الشيخ حسن عبد الله العجمي
قال الإمام الصادق «عليه السلام»:
(... ومن أعطي الاستغفار لم يحرم التوبة ...) (1).
أثر الذنوب على الفرد والمجتمع:
للذنوب آثار سلبيّة كثيرة وخطيرة جدّاً على الفرد والمجتمع والأمة والإنسانيّة، وهذه حقيقة أشار إليها كتاب الله المجيد والسّنة الشريفة، فما يواجهه الأفراد والمجتمعات والأمة والإنسانية من مشاكل ومصاعب وأزمات جلّها لها علاقة كبيرة بما يمارسه النّاس من جرائم، وما يرتكبونه من مخالفات شرعية، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2).
وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3).
وعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: (إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طففت المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلط الله عليهم شرارهم فيدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم) (4).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (أما إنه ليس من عرق يضرب، ولا نكبة، ولا صداع، ولا مرض، إلاّ بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به) (5).
وعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: (ما اختلج (6) عرق، ولا عثرت قدم، إلاّ بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر) (7).
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال في قول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}: (ليس من التواء عرق، ولا نكبة حجر، ولا عثرة قدم، ولا خدش عود، إلاّ بذنب ولما يعفو الله أكثر...) (8).
وعنه «عليه السلام» قال: (... توقوا الذنوب، فما من بلية ولا نقص رزق إلاّ بذنب، حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ...) (9).
وعن الإمام الرضا «عليه السلام» قال: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) (10).
ولهذا، فاللازم على العبد أن يتقي الذنوب لما لها من الآثار الخطيرة مما ذكرناه وما لم نذكره، ولأنّ ترك العبد للذنب أهون من ارتكابه له ثم التوبة منه، فعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: (ترك الذنب أهون من ارتكابه) (11).
فارتكاب الذنب كاستعمال السّم، والتوبة منه كاستعمال الدواء لدفعه، فقد لا يتيسّر الحصول على هذا الدواء، أو لا يكون مؤثراً لشدّة السّم، فهكذا بالنسبة للذنب فقد لا يوفق المذنب للتوبة، أو لا تكون توبته مقبولة.
ولأنّ حال العبد قبل المعصية أفضل منه بعد فعله لها ثم التوبة منها، وذلك لما تخلّفه الذنوب من آثار تلحق بالعبد، لا سيما على جانبه المعنوي «الرّوحي» لا يزول بعضها حتّى مع حصول التوبة، ويمكن الاستشهاد لهذا المعنى بالقول المنسوب للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: (من قارف ذنباً فارقه عقل لا يرجع إليه أبداً) (12).
أهمية الاستغفار:
فأعظم داء يصاب به الإنسان هو داء الذنوب، فكلُّ داء يهون مع هذا الداء، ولا دواء له إلاّ الاستغفار، فعن النبي «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن داءكم الذنوب ودواءكم الاستغفار) (13).
وفي رواية أخرى عنه «صلى الله عليه وآله» قال: (لكل داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار) (14).
وعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: (الذنوب الداء، والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا تعود) (15).
إنّ البعض يرى أنّه ما دام باب الاستغفار والتوبة مفتوحاً فلا داعي للعجلة والإسراع إليهما، وما دام في العمر متسعٌ فله أن يأخذ نصيبه من متع الدنيا وزينتها، ويعمل على إشباع غرائزه وشهواته من الطرق المشروعة وغير المشروعة، ثم عندما يتقدم به العمر ويصل إلى مرحلة الشيخوخة سيرجع إلى ربّه مستغفراً تائباً، طالباً منه العفو والصفح، فنقول لمثل هذا الساذج من يضمن لك أن تعيش إلى أن تصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من العمر؟!
ومن يضمن لك أن تُوفق للتوبة إذا ما سوّفتها؟
خصوصاً وأن من آثار الذنوب -إذا ارتكبت بشكل واسع وكبير- أنّها تشكل حاجزاً ومانعاً عن الرجوع إلى خطِّ الاستقامة، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (16)، فمن المعاني التي ذكرها بعضُ المفسرين لهذه الآية الكريمة هو هذا المعنى: أنّ تكذيبهم بآيات الله كان عاقبة لما عملوه من معاصي، أي أنّهم تدرجوا في فعل السيئات والمعاصي شيئاً فشيئاً إلى أن وصل الحال بهم أنّهم كذبوا بآيات الله، فأعمتهم الذنوبُ عن طريق الحق.
ولهذا حريٌّ بالمذنب والعاصي أن يبادر إلى الاستغفار والتوبة طمعاً في غفران الله وستره، فإن تمادى وسوّف التوبة فإنّ ذلك له آثار غير محمودة على سيرته وسريرته.
من أسباب تسويف الاستغفار والتوبة:
وهناك أسباب أخرى تجعل بعض المذنبين يؤخرون الاستغفار والتوبة ولا يبادرون إليهما، والشيطان هو أحد هذه الأسباب، فالشيطان وبعد أن يوقع الإنسان في المعصية لا يتركه، بل يستخدم معه كلّ الحيل والمكر؛ ليجعله يسوّف الاستغفار والتوبة، فهدف الشيطان هو أن يوصل أبناء آدم «عليه السلام» إلى عذاب الله في نار جهنم والعياذ بالله، فليحذر الإنسان هذا العدوَّ اللدود الذي أخرج أبويه من الجنة، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (17).
ومن أسباب عدم التوجه إلى الاستغفار والتوبة هي الذنوب، التي إذا ما أكثر الإنسان منها، فإنّها تؤثر على صفاء نفسه ونقائها إلى أن تصل بها إلى الحالة التي ذكرها اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه المجيد في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (18)، فليس المراد بالقلب في هذه الآية هو العضو الموجود في القفص الصدري، والذي يضح الدم إلى جميع أجزاء الجسم، بل المراد به النفس الإنسانية التي تمثل الجانب المعنويّ من الإنسان، فتصاب النفس بسبب كثرة ممارستها للذنوب بالصدأ والرّيْن، وحينها لا تحدِّث الإنسان نفسه بالاستغفار والتوبة والرجوع إلى خطّ الاستقامة، فيستمر في خطّ الانحراف، بل يصل الأمر ببعض المذنبين المنغمسين في فعل المعاصي إلى درجة أنّهم لا يتأثرون بالموعظة والنصيحة، وبعضهم تصل بهم إلى مرحلة خطيرة جداً، بحيث أنّهم يرفضون حتى استغفار الصلحاء لهم، فضلاً عن أن يستغفروا لأنفسهم بأنفسهم، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (19).
فالآية الكريمة تتحدث عن جماعة من الناس عاصروا النبي «صلى الله عليه وآله»، أوصلتهم ذنوبهم إلى أنّهم رفضوا الذهاب إلى عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليدخلوا في طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله، وليستغفر الرسولُ لهم الله، ليغفر لهم ما سلف من ذنوبهم، ولكنّهم {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} فأمالوها إعراضاً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عن طاعة الله وطاعة رسوله، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} يتعالون ويترفعون عن مجيئهم إليه «صلى الله عليه وآله» ليستغفر لهم.
فما أعجب هذه الحالة المعرضة عن أبواب رحمة الله، ومن هنا علينا أيّها المؤمنون المبادرة إلى التطبيق الصادق للاستغفار فرحمة الله قريب من المحسنين.
كذلك من أسباب تأخير الاستغفار وتسويف التوبة هو التعلق بملذات الدنيا وشهواتها، فالبعض من الناس لا يكتفي بإشباع غرائزه من الطرق التي أحلّها اللهُ عزّ وجل وأباحها لعباده، فيلجأ إلى إشباعها من السبل غير المشروعة، وهذا الصنف من الناس يؤجل الاستغفار والتوبة ويؤخرهما لعلمه أنّه بلجوئه إليهما سيقتصر في إشباع رغباته في حدود المشروعات فقط، وهو لا يريد ذلك، فلا يستعجل الاستغفار والتوبة، معرضاً عن دعوة الله سبحانه وتعالى لعباده في كتابه المجيدِ إلى الإسراع إلى التوبة، وذلك في قوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (20).
ويستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (21) أنّ قبول الله لتوبة عبده مشروط بأن لا يتوب المذنب عندما يرى علامات الموت أحاطت به، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فلا توبة للذين يذنبون ويسوّفون التوبة إلى أن يروا علامات الموت وقد أحاطت بهم، فإنّها توبةُ المضطر الذي يريد الخلاص من العقاب الإلهي، لا أنّها توبة النادم العائد إلى ربّه اختياراً، أمّا الذين يتوبون إلى الله تعالى {مِن قَرِيبٍ}، أي قبل أن يرووا علامات الموت، وتتبيّن لهم سكراته، تكون توبتهم مقبولة {فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ}، لأنّهم صادقون في توبتهم مخلصون في إنابتهم.
إنَّ تسويف الاستغفار والتوبة من أهمّ أسباب سوء الخاتمة، لأنّ العبد لا يزال غارقاً في ذنوبه، يؤجل الاستغفار والتوبة يوماً بعد يوم، إلى أن يفاجئه الموت، وهنا يندم على عمره الذي قضاه في معصية الله عزّ وجل، ويصيح ويصرخ قائلاً: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} ولكن هيهات، حيث لا رجوع {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (22).
إنّ ترك الاستغفار وتسويف التوبة، ليس من سمات المتّقين فالمتقون المؤمنون من صفاتهم أنّهم دائموا الاستغفار، قال تعالى واصفاً المتقين: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (23)، وقال عنهم في آية أخرى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (24).
ففي هذه الآية الكريمة يذكر الحقُّ سبحانه مجموعة من صفات المتقين، ويذكر من جملتها الاستغفار، فالمتقون إذا صدرت منهم معصيةٌ {ذَكَرُوا اللهَ}، تذكّروا أنّهم بفعلهم للمعصية تجرؤوا على الله، وأنّهم خالفوه فيما نهى عنه، وأنّه تعالى سيعاقبهم عليها {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، طلبوا غفران الله لذنوبهم ومعاصيهم، وندموا على فعلهم لها، ثم يقول تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} (وهو استفهام استعطافي، فالقرآن الحكيم يستعطف المذنبين نحو التوبة والاستغفار) (25)، ثم يقول تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} من المعاصي، بل أقلعوا عنها وندموا عليها، فهؤلاء المتقون يعيشون حالة البصيرة التي أشار الحق سبحانه إليها في آية أخرى وذكرها على أنّها من ثمار التقوى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (26).
أمّا غير المتقي، المنغمس في فعل الذنوب والمخالفات الشرعية فإنّه يفتقد الفرقان الذي يميّز به بين الحق والباطل، فيكون عرضة لمصائد الشيطان ووساوسه، فبعد أن انجرّ إلى المعصية ودفعه الشيطان والنفس وشهواتها إليها، يأتيه الشيطان موسوساً له طالباً منه تأخير الاستغفار وتسويف التوبة، وهذا الإنسان بدوره يستمع إلى ما يمليه عليه الشيطان من أباطيل، وكأنها نصائح صديق حميم وناصح أمين، فيؤخر الاستغفار ويسوف التوبة، وهذا جانب مهم ينبغي للغافلين أن يتنبّهوا إليه ويحذروا من مغباته.
إنّ الله سبحانه وتعالى يخبرنا في القرآن الكريم أنّ الشيطان لنا عدو وعلينا أن نتخذه عدواً، وأن نتعامل معه على هذا الأساس، يقول تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (27)، فيخاطب الله الناس جميعاً ويقول لهم {إِنَّ الشَّيْطَانَ} الذي يدعوكم إلى الكفر بالله والشرك به، ويدعوكم إلى العصيان هو {لَكُمْ عَدُوٌّ} يريد لكم الشقاء والهلاك والعذاب، {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}، أي تعاملوا معه تعامل العدو مع عدوّه، بأن لا تطيعوه، وتيقظوا لمكره ولخداعه، فاجتنبوه، إن هذا الشيطان {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أنصاره وأعوانه وأتباعه من العصاة والمذنبين {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي من أصحاب النار المستعرة الملتهبة.
ما هو الاستغفار الحقيقي؟:
والاستغفار المطلوب ليس هو قول «أستغفر الله» باللسان فقط، وإنّما له شروط لا بد وأن تتوفر ليكون الاستغفار حقيقيّاً وصحيحاً، فالاستغفار اللساني الذي لا تتوفر فيه شروط الاستغفار ليس له أيّ أثر فعّال، فلا تتحقق التوبة والمغفرة بموجبه، حيث أنّ هذا النوع من الاستغفار يعتبر في نظر الشرع الشريف مجرّد لقلقة لسان لا أكثر من ذلك، فلا بدّ أن يكون الاستغفار ناشئاً من ندم العبد الشديد على حياته الماضية التي قضاها في أجواء الانحراف والطاعة للشيطان والأهواء والشهوات بعيداً عن طاعة الحقِّ سبحانه وتعالى، والذي يرافقه العزم بإرادة قويّة وتصميم أكبر على عدم الرجوع إلى ممارسة الذنب وما كان عليه من انحرافات سابقة، فمتى ما كان استغفاره واجداً لهذين الشرطين كان استغفاراً حقيقيّاً، فهذا الاستغفار هو الاستغفار الذي تستتبعه التوبة، والذي أشار إليه الإمام الصادق «عليه السلام» في قوله: (... ومن أعطي الاستغفار لم يحرم من التوبة ...)، وهو الذي أشار إليه الحق سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (28).
ولا بدّ أن يراعي المستغفر أيضاً أمرين واجبين عليه وهما:
الأول: أن يحصي الفرائض التي فاتته في وقت انحرافه إلى يوم استغفاره، ويقضي كلّ ما فاته من هذه الفرائض كالصلاة والصيام والحج، ويؤدّي الحقوق المالية كالزّكاة والخمس وما لزمه من كفارات، فلا يغني عنها الاستغفار والتوبة، فلا بدَّ من أن يجتهد في قضائها وأدائها ولا يترك في ذمّته شيءٌ منها.
الثاني: أن يؤدي إلى النّاس حقوقهم التي اعتدى عليها أيام انحرافه، وأن يستحلَّ من اعتدائه عليهم في أموالهم وأنفسهم وغير ذلك.
فينقل أن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» سمع شخصاً بحضرته يقول «أستغفر الله»، فقال له: (ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدى حقها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى يلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
فعند ذلك تقول أستغفر الله) (29).
وفي الأمر الخامس والسادس من المعاني التي ذكرها الإمام «عليه السلام» للاستغفار، يشير إلى أمرين هما أشبه بجبران ما أضاعه الذنب من كونهما شرطين في صحة الاستغفار والتّوبة، أحدهما: أن يعيش العبد في خوف دائم لعدم علمه بقبول الله عزّ وجل لتوبته، خوفاً يصهر كلَّ ذلك اللحم الذي نبت من السحت والحرام، حتّى ينشأ ويتكوّن مكانه لحم جديد من الحلال. والثاني: أن يمارس العبادة والطاعة ويكثر منها لترتفع عن نفسه ظلمة المعاصي وينقشع عنها ذلك التكدّر والرّين الذي أصابها بسبب المعصية، فتتنوّر بنور الطاعة، فعن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: (وجدت الحسنة نوراً في القلب، وزيناً في الوجه، وقوة في العمل، ووجدت الخطيئة سواداً في القلب، ووهناً في العمل، وشيناً في الوجه) (30).
ولما تخلّفه ممارسة الطاعة بشكلها الواسع من ألم للنفس الذي هو نوع من المجاهدة لها، بل هو عقاب لها على ما استأنست به واستلذته من حلاوة المعصية.
_______________
(*) المصدر كتاب "بحوث ومقالات من هدي الإسلام" للشيخ حسن عبد الله العجمي.
(1) الخصال، صفحة 202.
(2) الروم: 41.
(3) الشورى: 30.
(4) الكافي 2/374.
(5) الكافي 2/269.
(6) اختلج: انفض وتحرّك.
(7) أمالي الطوسي، صفحة 570.
(8) الكافي 2/445.
(9) الخصال، صفحة 616.
(10) الكافي 2/275.
(11) بحار الأنوار 70/364.
(12) جامع السعادات 1/68.
(13) كنز العمال 1/479.
(14) مكارم الأخلاق، صفحة 313.
(15) ميزان الحكمة 3/369، برقم: 6745.
(16) الروم: 10.
(17) الأعراف: 27.
(18) المطففين: 14.
(19) المنافقون: 5.
(20) آل عمران: 133.
(21) النساء: 17-18.
(22) المؤمنون: 99.
(23) الذاريات: 18.
(24) آل عمران: 135-136.
(25) تقريب القرآن إلى الأذهان 1/394.
(26) الأنفال: 29.
(27) فاطر: 6.
(28) النساء: 110.
(29) روضة الواعظين، صفحة 479.
(30) كنز العمال 16/110.