة. وإذا كان الوضع هكذا، فلا مجال أمام العاقل يبقى إلا الإقبال القلبي والإذعان النفسي بكل ما جاءه الشرع به. فعن رسول الله (ص) أنه قال في حجة الوداع: "يا أيها الناس، والله ما من شيء يقرّبكم من النار، ويباعدكم من الجنة، إلا وقد نهيتكم عنه" (14)، وعن الإمام أمير المؤمنين علي (ع) قوله: "إنه – أي الله تعالى – لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح" (15).