قبسة حسينية: مع الحق (*)
الإمام الحسين بن علي عليه السلام: ((ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقًا حقًا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا)) (1).
هذا المقطع وارد في خطبة ألقاها الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في أصحابه بعد نزول كربلاء في محرم من سنه 61هـ، وهو واحد من البيانات الصريحة المتعددة التي أوضح فيها الإمام عليه السلام أنّ طلب الحق هو الهدف الأساس من ثورته الخالدة، بأن يرتبط الناس بالحق، فيكون هو منطلقهم، ومجالهم، وهدفهم. كيف لا؟ وهو الذي أورد في وصيته، قبل مغادرته مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخيه محمد بن الحنيفة: ((فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق)) (2)، فقبوله وقبول ثورته ضد الحكم اليزيدي الأموي إنما يرتهن بقبول الحق المرتبط بالله سبحانه، وهو أولى به. ولا غرو في هذا التركيز على الحق؛ ذلك أنّ ((الحق منجاة لكل عامل، وحجة لكل قائل)) كما عن أمير المؤمنين على عليه السلام (3).
((إنّ هذه القبسة الحسينية تتضمن موارد مهمة للتعامل مع الحق)).
المورد الأول: تمييز الحق من الباطل
فالمسؤولية الأولى للتعامل مع الحق هي تمييزه من سواه، فقوله عليه السلام: ((ألا ترون إلى الحق)) لا يستقيم له معنى إلا مع كون المخاطبين قادرين فعلاً على أن يعرفوا الحق وأن يميزوه مما سواه، ذلك التمييز الذي متى وُجد فإنه حقيق بأن يُعدّ من أشرف النظر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: ((تمييز الباقي من الفاني من أشرف النظر)) (4).
إنّ أهمية هذا المورد تتجلى في حالات كثيرة تختلط فيها الرؤية عند الكثير من الناس، فلا يتمكنون من التمييز بين الحق والباطل، بل قد تصل بهم الحالة إلى درجة يرون فيها الحق باطلاً والباطل حقًا، فيغدو المعروف في أنظارهم منكرًا والمنكر معروفًا، مثلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه المعروف الذي رواه عنه الإمام الصادق عليه السلام: ((قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟)) (5).
وقد ابتلي المعصومون عليهم السلام في حيواتهم بأناس من هذا الصنف، تشوشت أمام أبصارهم الرؤية فشاهت بصائرهم. فمن ذلك ما يروى من أنّ ((الحارث بن حوط أتى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال عليه السلام: يا حارث! إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه)) (6). ومن هذا المنطلق جاءت وصية الإمام علي عليه السلام الخالدة: ((إنّ الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)) (7).
المورد الثاني: العمل بالحق
ليس يكفي أن يعرف المرء منّا الحق لتسقط بذلك مسؤوليته، فهو مسؤول بعد المعرفة عن العمل والتطبيق. بل إنّ معرفته ستغدو حجة عليه ووبالاً ضده وإنّ لم تنتهِ إلى عمل، ذلك أنّ الغاية والثمرة من العلم هي العمل، فعن علي عليه السلام أنه قال: ((ثمرة العلم العمل به)) (8).
روى عمار بن يسار (رضوان الله عليه) قال: ((بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيّ من قيس أعلّمهم شرائع الإسلام، فإذا قوم كأنهم الإبل الوحشية، طامحة أبصارهم، ليس لهم همّ إلا شاة أو بعير. فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عمار، ما عملت؟ فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السّهوة، فقال: يا عمار، ألا أخبرك بأعجب منهم؟ قوم عملوا ما جهل أولئك ثم سهوا كسهوهم)) (9).
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ((الحق منيف فاعملوا به)) (10).
لقد اهتم الإمام الحسين عليه السلام منذ بدء حركته الثورية نحو كربلاء ببيان ضرورة اقتران معرفة الحق بالعمل، فمن يتبعه ممّن يريد نصرته لا بد أن يكون مستعدًا للعمل؛ لذا وجدناه يقول في خطبته التي ألقاها قبيل مغادرته مكة المكرمة: ((من كان فينا باذلاً مهجته، موطّنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحًا إن شاء الله)) (11). أما هواة الحذلقة اللسانية ورفع الشعارات وإظهار الادّعاءات، ممّن لا يعرف العمل سبيلاً إلى برنامج الحياة لديهم، فلا مكان لهم في الحركة الحسينية الحقّانيّة.
المورد الثالث: سرّ حقّانيّة الحقّ
حقانية الحق إنما هي ناتجة من ارتباطه بالله جلّ وعلا؛ لذا نجد الإمام عليه السلام أردف حديثه عن الحق والباطل بقوله بعدهما مباشرة: ((ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقًا حقًا))، أو ((ليرغب المؤمن في لقاء الله))، كما في رواية أخرى، مبيّنًا بذلك أنّ الحق لا يكون حقًا إلا بارتباطه بالرب سبحانه الذي هو الحق، والباطل في المقابل يكون باطلاً حين يتنافى مع ما يريده الله جلّ وعزّ.
إنّ هذه الحقيقة لجديرة بأن توقفنا على مسؤولية عظيمة وخطيرة في الوقت نفسه، في مسؤولية أن يحرص المؤمن –بفراسته العميقة وما يقتضيه إيمانه الصحيح- على أن يتعمق الحقائق ويخترق السجف ليتوصل إلى ما يريده منه ربه، من دون أن تحجزه عن ذلك رغبات نفسه الأمارة بالسوء أو بعض العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة أو بعض الأعراف والنظرات الثقافية السائدة. مثال ذلك أنّ حالة إنسانية من البغض قد تنشأ بينه وبين غيره، فهذه ليس يصح أن تقف حائلاً بينه وبين إعمال ما يريده الله سبحانه من العدالة مع كل الناس: ((يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))(12).
أجل، لا مكان للحب والبغض الشخصين في الميزان الإلهي للحق والباطل، فكذا ينبغي أن يكون الحال في الميزان الإيماني للشخصية المؤمنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اقبل الحق ممّن أتاك به، صغير أو كبير، وإن كان بغيضًا، واردد الباطل على من جاء به من صغير أو كبير، وإن كان حبيبًا)) (13).
ومما يؤسف له، في هذا الصدد، أنّ ثمة ناسًا يكوّنون تصوّرهم الخاص للحق من مصادر ثقافية مختلفة يستقون منها معلوماتهم، ويبنون في ضوئها قناعاتهم التي يؤمنون أنها الحق الصراح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. حتى إذا وجدوا قناعاتهم هذه متعارضة مع النصوص الشرعية والفتاوى الفقهية، بل الثوابت العقدية أحيانًا، تأوّلوا هذه النصوص ليجعلوها توافق متبنياتهم، وما تورّعوا عن وصم الفقهاء أصحاب تلك الفتاوى بضيق الأفق والتخلف، ولن تعدم بينهم أيضًا من يعمل على إثارة زوابع التشكيك في بعض العقائد الدينية التي تتصادم مع معتقده. كل هذا يحدث في حين أنّ القرآن المجيد يجأر ليلَ نهارَ بقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّه وَرَسُوله أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرهمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)) (14).
المورد الرابع: الصبر والتحمل في سبيل الحق
من أراد أن يكون مع الحق، فإنّ عليه أن يكون مستعدًا لدفع ضريبة ذلك؛ ذلك أنّ ((الحق ثقيل مرّ، والباطل خفيف حلو)) كما ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (15).
ولزامٌ على صاحب الحق أن يتحلى بالصبر والتحمل؛ لكي يكون قادرًا على القيام بأعباء المسؤولية. وله في الإمام الحسين عليه السلام أسوة حسنة، فقد كان مثالاً خالدًا للصبر على البلاء وتحمّل اللأي، حتى لقد أقدم على الموت حي تطلّب منه الحق، وهذا شأن عظيم، لكنّ الأعظم أنه وجد الموت في سبيل الحق سعادةً وهناءً: ((فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برمًا))، ووجدناه في يوم استشهاده يلهج بالقول:
الـمـوت خـيـر مـن ركـوب الـعـار
والـعـار أولـى مـن دخـول الـنـار
والله مـن هـذا وهـذا جـاري (16).
إنّ الإمام سيد الأحرار عليه السلام يعلّمنا – بقوله وفعله معًا – أنّ تعاملنا مع الحق ليس ينبغي له أن يكون قضية فكرية اعتقادية محضة، لا تتعدى جانب اليقين النظري، ولا تجد لها أي انعكاس خارجي حقيقي. بل لابد لهذا الفكر من أن ينعكس على مشاعرنا وأرواحنا، وأن يظهر ذلك كله على جوارحنا، ويتجلى في سلوكنا، فيجعلنا مستعدين للصبر والتحمل في سبيل الحق ، مهما كانت التبعات صعبة وثقيلة، مثلما أراد الإمام أمير المؤمنين أن نكون إذا قال: ((خض الغمرات إلى الحق حيث كان)) (17).
لقد بلغت قضية الصبر على الحق وتحمّل نتائجه الصعبة درجةً كبرى من الأهمية في أنظار الأئمة المعصومين من أهل البيت جعلتهم يتواصون بها فيما بينهم، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: ((لمّا حضرت أبي علي بن الحسين عليه السلام الوفاةُ ضمّني إلى صدره، ثم قال: أبنيّ أوصيك بما أوصاني أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه عليه السلام أوصاه به: أي بنيّ، اصبر على الحق وإن كان مرًّا)) (18).
وحقًا إذا بلغت الأمة هذا المستوى من التعاطي الإيجابي مع الحق، بنحو تكون معه مستعدة للصبر والتحمل والتضحية والعطاء، فإنها ستكون ذات إرادة حية قوية عصيّة على محاولات كسر شوكتها وجهود إطفاء جذوتها، وستكون رافضة –بحق وبصدق وليس في مستوى الشعارات فقط- لكل ما تراه سببًا للخنوع والضياع والوقوع في وهدة الذل والهوان.
المورد الأخير: الظلم مانع من الحياة الحقة:
إذا كان من شأن الحق أن يملأ الحياة نورًا وسعادة، ويجعلها زاخرة بالقيم السامية والمثل العليا التي تطمح لها الفطرة الإنسانية السليمة وتنادي بها كل الشرائع السماوية ويرنو إليها البشر الباحثون عن الخير، فإنّ من شأن الظلم، في المقابل، أن يمنع من تحقيق تلك الحياة بكل ما فيها من رقيّ وتسامٍ، ويجعلها حياةً منحطة لا تستحق أن يعيرها المرء أي اهتمام، فهي ليست ((إلا برمًا)) كما عبّر الإمام عليه السلام. و ((البرم)) بالتحريك: مصدر بَرِم بالأمر، بالكسر، برمًا إذا سئمه، فهو بَرِمٌ ضَجِر.
نعم، الحياة مع الظلم وفي ربقة الظالمين لا تستحق الإشادة والوصف بالخير، فهي ليست سوى برم وضجر، وتعبير الإمام الحسين عليه السلام مشتمل على أسلوب المبالغة حين أخبر بالمصدر، مثلما في قول العرب: ((زيدٌ عَدْلٌ)). إنها الضجر نفسه، وليست شيئًا مضجرًا فحسب. وليس الأمر مستغربًا حين نلحظ ما للظلم من آثار سلبية مقيتة وخطيرة، عبّر عنها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله: ((الظلم في الدنيا بوار، وفي الآخرة دمار)) (19) .
ولا ينبغي أن يفوتنا هنا أن نلحظ أنّ الإمام الحسين عليه السلام يريد للشخصية المؤمنة أن تحيا ((حياة))، لا أن تعيش ((عيشًا))، وشتان ما بينهما من بون؛ لذا كان هذا الإحساس بما يتركه الظلم من أثر قاتم في الحياة. ذكر أبو هلال العسكري في مقام التفرقة بين الكلمتين ما يأتي: ((العيش اسم لما هو سبب الحياة من الأكل والشرب وما هو بسبيل ذلك، والشاهد قولهم: معيشة فلان من كذا، يعنون مأكله ومشربه مما هو سبب لبقاء حياته، فليس العيش من الحياة في شيء)) (20).
إنّ من شأن الشخصية المؤمنة ألّا تقنع بأن يعيش مثلما تعيش البهائم، كلّ همّها أكلها وشربها وتمتعها بلذائذ الدنيا، فهي شخصية باحثة عن الأهداف السامية للحياة والقيم العليا فيها، مثلما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: ((فما خلقتُ ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها)) (21).
وهذه النظرة الهادفة هي التي تجعل المؤمن لا يصبر على الظلم ولا يرضى بأن يعيش في ظله، عيشةً لا تعني سوى البرم والضجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر كتاب "قبسات من نور كلام أهل العصمة "عليهم السلام" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.
(1) بحار الأنوار 44: 381.
(2) نفسه 44: 330.
(3) ميزان الحكمة 2: 464.
(4) غرر الحكم ودرر الكلم من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو الفتح الآمدي، تحقيق محمد سعيد الطريحي، دار القارئ، بيروت 1987، ص 242.
(5) وسائل الشيعة 11: 397.
(6) ميزان الحكمة 2: 473.
(7) نفسه.
(8) ميزان الحكمة 6: 499.
(9) نفسه 6: 498. و ((السهوة)) يراد منها التقصير والغفلة.
(10) نفسه 2: 464.
(11) بحار الأنوار 44: 367.
(12) سورة المائدة، الآية: 8.
(13) ميزان الحكمة 2: 470-471.
(14) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(15) ميزان الحكمة 2: 467.
(16) بحار الأنوار 44: 196.
(17) ميزان الحكمة 2: 475.
(18) ميزان الحكمة 2: 467.
(19) ميزان الحكمة 5: 595. والبوار هو الهلاك.
(20) الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، مكتبة بصيرتي، قم، د.ت، ص82.
(21) نهج البلاغة، الرسالة 45، ص418.