الشيطان والصراط المستقيم (*)
الشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي
{قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم} (1).
هذه الآيات الشريفة مرتبطة أيضًا – كآيتي المبحث السابق – بقصة الخلقة الأولى؛ فبعد أن أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (ع)، استجاب الجميع للأمر إلا إبليس الذي تمسك بكون خلقته النارية أشرف من خلقة آدم الطينية؛ لذا لا يصح أن يسجد لمخلوق طيني، ودعاه هذا المنطق إلى أن يعصي الله تعالى ويمتنع عن تنفيذ أمره، فما كان جزاؤه المستحق إلا أن أمره رب العزة بالهبوط من الجنة، إذ لا يحق له أن يتكبر فيها. وهنا طلب إبليس من ربه أن يمنحه مهلة إلى يوم البعث، أي إلى ما بعد النفخة الثانية في الصور، فأجابه الله تعالى بأن أمهله. وذكر بعض المفسرين هنا أنه أمهله إلى النفخة الأولى عند موت الجميع، وذكر غيرهم أنّ الله تعالى لم يوقّت له أجلًا محددًا، والمراد من "الوقت المعلوم" في قوله: {إلى يوم الوقت المعلوم} (2) إنما هو الوقت المعلوم في علم الله تعالى (3). وثمة من المفسرين من ذهب إلى أنّ الإمهال الإلهي لعله كان "إلى آخر الدنيا دون البرزخ، فلا سلطان له في البرزخ سلطان الإغواء والوسوسة، وإن كان ربما صحب الإنسانَ بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج والقرين"(4).
ونقرأ في بعض المرويات: "...فقال إبليس: يا رب كيف وأنت العدل الذي لا تجور، فثواب عملي بطل؟ قال: لا، ولكن اسأل من أمر الدنيا ما شئت ثوابًا لعملك فأعطيتك. فأول ما سأل البقاء إلى يوم الدين، فقال الله: قد أعطيتك، قال: سلطني على ولد آدم، قال: قد سلطتك، قال: أجرني منهم مجرى الدم في العروق، قد: قد أجريتك، قال: ولا يلد لهم ولد إلا ويلد لي اثنان، قال: وأراهم ولا يروني وأتصور لهم في كل صورة شئت، فقال: قد أعطيتك، قال: يا رب زدني، قال: قد جعلت لك في صدورهم أوطانًا، قال: رب حسبي..." (5).
وقد توهم بعضٌ – حسب نقل الرازي (6) - أنّ استجابة الله تعالى طلبَ إبليس المهلةَ تدل على عدم عنايته سبحانه بمصير عباده، فلو كان مهتمًا بذلك حقًا لما أعطى إبليسَ مراده، مع علمه جيدًا أنّ إمهاله سيقود إلى إغوائه كثيرًا من الناس إلى الكفر والباطل. وهذا التوهم باطل؛ لأنّ قبول الله تعالى إنظار إبليس وإمهاله هو الموافق للحكمة من الخلق، فلولا هذا لما تحقق الامتحان والاختبار للعباد، إذ أنّ الامتحان متوقف على وجود طريقين أمام العباد: طريق الله وطريق الشيطان:
- {ونفسٍ وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها} (7).
- {ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا} (8).
وفي الباء الموجودة في: {بما أغويتني} أقوال لدى المفسرين: فقولٌ بأنها للسببية (والمعنى: بسبب إغوائك إياي)، وقولٌ ثانٍ بأنها للمقابلة (أي في مقابل إغوائك إياي سوف أقعد لهم)، وثمة قول أيضًا بأنها للقسم، وقيل غير ذلك.
والإغواء هو الإلقاء في الغيّ أي الضلال، وقد نسب إبليس غيّه إلى (9) الله تعالى، وكأنه مجبور على الضلالة، "ومن هنا يتضح أنّ أول من وقع في ورطة الاعتقاد بالجبر هو الشيطان". أما القعود على الصراط فهو كناية عن تربص الشيطان للسائرين على الصراط المستقيم ليسعى إلى إبعادهم عن طريق الله تعالى.
إنّ في الآيات الكريمة أمورًا يجدر بنا التوقف عندها:
فالأمر الأول: تعبير الشيطان بـ "القعود" فيه دلالة على مدى حرصه على أداء عمله على الوجه الأكمل وبالنحو المتفرغ؛ "لأنّ من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود" (10). إنه لا يكتفي بأن يغوي الناس ويوسوس لهم كيفما حصل، بل لا بد له من أن "يقعد" لهم ويتفرغ بنحو لا يشغله أي شاغل عن أداء ما هو بصدده، وهذا إنما يدل على عداوته الشديدة لبني آدم، تلكم العداوة التي ما فتئ القرآن يذكّرنا بها، ويريدنا أن نتعامل مع الشيطان على أساس منها:
- {إنما الشيطان للإنسان عدو مبين} (11)
- {إنّ الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوًا} (12)
لكن مشكلتنا أننا لا نعطي القضية ما تستحقه من أهمية وانتباه، فلا نبالي بهذا التربص الشيطاني الوثيق، ولا نعي مدى خطورة ذلك علينا وعلى مصائرنا، فترانا نقصّر في تحصين أنفسنا وأخلاقنا من الشيطان، وترانا نستمع إليه وننقاد وراءه طائعين.
ويصف الإمام علي بن أبي طالب هذه الحالة في خطبة له يذم فيها أتباع الشيطان: "اتخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكًا، واتخذهم له أشراكًا، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، فِعلَ من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه" (13).
والأمر الثاني: جلوس الشيطان على "الصراط المستقيم" ينبغي أن يجعل السائرين على هذا الصراط، بوجه خاص، على حذر ويقظة منه؛ لكونه لا يتربص إلا بهم، واهتمامه يكون، في المقام الأول، مركزًا عليهم. وقد ورد أنّ زرارة سأل الإمام الباقر (ع) عن الآية، فقال له الإمام (ع): "يا زرارة، إنما صمد لك وأصحابك، فأما الآخرون فقد فرغ منهم" (14).
ومن هنا نعرف، أنْ لا معنى لما يُلاحظ عند جمع من المؤمنين والمؤمنات من ثقة زائدة بالنجاة، وكأنّ الجنة مضمونة لهم بلا أدنى ريب، وهذا ينعكس بعدئذ على علاقتهم بربهم وعلاقتهم بالناس الآخرين، فأما العلاقة بالرب (سبحانه وتعالى) فتصبح علاقة إدلال عليه، يرى معها المرء أنه صاحب حق عند الله (جل وعلا) ولا بد أن يناله، فتضيع منه ذلة العبودية الحقة، وتستحيل إحساسًا منتفخًا بقيمة الذات ومنزلتها وأهميتها عند ربها، وأما العلاقة بالناس الآخرين فتغدو علاقة تعالٍ واستعلاء عليهم واستصغار لشأنهم.
إنّ المعصومين (ع) علّمونا ألّا يغترّ أحدنا بأعماله الصالحة فيغدو على ثقة بسببها بالنجاة، بل يكون اعتمادنا قائمًا على أساس إيماننا برحمته (عز وجل)؛ لذا وجدنا أشرف الخلق محمدًا (ص) يسير على هذا النهج، فقد ورد أنه (ص) قال: "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمل"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة وفضل" (15)، ووجدنا أيضًا الإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول في دعائه المعروف بدعاء كميل: "ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء" (16).
وكيف يعتمد المؤمن على صلاح أعماله الحالية والسابقة في حين هو لا يعلم كيف ستكون نهايته؟ وإلامَ سيؤول أمره؟ وكيف ستُختتم أعماله في هذه الحياة؟ ثم ما الذي يدريه أنّ صالحاته التي أداها قد وقعت موقع القبول عند الله تعالى الذي ذكر في قرآنه: {إنما يتقبل الله من المتقين} (17)؟
إنّ العاقل لا ينبغي له أن يكون على ثقة من أنّ أعماله قد قبلها الله بقبول حسن؛ كي لا تؤدي به ثقته هذه إلى الانحراف عن جادة الصواب، بل عليه أن يكون دومًا على خوف من احتمال ردّ أعماله كلها. روي أنّ الإمام عليًا (ع) عاتبه بعض أصحابه على كثرة صدقاته وعطاءاته في سبيل الله، من منطلق أنّ عليه أن يمسك بعض المال لنفسه وعياله، فقال (ع): "إني والله لو أعلم أنّ الله قبل مني فرضًا واحدًا لأمسكت، ولكني والله ما أدري أقبل الله مني شيئًا أم لا" (18).
والأمر الثالث: قدرة الشيطان على القعود على الصراط المستقيم – وهذا الصراط ليس سوى الدين القويم – تكشف عن كونه عالمًا بالدين علمًا تامًا، ولولا هذا لما استطاع أن يقعد حيث قعد، لكن هذا العلم لم يوصله إلى أية فائدة لنفسه، بل زاده بعدًا عن الله تعالى. وهذه الحقيقة تفيدنا من جهات:
منها: ألّا نغترّ بما عندنا من علم وثقافة ومعرفة، فإننا لن نخرق الأرض ولن نبلغ الجبال طولًا؛ وذلك أنّ هذا القدر اليسير الذي عندنا – {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} (19) – إنما نلناه بفضل من الله تعالى ولطف ورحمة، ولولا ذلك لما كان بيننا وبين الجمادات من فرق. ثم إنّ هذا الذي نمتلكه قد يكون وبالًا علينا وسببًا لنزول البلاء علينا، فلماذا نغتر به؟
لنقف هنا عند هاتين الآيتين الكريمتين ونتأمل فيهما:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مَثَل القوم الذين كذّبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (20).
الحديث هنا هو عن قصة بلعم بن باعورا الذي كان من كبار علماء بني إسرائيل، حتى ورد أنه كان يعرف اسم الله الأعظم، لكن هل نفعه علمه؟ روي عن الإمام الرضا (ع) أنه "أعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيستجيب له، فمال إلى فرعون، فلما مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه، قال فرعون لبلعم: ادعُ الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا. فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت: ويلك، على ماذا تضربني؟ أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين؟ فلم يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم من لسانه..." (21).
وورد أيضًا في قصة هذا الرجل نفسه أنّ نبي الله موسى (ع) كان قد بعثه إلى ملك مدين لدعوته إلى الله، وكان مجاب الدعوة وكان من علماء بني إسرائيل، فكان موسى يقدمه في الشدائد، لكن الملك أقطعه وأرضاه فترك دين موسى وتبع دينه (22).
ومنها: أن نكون في طلبنا العلمَ ساعين نحو النافع من العلوم، مما يفيدنا في دنيانا المحللة وأخرانا. وأن يكون سعينا نحو العلم نابعًا من رغبتنا في التقرب إلى الله (سبحانه وتعالى) وخدمة خلقه وتحقيق مراده؛ لذا فإنّ أفضل العلوم هو ما يزيدنا معرفة بالله وخوفًا منه، ورد عن الإمام علي (ع) قوله: "غاية العلم الخوف من الله سبحانه" (23).
بيد أنّ من المؤسف أنّ ثمة أناسًا يطلبون العلم لأجل التباهي والتفاخر بالشهادات، والتكالب على المناصب والأموال والشهرة دون أن يكون لله نصيب في نيّاتهم. ولعلهم بعد هذا لا يستعملون علومهم في ما ينفع من أغراض وأهداف، فتكون علومهم هذه غير ذات نفع لهم ولا لمجتمعاتهم أو أوطانهم، فضلًا عن البشرية كلها. وقد ورد عن الرسول الأعظم محمد (ص) قوله: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه" (24).
والأدهى وجود من يطلب العلم والمعرفة لأجل الإضرار بالبشر والمجتمعات الإنسانية، مقدمًا مطامعه الشخصية وطموحاته المادية الفردية على كل القيم والمثل العليا، فتراه مثلًا يوظف معارفه في السحر وتسخير الجن للإضرار بغيره، أو يوظف علومه في صنع وسائل تنشر الفسق والفجور والانحراف، أو أسلحة تهلك الحرث والنسل وتبيد كل ما يقف أمامها.
ومنها: أن نعي أنّ الجانب العلمي الفكري ليس كل شيء في شخصية الإنسان المؤمن، فليس الإنسان عقلًا فحسب، فهناك الروح أيضًا. ولا يمكن لهذا الإنسان أن يترقى في إنسانيته أو يعلو في مدارج الكمال والرفعة إلا إذا ترافق بناء العقل مع تعمير الروح فيه، وإلا كان الارتفاع بالجانب العقلي وحده ارتفاعًا ناقصًا، بل سيرًا أعرج لا يحقق المطلوب ولا يوصل إلى المراد.
والأمر الأخير: تعبير الشيطان عن الناس بضمير الجمع "لهم" قد تكون فيه إشارة إلى أنّ الشيطان له تأثير في الناحية الاجتماعية بعامة، وليس في الأفراد وحسب. بمعنى أنه يسعى – إضافة إلى إغواء الأفراد – إلى توجيه الحراك الاجتماعي العام والمزاج الجماهيري الواسع نحو ما لا يريده الله سبحانه، فيجعل الناس يستحسنون الباطل ويشجعونه ويشيعونه بينهم حتى يتحول إلى عادة اجتماعية وحالة عامة لا يملك الجميع إلا أن يتبعوها. وهذا ما يلاحظ اليوم في كثير من مجتمعاتنا التي أصبح فيها التفاخر بالمظاهر المادية للحياة والتسابق نحو اقتنائها حالة اجتماعية عامة يجد الجميع أنفسهم منقادين نحوها، حتى إذا لم يكونوا قادرين عليها. وما أكثر المشكلات الأسرية والخلقية والاجتماعية التي تنجم بعدئذ عن هذا الهوس الاجتماعي العام.
وفي المقابل، فإنّ الشيطان مثلما يمكن أن يُحارب بالالتزام الشخصي الفردي بالدين والإتيان بالطاعات، فكذلك من الممكن محاربته أيضًا بتوجيه الحراك الاجتماعي العام نحو الخير والصلاح وطاعة الله (جل وعلا). وفي هذا المعنى ما ورد عن النبي (ص) من قوله لأصحابه: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه" (25).
________________________