الإمام علي أفضل الرّعية
حسن عبد الله العجمي
قال العلامة الحلّي: «الإمام يجب أنْ يكون أفضل الرّعيّة مطلقًا» (1).
يعتقد الشيعة الإمامية الإثنا عشريّة أنّ الإمام القائم مقام النبي «صلى الله عليه وآله»، والذي يخلفه على أمته ويكون القيّم على الأمّة من بعده، يجب أنْ يكون أفضل الرّعيّة مطلقًا، لأنّ الإمام مقدّم على الجميع، فإذا كان هناك من هو أفضل منه لزم من ذلك تقديم المفضول على الفاضل، وهو قبيح عقلًا وسمعًا.
فالعقل يحكم بقبح تقديم شخص مبتدئ في الفقه على فقيه شهد أهل الخبرة بأعلميته وتضلّعه في عملية استنباط الأحكام الشرعيّة. وأمّا سمعًا فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (2).
ولعلّ الحديث الذي رواه بعض علماء أهل السنة عن النبي الأكرم وهو قوله «صلى الله عليه وآله»: «من استعمل عاملًا من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله، ورسوله، وجميع المسلمين» (3) يصبّ في هذا المعنى، وهو قبح تقديم المفضول على الفاضل، وإذا كان ذلك قبيحًا عقلًا ونقلًا فعليه يثبت أنّ من يشغل منصب الإمامة هو أفضل أهل زمانه.
ولذلك يذهب الشيعة الإمامية إلى أنّ الأئمة الإثنى عشر من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» الذين يعتقدون بأنّهم أئمة الأمّة وقادتها وخلفاء النبي «صلى الله عليه وآله» عليها أفضل الأمّة مطلقًا، فلا يوجد في زمان الواحد منهم من هو أفضل منه، ويسوقون لإثبات أفضليتهم على سائر أفراد الأمّة العديد من النصوص الشريفة.
وبما أننا نعيش في هذه الليلة ذكرى ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فسأذكر لكم شيئًا مما ورد في فضله «عليه السلام» مما يدل على أنّه أفضل الأمّة بعد النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، ولن أذكر شيئًا من رواياتنا، فرواياتنا في إثبات أفضليته كثيرة جدًّا، وإنّما سأنقل لكم مما ورد في كتب ومصادر علماء إخواننا أهل السنة، فمن ذلك الحديث المعروف بحديث الطائر المشوي. أخرج هذا الحديث العديد من محدّثيهم ومنهم العلامة ابن عساكر في تاريخه المعروف بتاريخ مدينة دمشق، فروى بسنده عن أنس بن مالك أنّه قال: «أهدي إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أطيارٌ فقسمها وترك طيرًا، فقال: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فجاء علي بن أبي طالب فدخل يأكل معه من ذلك الطير» (4).
هذا الحديث يدلُّ على أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» أحبُّ الخلق إلى الله سبحانه وتعالى بعد النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، ومن كان أحب الخلق إلى الله عزّ وجل فهو أحبّهم إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، ومن كان أحبّهم إلى الله ونبيّه فهو أفضلهم عندهما وأخصّهم وأقربهم منزلة لديهما، وعليه يكون هذا الحديث دليلًا على أفضليّة الإمام علي «عليه السلام» على جميع الصحابة.
ومن أدلّة أفضليته على الجميع ما ورد من جعل النبي «صلى الله عليه وآله» له «عليه السلام» كنفسه، فلما أنْ أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيّه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (5)، وذلك في حادثة مباهلة نصارى نجران، لم يُخرج النبي «صلى الله عليه وآله» معه لمباهلتهم إلاّ فاطمة الزهراء «عليها السلام»، والإمام علي «عليه السلام» والإمامين الحسن والحسين «عليهما السلام»، فجعل مصداق أبنائنا في الآية الكريمة الحسن والحسين «عليهما السلام»، ونساءنا فاطمة الزهراء «عليها السلام»، وأنفسنا الإمام علي «عليه السلام»، ولا شكّ أنّ من كانت نفسه كنفس النبي «صلى الله عليه وآله» ولأنّ النبي أفضل النّاس فمساويه ومن نفسه كنفسه يكون مثله، فدلّ ذلك على أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» أفضل الجميع بعد النبي «صلى الله عليه وآله».
قال العلّامة الآجري، وهو من كبار علماء أهل السّنة: « وأمر الله عزّ وجل نبيه بالمباهلة لأهل الكتاب لمّا دعوه إلى المباهلة، فقال الله عز وجل: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فأبناؤنا وأبناؤكم، الحسن والحسين «رضي الله عنهما» ونساؤنا ونساؤكم، فاطمة بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، «وأنفسنا وأنفسكم علي بن أبي طالب «رضي الله عنه»...» (6).
وكذلك في خروج النبي «صلى الله عليه وآله» بالإمام علي «عليه السلام» من بين جميع الرّجال المسلمين لمباهلة نصارى نجران واختياره من بينهم للتأمين على دعائه أثناء المباهلة دليل آخر على أفضليته على الجميع، فلو كان هناك من هو أفضل منه، وأقرب إلى الله ورسوله من علي «عليه السلام» لكان أولى بأنْ يصطحبه النبي «صلى الله عليه وآله» معه في هذه المباهلة، ويتوسل إلى الله ويستعين به لاستجابة دعائه، وبما أنّه «صلى الله عليه وآله» لم يصطحب من الرّجال غير علي علمنا أنّه الأفضل والأكمل.
ومن أدلّة أفضليته «عليه السلام» على الجميع باستثناء نبيّنا الأكرم «صلى الله عليه وآله» ما رواه العلاّمة الطبراني بسند رجاله ثقات، عن ابن عبّاس «رضي الله عنه» أنّه قال: «زوّج النبي «صلى الله عليه وآله» فاطمة عليًّا، قالت فاطمة: يا رسول الله، زوجتني من رجل فقير ليس له شيء، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أما ترضين يا فاطمة أنّ الله عزّ وجل اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك» (7).
هذه الرّواية تدلُّ على أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» يأتي في مرتبة الأفضليّة من بعد النبي «صلى الله عليه وآله»، فلو كان هناك أحدٌ من بعد النبي أفضل من الإمام علي لكان أولى بالاختيار الإلهي، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى اختار عليًّا «عليه السلام» دلّ ذلك على أنّه الأفضل بعد النبي «صلى الله عليه وآله».
ومنها الحديث المعروف بحديث الأشباه، ففي كتاب «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، قال في ترجمة محمد بن أحمد بن عبيد الله الكاتب المعروف بابن المفجّع: «وله قصيدة ذات الأشباه، سمّيت بذات الأشباه لقصده فيما ذكره الخبر الذي رواه عبد الرّزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو في محفل من أصحابه: إنْ تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في خلّته، وموسى في مناجاته، وعيسى في سننه، ومحمد في هديه وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل، فتطاول النّاس فإذا هو علي بن أبي طالب. فأورد المفجع ذلك في قصيدته وفيها مناقب كثيرة» (8).
ودلالة حديث الأشباه هذا على أفضليته «عليه السلام» واضحة وجليّة، لأنّ من له كل هذه الصفات التي تفرّقت من ذكرتهم الرّواية من الأنبياء «عليهم السلام» لا بدّ وأنْ يكون أفضل ممن ليس له ذلك، ولمّا لم يثبت لأحد من الأمّة من ذلك ما ثبت له «عليه السلام» كان هو أفضل الأمّة بعد نبيّها «صلى الله عليه وآله».
وليس ما ذكرته لكم في حديثي هذا من أدلة على أفضليته هي كلُّ الأدلّة على ذلك، فهناك أدلّة كثيرة جدًّا تدل على ما دلّت عليه هذه الأدلة، كآية التطهير وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (9)، التي ثبت أنّها نزلت في خمسة من أهل البيت «عليهم السلام»، ومنهم الإمام علي «عليه السلام»، وهي تدل على أنّ الإمام عليًّا «عليه السلام» ممن أذهب الله عنه الرّجس وطهره من كل قذارة تطهيرًا، ولم يثبت بدليل من الأدلّة أنّ هناك أحدًا من الأمّة قد حصل له هذا التطهير باستثناء الخمسة أصحاب الكساء والأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين «عليهم السلام» بأدلة أخرى عندنا ليس هنا محلُّ ذكرها وبيانها، ومن كان معصومًا مطهّرًا من الرّجس والأدناس فلا شك أنّه أفضل من غيره ممن لم يحصل له هذا التطهير.
ومنها قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خيرٌ منهما» (10).
فإذا كان الإمامان الحسن والحسين «عليهما السلام» سيّدا شباب أهل الجنّة جميعًا، وإنّ الجنّة لا يدخلها النّاس يوم يدخلونها إلاّ وهم شباب، فيكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» أفضل الجميع.
ولا يلزم منْ ذلك أنْ يكون الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» والحسن والحسين «عليهما السلام» أفضل من النبي «صلى الله عليه وآله»، وذلك لأنّ الأدلة المقطوع بها عند المسلمين جميعًا دلّت على أنّ النبي محمدًا هو أفضل بشر خلقه الله سبحانه وتعالى، فيكون الإمام علي «عليه السلام» أفضل الخلق بعده «صلى الله عليه وآله».
وكذلك من أدلّة أفضليته «عليه السلام» حديث الولاية، وهو قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»: «أنت ولي كلِّ مؤمن بعدي» (11)، وحديث الغدير، وهو قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» (12)، وحديث المنزلة، وهو قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» (13)، وفي لفظ آخر للحديث أنّه قال له: «ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبي بعدي» (14)، وغيرها كثير.
وبثبوت كونه أفضل الأمّة وقيام الدّليل على أنّ الإمام يلزم أنْ يكون أفضل أهل زمانه، يثبت أنّه «عليه السلام» إمام زمانه، وخليفة النبي والقائم مقامه بعد رحليه إلى الرّفيق الأعلى.
_________________________________
(1) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، صفحة 250.
(2) يونس: 35.
(3) لسنن الكبرى للبيهقي 10/118، رواية رقم: 20151.
(4) تاريخ مدينة دمشق 42/254. ولقد أثبتُّ صحة حديث الطير هذا في كتابي «إرشاد الحائر إلى صحة حديث الطائر».
(5) آل عمران: 61.
(6) الشريعة 3/12.
(7) المعجم الكبير 11/93، رواية رقم: 11153.
(8) معجم الأدباء 5/2342.
(9) الأحزاب: 33.
(10) المستدرك على الصحيحين 3/182، رواية رقم: 4779، وقال الحاكم النيسابوري: «هذا حديث صحيح بهذه الزّيادة ولم يخرجاه»، وقال الذّهبي في تلخيص المستدرك: «صحيح»، وحكم عليه بالصّحة أيضًا الشيخ محمد الألباني في كتابه صحيح سنن ابن ماجة 1/57، رواية رقم: 96.
(11) الأحاديث المختارة 13/29 - 30، رواية رقم: 36.
(12) فضائل الصحابة لابن حنبل 2/849، رواية رقم: 1167.
(13) سنن الترمذي 5/44، رواية رقم: 3731.
(14) صحيح البخاري 4/1602، رواية رقم: 4154.