الخلقة في كبد (*)
{لقد خلقنا الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} (1).
هذا الخطاب القرآني جاء في سياق مؤكد تأكيدًا قويًا: فهو، من جهة، جواب لمجموعة من صيغ القسم المتقدمة: {لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد، ووالد وما ولد" (2)، ومن جهة ثانية فقد صُدّر باللام الداخلة على جواب القسم، وثمة من جهة ثالثة "قد" المفيدة للتحقيق بدخولها على الفعل الماضي، ولا ننسى، أخيرًا، استعمال ضمير الجمع المفيد للعظمة التي تمنح الخطاب قوة وعمقًا كبيرين.
فما المضمون الذي أراده الله (سبحانه وتعالى) محفوفًا بكل هذه القوة وذاك التأكيد؟ إنه {خلقنا الإنسان في كبد}، وللمفسرين هنا أقوال:
أ- معظمهم على أنّ "الكبَد" هو بمعنى التعب والألم والمشقة والشدة، مأخوذ أصلًا من الكبَد الذي هو ألم يصيب الكبِد ثم أطلق على كل ألم ومشقة. والمراد من "الإنسان" هنا كل إنسان، حتى الأنبياء والرسل، فالحياة الدنيا نعمها ملأى بالمنغصات والكدورات، فهي لا تصفو لأحد، وفيها أيضًا المحن والبلايا والرزايا؛ لذا يصح في الواقع تلخيص حالها في تعبًا ومشقة.
ب- وهنا قول ثانٍ يوافق القول السابق في المعنى المذكور للفظة "كبد"، لكنه يخالفه في معنى "الإنسان"، فليس المراد به كل الناس، بل خصوص من "لم يقتحم العقبة ويستقر به القرار" (3)، أي أنّ المراد غير المؤمنين الصالحين.
ج- وثمة قول غيرهما فسّر لفظ "الكبَد" بكونه "منتصبًا معتدلًا" (4)، أو كونه "خُلق منتصبًا يمشي على رجليه، وغيره من سائر الحيوان غير منتصب" (5).
والقول الأول هو المعروف المشهور بين المفسرين، فعليه نمضي في وقفاتنا الآتية:
الوقفة الأولى: إذا كانت المشقة سنة كونية وجودية من سنن الحياة، فعلى المرء، إذن، أن يقابلها بصبر وتحمّل، لا أن يضعف أمامها وينهار، ويودي به هذا الموقف الانهزامي إلى أن يستسلم ويتراجع عن كل أهدافه العليا والقيم السامية التي يتقصدها، فما أكثر الناس الذين يظلون متمسكين بالقيم والدين والأخلاق ما دام كل ذلك متساوقًا مع حياة الراحة والاستقرار والرفاهية، فإذا حاق البلاء بهم ونزل التمحيص والامتحان بساحتهم، رأيتهم يتراجعون عن كل ذلك، إلا من رحم ربك، مثلما قال الإمام الحسين (ع): "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون" (6).
وحين يسعى الناس وراء نعيم الدنيا الزائف سعيًا حثيثًا محمومًا، ويخافون مشقة الحياة ويركضون منها، تراهم يتناسون قضاياهم الكبرى وقيمهم العليا، فلا ذكر بينهم للقدس وفلسطين والكرامة والعزة والحق، بل ستجدهم يتنادون ويتسابقون على خدمة من يمنّيهم ويعدهم بالدنيا ونعيمها وبهارجها، ويصدّقون مواعيد "عرقوب"، حتى إذا كلفهم ذلك أن يذبح المسلم أخاه المسلم ويعتدي الجار على جاره!
ولو أنّ الخائفين الوجلين من المشقة والبلاء راجعوا تاريخ البشرية لوجدوا أنّ البلاء لا تخلو منه أمة من الأمم، ولا فرد من الأفراد. بل ورد في الخبر عن الإمام الصادق (ع): "إنّ أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل" (7).
فالمهم، إذن، أن يعرف المرء كيفية التعامل مع البلاء حين نزوله، وكيفية الاستفادة منه في تحقيق الأهداف، لا أن يكون ذريعة للتخاذل ومسوغًا للتنازل عما لا يصح التنازل عنه.
والوقفة الثانية: إضافة إلى الصبر المذكور في الوقفة السابقة، على المرء أن يعي جيدًا أن الكبد في الدنيا له فائدة بل فوائد كبرى، أهمها فائدة الإيقاظ، فعن أمير المؤمنين علي (ع): "إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك، إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراج لك" (8).
نعم، يوقظنا الكبد من إخلادنا إلى نومة عبادة الذات، والسعي إلى تحقيق رغباتها ومشتهياتها مهما كان الثمن، ويجعلنا نعي أنّ الذات فانية، وكل لذائذها ومشتهياتها قابلة للزوال في طرفة عين، فلماذا نصرف أعمارنا وجميع طاقاتنا في سبيلها؟
أليس أجدى بنا أن نتفكر في غير هذه الجوانب المادية الدنيوية، فنعطيها ما تستحقه من اهتمام وعناية، نظرًا لما لها من أثر وموقع في حياتنا؟
والوقفة الثالثة: في حال رغبة الإنسان أن يتخفف من آثار هذا الكبد، ويسهّل على نفسه الأمر، فما عليه سوى أن يرتبط بالله سبحانه وتعالى؛ ذلك أنه هو الذي خلق الإنسان هكذا {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، وهو الذي يريد أن يمتحن بهذا الكبد إيمان المؤمن وصبره، فقد روي عن الإمام علي (ع) قوله: "لا تفرح بالغَناء والرخاء، ولا تغتم بالفقر والبلاء؛ فإنّ الذهب يُجرب بالنار، والمؤمن يُجرب بالبلاء" (9).
فليكن الكبد، إذن، وسيلة يعود بها المؤمن إلى الله تعالى، ويرتبط به في كل أوقات الشدة والرخاء، ليخرج بذلك من التجربة والامتحان ناجحًا بل متفوقًا، فيكون بذلك قد استفاد من الأزمات في حياته أيما استفادة.
والوقفة الأخيرة: لئن كان هذا الكبد سنة كونية تعمّ كل الناس، فعلى الناس، إذن، أن يشعر كل منهم بما يقاسيه الآخر، وأن يسعى بعضهم إلى إعانة بعض على التعامل معه، فيكون الواقع الكبدي سببًا لارتباط الناس بعضهم ببعض، وإعادتهم إلى خندق الإنسانية الموحد، حيث يشعر كل ابن آدم بأخيه في الخلقة، ويتعاونون جميعًا في سبيل دحر ما يتهدد وجودهم ويتعرض لمصائرهم المشتركة بالتهديد.
تتأكد أهمية المسألة وتزداد ضرورتها حينما يكون أحدنا سببًا في وقوع غيره في الكبد، في أي موقع اجتماعي كالبيت ومكان العمل والمسجد والنادي...، فهنا يغدو من اللازم التخلي عن روح عدم المبالاة بالآخرين والانشغال بالذات وحدها، ويصبح من مسؤولية الإنسان أن يسعى غاية سعيه لرفع معاناة الآخر وإزالة الصعوبات والمشاق عنه، فعن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: "من كنتَ سببًا في بلائه، وجب عليك التلطف في علاج دائه" (10).
_______________________
(*) المصدر كتاب "الإنسان والحياة.. نظرات قرآنية" للشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي.
(1) سورة البلد، الآيتان 4-5.
(2) السورة نفسها، الآيات 1-3.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة "كبد".
(4) معاني القرآن، الفراء، 2: 980.
(5) نقل هذا القول ابن منظور في لسان العرب، مادة "كبد".
(6) تحف العقول، ص 176.
(7) ميزان الحكمة 1: 482.
(8) نفسه 1: 489.
(9) ميزان الحكمة 1: 481، و"الغناء" بفتح الغين بمعنى الغنى.
(10) نفسه 1: 500.