تزيين الحياة الدنيا (*)
{زُيّن للّذين كفروا الحياة الدنيا، ويسخرون من الذين آمنوا، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب} (1).
هذه الآية القرآنية جاءت – بحسب سياق ورودها وترتيبها – بعد الحديث عن بني إسرائيل الذين جاءتهم آيات ربهم فلم ينتفعوا بها، فاستحقوا العقاب الإلهي. وهي – بحسب ما روي في أسباب النزول – جاءت ردًا على أثرياء قريش ووجهائهم الذين كانوا يسخرون من المؤمنين الفقراء كعبد الله بن مسعود وعمار وبلال وخباب، ويقولون: "لو كان محمدًا نبيًا كما يقول، لاتّبعه أشرافنا وساداتنا، والله ما اتّبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود" (2).
وأيًا ما كان الأمر، فإنّ العبرة – كما يقال – في عموم الوارد لا في خصوص المورد، فالخطاب القرآني الذي تحمله الآية الكريمة من الواضح أنه ليس مختصًا لا ببني إسرائيل ولا بوجهاء قريش، فهو خطاب يحمل دلالة واسعة شاملة لا تختص بزمان أو مكان أو قوم معينين. إنه حديث عن أناس زُيّنت الحياة الدنيا في أعينهم، فانخدعوا ببهارجها، واستولت على قلوبهم، فصارت سببًا لتعاليهم وسخريتهم من المؤمنين الفقراء، غافلين عن أنّ المهم في العلوّ والفوقية هو ما سيكون في خاتمة الأمر ونهايته، ولا شك أنّ الخاتمة ستكون في صالح عباد الله المؤمنين مهما بلغ فقرهم المادي في الدنيا؛ لأنّ الله سبحانه هو الرازق، وفي وسعه أن يرزق من يشاء بغير حساب، "وهذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء، وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين" (3).
وبين يدي هذه الدلالة القرآنية، لنا وقفات:
الوقفة الأولى: المخدوعون بالحياة الدنيا والمنجذبون إليها إنما وصلوا إلى هذه الحالة من جهة كونهم لم ينظروا إلى الدنيا على ما هي عليه في واقعها، بل زُيّنت في أنظارهم – أيًا كان السبب والعامل وراء هذا التزيين (4) - فصاروا يرون فيها من الجمال والألق والبهاء ما لا علاقة له إطلاقًا بواقعها الحقيقي، وهذا ما يدفعهم إلى التعلق بالدنيا والارتباط الشديد بها.
ولولا هذا التزيين، لنظر العاقل إلى الدنيا مثلما نظر إليها علي بن أبي طالب (ع)، فأورد لها في كلامه صورًا تكشف عن حقيقتها في نظره، مثل:
_"غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل" (5).
_"فبئست الدار لمن يتّهمها، ولم يكن فيها على وجل منها" (6).
_"وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى" (7).
_"فإنّ برقها خالب، ونطقها كاذب" (8).
_"فإنما مَثَل الدنيا مثل الحية: ليّن مسّها، قاتل سمّها" (9).
_"دار بالبلاء محفوفة، وبالعذر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نُزّالها" (10).
_"غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكّالة غوّالة" (11).
_"... ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز" (12).
_"وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها" (13).
ولولا خشية الإطالة، لكان يحسن بنا أن نتقصّى كل الصور البديعة التي رسمها الإمام علي (ع) للدنيا، وأن ندرسها بعناية؛ فهي غنية بالأفكار، وعميقة في مدلولاتها الفكرية وتأثيراتها النفسية، وبديعة رائقة في صورها الفنية وصياغاتها اللفظية.
الوقفة الثانية: الحقيقة المذكورة – وهي حقيقة وجود التزيين – علينا أن نستحضرها في تعاملنا مع ذواتنا ومع الآخرين: فأما مع الذات فعلى الإنسان أن يدقق في المحاسبة، ويتعمق في المراجعة؛ ليتأكد من عدم وقوعه تحت طائلة شيء من هذا التزيين في نظرته إلى الدنيا، أو في تبنّيه لبعض المعتقدات والآراء والأفكار، فلربما يكون هذا التزيين حاضرًا عند الإنسان وهو عنه في غفلة، فهنا لا بد له من التبصّر والصدق مع ذاته، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال: "أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع ذنوبه" (14).
وأما مع الآخرين فاستحضارنا لحقيقة أنهم قد يكونون واقعين تحت التزيين، يجعلنا نتعامل معهم بصدور أرحب ونفوس أكثر انفتاحًا حينما نراهم – من منظورنا – يخالفون بعض الحقائق البدهية في معتقداتهم، أو نجدهم يعترضون علينا في أمور نراها نحن من الضروريات التي لا بد من إنجازها وإقامتها. علينا هنا أن نستثير في أذهاننا احتمال أن يكون هؤلاء خاضعين للتزيين، فهم لا يقصدون مخالفة البدهيات ولا الوقوف بوجه المشاريع الضرورية. كل ما في الأمر أنهم لا يرون ما نراه، ولا يدركون الحقائق بالوضوح الذي ندركها به، ولولا هذا التزيين لكان موقفهم مختلفًا. إننا بهذا الاحتمال الذي نبرزه نقوم بعملية استبعاد لاحتمال سوء القصد والرغبة في الإساءة وتعمد الانحراف وما إلى ذلك؛ لذا يكون هذا في الواقع نحوًا من أنحاء إحسان الظن بالآخرين والتماس الأعذار لهم، وفي هذا ورد عن النبي الأكرم (ص) قوله: "اطلب لأخيك عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فالتمس له عذرًا" (15). وعن الإمام علي (ع): "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا" (16).
الوقفة الثالثة: قد يتبادر إلى أذهان بعضنا أنّ الآية الكريمة، محل الكلام، ليست للتزيين المذكور فيها علاقة بنا؛ ذلك أنه تزيين مختص، وفق نص الآية، بالذين كفروا، فلا ارتباط له بنا نحن المؤمنين. لكن هذا المعنى ليس مقبولًا عند بعض أكابر المفسرين، إذ أنّ "ظاهر الكفر في القرآن هو الستر، أعم من أن يكون كفرًا اصطلاحيًا أو كفرًا مطلقًا، في مقابل الإيمان المطلق، فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحًا، بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية وغيّر نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة الدنيا، فليتهيأ لشديد العقاب" (17).
نعم ثمة مؤمنون يحاولون ستر بعض الحقائق الدينية والتعليمات الإسلامية، مهما بلغت صراحتها ووضوحها؛ لكونها لا تتلاءم مع أمزجتهم الخاصة أو طرائقهم التي يريدون فهم الدين على أساسها. هذا إن لم نسئ الظن ونذهب إلى أنّ القضية لها ارتباط ببعض المصالح الدنيوية الخاصة، فمن ذلك مثلًا قضية الوحدة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم ومشاربهم، فهي قضية واضحة صريحة في القرآن الكريم القائل: {إنما المؤمنون إخوة} (18)، والقائل: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا} (19)، وهي لا تقلّ عن ذلك وضوحًا في السنة النبوية المشرفة ، فقد روي عن الرسول (ص) أنه قال: "المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه وماله ودمه، التقوى ههنا (وأشار إلى القلب)، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (20)، و روي عنه (ص) أيضًا قوله: "المسلمون كالرجل الواحد، إذا اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر جسده" (21).
ومع كل هذا، فإنك لا تعدم، في نطاق المؤمنين، أصواتًا تجأر بمعاداة فكرة الوحدة الإسلامية، ولربما يعمل أصحابها، جهارًا نهارًا، على تشجيع كل الممارسات والأقوال التي من شأنها زرع التفرقة في صفوف المسلمين ونشر الفتن بينهم. ولربما ينطلق بعضهم، في هذا، من منطلق أنّ فكرة الوحدة تعني التنازل عما يراه كل فريق من المسلمين حقًا من العقائد والشرائع الدينية، ومن ثَمّ ستقودنا هذه الوحدة إلى التهاون في أمر الحق والمساومة عليه. لكن هذا المنطلق واضح الضعف والوهن؛ ذلك أنّ فكرة الوحدة بين المسلمين لا تعني تنازل أي فريق منهم عما يراه حقًا، فليتمسك كل منهم بما يراه ويعتقده، لكن فليحرص على أن ينظر إلى المسلم الآخر على أنه مسلم مثله، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وليضع يده بيده؛ ليحافظا معًا على شأن الإسلام ومقدّرات المسلمين وخيراتهم ومقدساتهم، في وجه كل عدو طاغٍ يهدف إلى محاربة الإسلام كله وإنهاء الوجود الإسلامي من أساسه.
وإذا رجع المرء إلى وصايا الأئمة المعصومين (ع) في هذا الصدد، وجد منهم تأكيدًا عظيمًا واهتمامًا بالغًا بهذا الموضوع. فمن هذا مثلًا ما ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع) في وصية له إلى شيعته:
"... صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا
شيعي، فيسرني ذلك. اتقوا الله، وكونوا زينًا، ولا تكونوا شينًا، جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك" (22).
الموقف الديني، إذن، واضح جلي في القرآن الكريم وسنة النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، لكن بعض النفوس تأبى إلا أن تفرغ سمومها في الجسد الإسلامي الواحد؛ ليتحقق لها ما تراه وما تريده. وهي في مسعاها هذا قد تستعين ببعض النصوص الدينية، من القرآن والحديث، فتفسرها كما تشتهي وتفهم منها ما تريد، مصداقًا لما روي عن الإمام علي (ع): "كم من ضلالة زُخرفت بآية من كتاب الله، كما يزخرف الدرهم النحاس بالفضة المموّهة" (23).
الوقفة الرابعة: السخرية ليست من أخلاق المؤمنين الذين يعرفون الحق، ويتمسكون به، ويجدون فيه من القوة والوضوح ما يغنيهم عن اللجوء إلى الأساليب الدنيئة الملتوية الكاشفة عن الخواء والجهل. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا، لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرًا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (24).
وفي الروايات المروية عن النبي وأهل بيته الطاهرين ما يدل على شناعة عاقبة السخرية في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فلا يتمكن الساخر من دخول الجنة بسبب قبح ما أتى به، فعن النبي (ص) أنه قال: "إنّ المستهزئين يُفتح لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال له: هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إنّ الرجل ليفتح له الباب فيقال له: هلم هلم، فما يأتيه" (25).
وأما في الدنيا، فإنّ من كان دأبه أن يسخر من الناس ويستهزئ بهم لن يكون في وسعه أن ينال ثقتهم، ويظفر بمحبتهم، بل سيظلون أبدًا منه على حذر، وعنه على مبعدة؛ وبذا تضعف الروابط الاجتماعية وتتفكك عرى الانسجام والمودة في المجتمع الواحد. عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "لا يطمعنّ المستهزئ في صدق المودة" (26).
الوقفة الخامسة: حديث القرآن عن فوقية التقوى في يوم القيامة {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} جدير بدعوتنا إلى مراجعة حساباتنا في مقاييسنا التي ننظر بها ونقيس قضية الفوقية والارتفاع، فنحن غالبًا ما نلجأ إلى مقاييسنا المادية في القضية، فنعطي منزلة خاصة، في قلوبنا وفي المجتمع، لذوي الثراء المادي والمناصب الرفيعة والشهرة والوجاهة الاجتماعية، أيًا كان وضعهم الديني، وفي المقابل لربما نستصغر بعض الناس ونقلل من أهميتهم لمجرد كونهم فقراء ماديًا أو لا يتمتعون بالمناصب والشهرة، مع أنهم قد يكونون من أولياء الله المتقين!
نعم، إننا نهتم بالمقاييس المادية التي هي مقاييس ترتبط بهذه الدنيا الفانية الزائلة، ونتناسى أنّ التفاضل عند الله تعالى، وهو التفاضل الباقي الذي يشمل الدنيا والآخرة معًا، وسيظهر أثره في المصير الأخروي، إنما هو بالتقوى. فعن رسول الله (ص) أنه قال: "كرم الدنيا الغنى، كرم الآخرة التقوى" (27).
وكان رسول الله (ص) حريصًا على أن يعلّم أصحابه، بالقول والفعل، أن يحكّموا المقياس الإلهي في التفاوت والتفاضل بين البشر، لا المقاييس المادية الدنيوية. فمن هذا مثلًا ما رواه أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه): "قال لي رسول الله (ص): انظر أرفع رجل في المسجد، فنظرت، فإذا رجل عليه حلّة، قلت: هذا، قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق (28)، قال: قلت: هذا. فقال رسول الله (ص): لَهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا" (29).
وهكذا أيضًا كان حرص الأئمة المعصومين (ع)، فقد ورد في دعاء الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) في الرضا بالقضاء: "واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلًا، فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك" (30).
يبقى أن يشار في هذه الوقفة إلى ملحوظتين:
أولاهما: أنّ الآية الكريمة عبّرت بـ "الذين اتقوا" بعد أن كانت عبّرت بـ "الذين آمنوا"، وقد علّل بعض المفسرين هذا بأنّ "تبديل الإيمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الإيمان لا ينفع وحده لولا العمل" (31).
وارتباط الإيمان بالعمل، والعمل بالإيمان، من الحقائق التي أكّدتها الأحاديث الشريفة، فمن هذا ما روي عن رسول الله (ص) من قوله: "لا يقبل إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان" (32)، وأيضًا: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" (33). وقد استدل الإمام علي (ع) على كون الإيمان مرتبطًا بالعمل استدلالًا بديعًا في قوله المروي عنه: "لو كان الإيمان كلامًا لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام" (34).
والملحوظة الأخرى: "الفوقية" المذكورة في الآية المباركة هي، فيما ذهب إليه معظم المفسرين، فوقية معنوية ترتبط بالمنزلة والشأن، فشأن المتقين ومقامهم عند ربهم يوم القيامة هو أرفع وأسمى من شأن سائر الخلق. بيد أنّ بعض المفسرين لم يستبعد أيضًا أن تكون فوقية حسية تجسمية، من باب تجسم الأعمال في الآخرة، "لأنّ المقامات المعنوية تتخذ صورًا عينية في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض، بينما يحلّق الصالحون في أعالي السماء، وليس ذلك بعجيب" (35).
الوقفة الأخيرة: تحمل خاتمة الآية الشريفة {والله يرزق من يشاء بغير حساب}، كما ذكر بعض المفسرين، بشارة قرآنية بأنّ المستقبل سيكون للحق وأهله؛ ذلك أنّ "الجملة الأخيرة تشير إلى أنّ الله تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب، وذلك بتقدم الإسلام واتساعه" (36).
بناءً على هذا، تكون الآية الكريمة داعيةً المؤمنين إلى أن ينظروا إلى المستقبل بتفاؤل وأمل، مهما كانت الظلمات مدلهمة في واقعهم، والخيبات متراكمة في حاضرهم، فالحق منتصر لا محالة في خاتمة المطاف، هذا هو مقتضى الوعد الإلهي الذي لا يتخلف: {ولينصرنّ الله من ينصره، إنّ الله لقوي عزيز} (37).
_________________________