الجانب الروحي في حياتنا (*)
الشيخ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي
(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (1).
تعود بنا هاتان الآيتان المباركتان إلى قصة الخلقة الأولى، حين أخبر ربنا – جلّت قدرته – الملائكة بأنه سيخلق خلقًا يُعرف بـ "البشر"، وأوضح لهم أنّ خلقته ستكون من "صلصال من حمأ مسنون"، وقد ورد في معاني هذه المفردات الثلاث: "الصلصال: الطين اليابس، أُخذ من الصلصلة وهي القعقعة، والحمأ: جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد، والمسنون: هو المصبوب، من سننت الماء على وجهه أي صببته، وقيل إنه المتغير، من قولهم: سننت الحديدة على المسن إذا غيّرتها بالتحديد"(2).
وبعد الانتهاء من تسوية خلقه – والتسوية هي الخلق والصنع باعتدال – ستكون هناك نفخة من روح الله تعالى، فما معنى هذا النفخ؟
أجاب الزمخشري عن هذا بقوله: "وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يُحيا به فيه"(3). الآية، بناءً على هذا، ليست دلالتها على النفخ من باب الحقيقة، وإنما هي من باب الاستعارة التمثيلية، فقد شُبهت الصورة الدالة على خلق الروح في البشر بالصورة الدالة على نفخ شيء في شيء، ثم استعير التركيب الدال على المشبه به للدلالة على المشبه، على سبيل الاستعارة التمثيلية، وقرينتها حالية.
ووافقه الطباطبائي على كون الصورة هنا استعارية مجازية، بيد أنه خالفه في تعيين نوع الاستعارة الموجودة، فذهب إلى أنها استعارة مكنية، قائلا: "وفي قوله: (ونفخ فيه من روحه) استعارة بالكناية، بتشبيه الروح بالنَفَس الذي يُتنفس به ثم نفخه في قالب من سوّاه، وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفية"(4). بناءً على هذا، يكون في الآية الأولى تشبيه للروح بالنَفَس، ثم حذف للمشبه به، وإقامة للازم من لوازمه (وهو النفخ) في محله، على سبيل الاستعارة المكنية (أو الاستعارة بالكناية)، وقرينتها لفظية وهي تعلّق النفخ بالروح.
وفي موضع آخر، مال الطباطبائي إلى كون الصورة هنا كنائية، فقال: "النفخ إدخال الهواء في داخل الأجسام بفم أو غيره، ويُكنى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شيء، ويعنى به في الآية إيجاده تعالى الروح الإنساني بما له من الرابطة والتعلق بالبدن، وليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه" (5).
ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه الأقوال المتقدمة تتفق فيما بينها على كون "النفخ" المذكور غير مراد على معناه الظاهري المعروف، فلا معنى للنفخ المعروف حين يتعلق الموضوع بالله المنزه عن المادة والماديات وما يرتبط بها.
الأجدر هنا باسترعاء انتباهنا هو ما في قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) من إضافة الروح الإنسانية إليه سبحانه وتعالى. هذه الإضافة هي – كما تقدم عن الطباطبائي – إضافة تشريفية، مثلما يضاف شهر رمضان إليه تعالى فيقال له "شهر الله"، ومثلما تضاف الكعبة إليه أيضًا فيقال لها "بيت الله". لقد أراد الله، إذن، أن يشرّف روح هذا الإنسان فأضافها إليه، ويا لها من إضافة أكسبت هذا المخلوق شرفًا لا يعلوه شرف! وهو المخلوق الوحيد الذي نال هذا الشرف العظيم.
وهنا، نقف وقفات مع هذه الحقيقة القرآنية:
فأولًا:
امتياز هذا الإنسان من سائر الكائنات الحية ليس يصح اختصاره – كما فعل المناطقة – في كونه "ناطقًا" (بمعنى كونه عاقلًا قادرًا على التفكير)، فهذا الامتياز في المنظور القرآني هو، في المقام الأول، بروحه التي شرّفها الله تعالى بإضافتها إلى نفسه دون أن يشرّف أية روح أخرى بمثل هذا التشريف أو ما يدانيه.
وإذا كان هذا هكذا، فإنّ على الإنسان أن يستشعر دومًا قيمة روحه ومكانتها، فلا يرمي بها إلى حيث تفقد قيمتها أو تتأثر مكانتها. ورد في وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) لولده الحسن (ع): "وأكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضًا" (6). إنّ الإمام عليًّا (ع) يريدنا أن نتذكر أنّ إقبالنا على المنكرات والدنايا قد يحقق لنا بعض رغباتنا ويشبع عندنا شيئًا من ميولنا وغرائزنا، لكن ذلك لن يكون إلا في مقابل أن نمنح العوض من أنفسنا، من شأن أرواحنا التي شرّفها خالقها (جلّ وعلا)، وما أتفه المكتسبات هنا إن هي قورنت بالخسائر الفادحة!
ويرى الإمام علي (ع) أيضًا – كما في حكمة له أخرى – أنّ المعصية هي إهانة لهذه النفس التي أرادها الله أن تظل شريفة دومًا، فيقول: "من كرمت عليه نفسه لم يهنها بالمعصية" (7). ومن هذا المنطلق، كان لزامًا على من يعرف كرامة نفسه ويود المحافظة عليها كما أرادها ربها ألّا يكون عبدًا لشهوته، ينقاد وراءها فتقوده إلى المهالك. يقول الإمام علي (ع): "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته" (8).
على الإنسان، إذن، أن يولي نفسه عناية كبرى في هذا المجال، فلا يسمح لروحه التي شرّفها خالقها بأن تنغمس في الأوحال والأدران، فيضيع صفاؤها، ويتلاشى نقاؤها. وليس صحيحًا ما يدعو إليه بعض الصوفية من أنّ على الإنسان أن يقتل نفسه وينساها، فلا يوليها من الاهتمام ما لا تستحقه، وليكن بعدئذ ما يكون! وفي التحذير من هذه الحالة قال العلامة الشهيد المطهري (قدس سره): "واحدة من الخسارات الكبيرة التي عاناها الإسلام من تعليمات العرفاء والمتصوفة، أنهم – بتأثير التعليمات المسيحية والبوذية والمانوية – خلطوا الأمور في مسألة الجهاد مع النفس، أو "قتل النفس ونسيانها" حسب اصطلاحهم. فلو انتبهوا قليلًا إلى تعليمات الإسلام لرأوه يدعو إلى هدم نوع من الذاتية وإحياء نوع آخر. الإسلام يقول: انسَ نفسك ولا تنسَ نفسك. إنه يوصي أن تنسى النفس الحيوانية، ولكنه يطالبك بولادة أخرى في روحك..." (9).
والحقّ أنّ من يوبق نفسه بالمنكرات ويلوّث روحه بالقذارات، يتخلى، في الحقيقة، عن إنسانيته، ولا يبقى له منها سوى الصورة الظاهرية، فعن الإمام علي (ع) أنه قال في صفات الفسّاق: "فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان" (10). وبما أنّ حقيقة الإنسان ليست في صورته الظاهرية، فإنّ هذا المخلوق يكون في الواقع حيوانًا آخر غير الإنسان. ومن هنا أصرّ بعض الفلاسفة – ومنهم صدر المتألهين الشيرازي – على أنّ من الخطأ الاعتقاد بأنّ جميع البشر نوع واحد، فالإنسان في الحقيقة جنس وليس نوعًا، وهذا الجنس له أنواع كثيرة، فثمة الإنسان الذئب، والإنسان الثعلب، والإنسان الأفعى...وهكذا.
وثانيًا:
كما أنّ على الإنسان ألّا يرمي بروحه حيث تفقد شرفها ومنزلتها الرفيعة، فكذلك عليه أيضًا أن يكون حريصًا على الارتفاع بها دومًا إلى الأعلى، فللشرف مراتب لا تعدّ ولا تحصى، ارتفاعًا وسموًا، فعلى المرء منّا أن يحرص على أن يظل ارتفاعه متواصلًا بلا توقف ما دام ثمة نَفَس يتردد في صدره، ولن يتحقق هذا إلا بأن يستدرك ما فاته. ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: "حسن الاستدراك عنوان الصلاح" (11)، وقوله: "من استدرك فوارطه صلح" (12).
وبعد استدراك الفوائت، بل قبله ومعه أيضًا، على المرء أن يحرص على الاستزادة من عمل الخير؛ لتحصل روحه على مستزاد الشرف. وللمعصومين (ع) تأكيدات متضافرة في هذا المجال، فعن الإمام علي (ع) مثلًا قوله: "فاعملوا والعمل يُرفع، والتوبة تنفع، والدعاء يُسمع، والحال هادئة، والأقلام جارية. وبادروا بالأعمال عمرًا ناكسًا، أو مرضًا حابسًا، أو موتًا خالسًا..." (13)، وعن الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) أنه قال: "إنّ أحبكم إلى الله عزوجل أحسنكم عملًا، وإنّ أعظمكم عند الله عملًا أعظمكم فيما عند الله رغبة" (14).
إننا، ونحن في خضمّ إقبالنا على مشاغلنا في حيواتنا اليومية وارتباطنا بالسعي وراء أعمالنا ومهامنا فيها، نحتاج إلى تذكير أنفسنا بحاجة أرواحنا إلى الارتفاع الدائم في مراقي السمو والكمال؛ ذلك أنّ الركض المحموم وراء الدنيا – وإن كان في دائرة الحلال وحدها – قد يجعلنا نغفل عن عطشنا الروحي وسغبنا النفسي، فنلقي بكل ذلك وراءنا ظهريًا، أو لا نهبه من الاهتمام ما يستحق.
وقد لا نعدم في مجتمعاتنا، لا سيما في الفئة الشابة، أناسًا إن فكروا في رفع مستوياتهم الإنسانية فإنهم لا يفكرون إلا في الناحية الفكرية الثقافية وحدها، فهي الجديرة باهتمامهم والحقيقة بعنايتهم، فحيثما وُجدت رأيتهم موجودين، وحيثما فُقدت أو قلّت لم تجد لهم عينًا ولا أثرًا! لذا لا تعجبْ إن افتقدتهم في المساجد ومجالس ذكر النبي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) وحلقات تلاوة القرآن الكريم ومجامع الدعاء والعبادة، ففي جميعها قد لا يجدون ما يشبع نهمهم الفكري، ومن ثَمّ لا يرون إليها جاذبًا. أما حديث الروح والحاجة إلى الارتفاع بها بغضّ النظر عن مدى الفائدة الفكرية، فهو حديث لا يرقى، في أنظار الكثيرين، إلى مستوى دائرة اهتمامهم.
وأخيرًا:
استفاد بعض المفسرين – من كون الروح الإنسانية في الآية الأخيرة مضافة إلى ضمير المتكلم الراجع على رب العزة – أنّ هذه الروح لا يعرف حقيقتها وواقعها إلا ربها سبحانه، فقال الزمخشري مثلًا: "ودلّ بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله: (ويسألونك عن الروح... الآية)، كأنه قال: ونفخ فيه الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته" (15).
وإذا كان الأمر على ما ذكر، وكانت معرفة حقيقة الروح وكنهها مقصورة على بارئها الكريم، فإنّ هذا يستلزم أن يكون السعي إلى الارتفاع بها مقتصرًا على الطرق التي أرشد إليها خالقها وحثّ عليها، لا أن نستجدي هذه الطرق من المدارس والأفكار والاتجاهات التي لا علاقة لها بديننا وأسسه.
إنّ المسلم مدعوّ إلى أن يرجع إلى قرآنه الكريم إن أراد لروحه سموًا ورفعة؛ فالقرآن هو كتاب الهدى والفلاح والسير بالإنسانية إلى صلاحها:
- {إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم} (16)
- {وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (17)
- {ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين} (19)
والمسلم مطالب أيضًا بالرجوع إلى سنة رسول الله (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع)، فبهم تكون النجاة ويُعرف الصواب ويُنجى من الهلكات كلها.
وليس معنى هذا أنّ الباب مغلق أمام المسلم للاستفادة من الأفكار والآراء الحديثة التي تأتيه من مدارس واتجاهات روحية لا ارتباط لها بالإسلام، فبوسعه أن يستفيد من هذه أيضًا، لكن شريطة أن يتيقن قبلًا من عدم تعارضها وتنافيها مع ما في الكتاب والسنة ومع ما يعتقده الدين ويذهب إليه، لا أن تكون الحالة كما نجدها عند كثيرين ممّن يدّعون الثقافة والمعرفة، إذ يلهثون وراء بعض الاتجاهات والأفكار التي تزعم لنفسها المعرفة بالروح البشرية والقدرة على صقلها والسمو بها، دون أن يحاولوا فهم مدى تطابق ما تدعو إليه مع ما يتبناه الإسلام ويؤمن به؛ لذا قد لا نعدم أن نرى بيننا أناسًا مسلمين يؤمنون بأفكار في الجانب الروحي ويمارسون ممارسات لا تتفق مع الدين، بل قد تتعارض معه.
_____________________
(*) المصدر كتاب "الإنسان والحياة .. نظرات قرآنية".
(1) سورة الحجر، الآيتان 28و 29.
(2) مجمع البيان، الطبرسي، المجلد 4، الجزء 14، ص22.
(3) الكشاف 2: 577.
(4) الميزان في تفسير القرآن 16: 250.
(5) الميزان 12: 154.
(15) الكشاف 3: 509.
(16) سورة الإسراء، الآية 9.
(17) سورة الإسراء، الآية 82.
(18) سورة البقرة، الآية 2.