حقيقة العصمة
بقلم الشيخ جعفر السبحاني
يمكن القول وبصورة مختصرة انّ حقيقة العصمة هي الدرجة القصوى من التقوى، أي انّ العصمة ترجع إلى التقوى، بل هي الدرجة العليا منها، فما توصف وتعرّف به التقوى توصف و تعرّف به العصمة، فكلّما تصوّرنا معنى للتقوى نجد ذلك المعنى وبصورة أكمل موجوداً في العصمة، فإذا قلنا: إنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف الكثير من القبائح والمعاصي فلابدّ من القول أيضاً: إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس، تعصم الإنسان عن ارتكاب الذنب بصورة مطلقة فلا يرتكب المعاصي مطلقاً، بل لا يفكّر فيها أبداً ولا يحوم حولها. وعلى هذا الأساس عرّف المحقّقون العصمة بأنّها: قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ (1).
وبعبارة أُخرى: العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة لا تنفك عنها كسائر الملكات النفسانية كالشجاعة والعفّة والسخاء فإنّها جميعاً من الصفات التي ترسخ في النفس الإنسانية وتستحكم وتتطلب آثاراً خاصة بها. فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً، سخياً وباذلاً، عفيفاً ونزيهاً يطلب في حياته معالي الأُمور ويتجنب عن سفاسفها، فيطرد ما يخالف ذلك من الآثار كالخوف والجبن والبخل والإمساك والقبح والسوء ولا يرى في حياته أثراً منها، ولا ريب أنّ العصمة من هذه المقولة، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى والعفاف والنزاهة، وصارت تلك حالة راسخة في نفسه يصل حينئذ إلى حدّ لا يُرى في حياته أثر للعصيان والطغيان والتمرد والتجري والانحراف، وتصير نفسه نقيّة عن كلّ أنواع المعصية.
ولكنّ هناك سؤالاً يطرح نفسه وهو: كيف يصل الإنسان إلى هذا المقام من التقوى والخشية من اللّه؟ وما هي العوامل التي تساعده وتمكّنه من الوصول إلى هذه الحالة بحيث تسمو نفسه إلى درجة لا يفكر بالمعصية؟
العصمة النسبية والمطلقة
لكي يتّضح المطلب جليّاً لابدّ من الإشارة إلى أنّ العصمة المطلقة تختص بطبقة خاصة من الناس وهم الأنبياء والأئمّة "عليهم السلام"، ولكنّ العصمة النسبية ـ ونعني بها المصونية في مقابل بعض الذنوب لا تختص بالأنبياء والأئمّة فقط. بل تعمّ الكثير من الناس الشرفاء فإنّ الإنسان الشريف وإن كان غير معصوم من جميع الذنوب، وأنّه يقترف بعض المعاصي، لكنّه وبلا ريب يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنّب عن التفكير بها فضلاً عن ارتكابها، وعلى سبيل المثال الإنسان الشريف لا يتجول عارياً في الشوارع والطرقات، ويعدّ ذلك من الذنوب والقبائح الكبيرة التي لا ينبغي ارتكابها، بل لا ينبغي التفكير بها، كما أنّ كثيراً من الناس معصومون من اقتراف السرقة المسلّحة وقتل الإنسان البريء وكذلك الانتحار، أي انّهم يمتلكون حالة نفسانية تعتبر كلّ تلك الأفعال من الأُمور القبيحة التي ينبغي للإنسان التنزّه عنها والتنفّر حتّى من التفكير فيها.
إذا تعرفنا على العصمة النسبية التي هي موجودة لدى غالب الأفراد تقترب حينئذ حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، ويمكن لنا حينئذ التعرف على ماهيّتها بحيث يمكننا أن نعرفها: بأنّها قوّة باطنية وحالة نفسانية ونوع من التقوى والنزاهة الداخلية تمنع صاحبها من التفكير في الذنب فضلاً عن ارتكابه. وإذا ما سلبت هذه الحالة منه يعود إنساناً عادياً يتصف بالعصمة النسبية فقط لا العصمة المطلقة.
العصمة نتيجة العلم بعواقب المعاصي
هناك نظرية أُخرى لتبيين حقيقة العصمة يذهب إليها بعض المحقّقين، ومفادها: إنّ العصمة عبارة عن وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام، علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شكّ ولا يعتريه ريب (2).
ومعنى كلام العلاّمة الطباطبائي "قدس سره": انّ العلم الذي لا يغلب هو العلم بلوازم الذنوب، ومن المسلّم انّه ليس كلّ علم بلوازم الذنوب يبعث على المصونية والعصمة من الذنب، بل ينبغي أن يكون العلم بدرجة من القوّة والشدّة بحيث تتجسّد آثار الذنوب أمام الإنسان ويراها ببصيرة القلب، ففي مثل هذه الحالة يصبح صدور الذنب من ذلك الإنسان من قبيل المحال العادي، أي يستحيل عادةً أن يصدر منه الذنب. وهذه النظرية لا تتنافى مع ما ذكرناه في النظرية الأُولى، بل النظرية الثانية تمثّل الأساس من النظرية الأُولى، وذلك:
إنّ حالة الخشية المطلقة من اللّه، وبتعبير آخر: "الدرجة القصوى من التقوى" لا يمكن أن تتحقّق من دون العلم القطعي بلوازم وتبعات المعصية والذنب، وذلك لأنّ الإنسان المعصوم بسبب علمه يدرك ويلمس آثار وتبعات الذنوب، وبذلك يستطيع أن يُؤمن نفسه من الإصابة بتلك الأُمور حيث إنّه يرى ومن هذا العالم الدنيوي مقامات أصحاب الجنة ودركات أصحاب الجحيم ويحسّ لهيب جهنم بنحو ودرجة يمتنع عندها ظهور أيّ عامل من عوامل ارتكاب الذنوب في روحه وفي نفسه، ويكون في الواقع حقيقة ومصداقاً لقوله تعالى: ( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحيمَ)(3).
فانّه في ظلّ علم اليقين الذي يحمله يطلُّ من هذه الدنيا على العالم الآخر ليرى ما فيه وتتّضح له الصورة حتّى يستحيل عليه أن يحوم حول الذنب أو يفكّر فيه، ومن هذا المنطلق نرى أنّ العلاّمة الطباطبائي "قدس سره" يرى أنّ العصمة من مقولة العلم القطعي، وأنّ هذا العلم القاطع ينتج درجة عالية من التقوى، وفي النتيجة انّ النظريتين منسجمتان انسجاماً تاماً ولا تنافي بينهما.
العصمة نتيجة الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله
إنّ هنا نظرية ثالثة لتفسير حقيقة العصمة بأنّها استشعار العبد بعظمة الخالق وحبّه وتفانيه في معرفته وعشقه له يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.
إنّ الإنسان المعصوم وبسبب معرفته القصوى بمعدن الكمال المطلق وجماله وجلاله يجد في نفسه انجذاباً نحو الحقّ وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، وهذا الكمال المطلق يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبة ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه وقبيحاً في نظره أشدّ القبح وعندئذ يصبح هذا الإنسان مصوناً عن المخالفة بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" بقوله: "ما عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نارِكَ وَلا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبادَةِ" (4).
وعلى هذا الأساس سواء قلنا: إنّ العصمة معلولة للكمال النفساني والروحي للمعصوم، أو إنّها نتيجة العلم القطعي الذي لا يغلب، أو إنّها استشعار المعصوم بعظمة الرب، فعلى كلّ حال تكون العصمة غير خارجة عن ذات الإنسان الكامل، بل هي قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه، ولكن هناك بعض الروايات تصرّح بأنّ العصمة نتيجة لأمر خارجي يطلق عليه "روح القدس" يعصم الأولياء من ارتكاب الخطأ، وهذا ما سنبحثه في مكان آخر.
___________________________
(1) الميزان:2/142، ط طهران.
(2) الميزان:2/ 82.
(3) التكاثر:5ـ 6.
(4) عوالي اللآلي:1/ 404.