خطر الاستهانة بالذنوب
جعفر البياتي
لكي لا ينزلق المرء في مهاوي الشيطان، ولا يقع في حبائل مصائده، عليه دائماً أن يستحضر في قلبه ونفسه ومشاعره وضميره الرّقابة الإلهية، وانفتاح سجل الأعمال لِتُدوّن أقواله وأفعاله في ليل كانت أو في نهار، وأن تكون عنده ملكة محاسبة النفس، والتّبصّر والانتباه والاحتراس من كل ما يؤدي به إلى الإثم وإن قلّ، حَذِراً ذاكراً، لا يتناسى ولا يتجاهل ولا يتغافل، ولا يحتقر الصغائر من الذنوب.
جاء في الخبر: إنّ رسول الله "صلى الله عليه وآله" نزل بأرضٍ قرعاء، فقال لأصحابه: إئتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض. فقال رسول الله "صلى الله عليه وآله": إياكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكل شيء طالباً، ألا وَإِنَّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (١).
وعن النبي "صلى الله عليه وأله" أنه قال لابن مسعود: يا ابن مسعود، لا تُحقّرنّ ذنباً ولا تُصغّرنّه، واجتنب الكبائر؛ فإنّ العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً ودماً، يقول الله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (٢).
وعنه "صلى الله عليه وآله" أيضاً قال: إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه مُمثّلة، والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شرّاً أنساه ذنوبه (٣).
وَمِمَّا جمع من مفردات كلماته قال "صلى الله عليه وآله": لا تنظروا إلى صغر الذنب، ولكن انظروا إلى من اجترأتم (٤).
وعن أمير المؤمنين "عليه السلام" أنّه قال:
-أشد الذنوب عند الله سبحانه ذنب استهان به راكبه (٥).
-أشد الذنوب ما استخفّ به صاحبه (٦).
-أعظم الذنوب عند الله ذنبٌ أصرّ عليه عامله (٧).
وعن الإمام الرِّضا "عليه السلام" قال: الصغائر من الذنوب طُرُق إلى الكبائر، ومن لم يخف الله في القليل لم يخفه في الكثير (٨).
وجاء عن السيد المسيح "عليه السلام" قوله للحواريين: إن صغار الذنوب ومحقّراتها لمن مكائد إبليس، يُحقّرُها لكم، ويصغّرها في أعينكم، فتجمع وتكثر فتحيط بكم (٩).
إذن، ما لم تكن عند المرء مراقبة للنفس ومحاسبة لها، وواعظ منها ولائم لها فإنها سترتكب الذنب، ثم تستصغره ثم تستخفُّ به. وقد يصل بها الأمر - والعياذ بالله - إلى أن تستأنس بالذنب وتفتخر به .. وهذا أشدُّ من الذنب نفسه. وقد حذّر الإمام علي بن الحسين "عليه السلام" من ذلك فقال: إيّاك والابتهاج بالذنب؛ فإنّ الابتهاج به أعظم من ركوبه (١٠).
ثم إنّ الاستهانة بالذنب تحمل معنى عدم الخوف من الله جلّت قدرته، وهذا يجرّئ المذنب على مزيد المعصية. وكذلك في الذنب مع الغفلة يكون الانحراف، يبدأ قليلاً وينتهي كثيراً، فَلَو مِلْنا عن خطّ القِبلة ميلاً يسيراً من مسافة بعيدة، ثم اتّجهنا نحو القبلة فإنا لا نصيبها، إذ نكون - إذا وصلنا إلى خطّها - قد ابتعدنا أميالاً عنها.
والشرارة الصغيرة التي يستهان بها تُحرق بيتاً وحيّاً ومدينة!
والذي ينتهي عن الخطيئة بمراقبة نفسه ومحاسبتها يكون قد أدّى تكليفاً هو أيسر بكثير من طلب التوبة، وبهذا وعظنا أمير المؤمنين "عليه السلام" حيث قال: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة، وكم من شهوة ساعة أورثت حُزْناً طويلاً! (١١).
إذن، ما لم يكن هناك تصوّر يقيني بالرقابة الإلهية، وما لم تكن هناك محكمةٌ جادّةٌ مخلصةٌ ساهرةٌ في النفس، فإنّ الانحراف عن طريق الله تعالى وخط الحق والاستقامة المؤدي إلى الهدف المرضي أمرٌ كثير الاحتمال. أما العودة إلى الطريق المؤدي إلى الله تعالى بعد الانحراف فذلك أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، حين تنزل بالمرء نازلةُ الموت، فينقطع العمل، وينقبر العمل، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)(١٢).
إن من رزق اليقظة، واستدرك حاله، وأمسك بزمام نفسه، وعقد محكمة المحاسبة في ذاته كلّ يوم وكلّ ليلة، بل وكل ساعة، وعاتب نفسه بنفسه، وراقبها وحاسبها ولامها، فقد أمن كثير الزلل، وتجنب مزيد العلل، واقترب من الطاعات، وابتعد عن المعاصي والموبقات. وقد ذكر الله تعالى في كتابه المجيد تلك النفس المعاتبة لذاتها، فقال: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (١٣).
والنفس اللوامة على رأيٍ هي تلك النفس العائدة للمؤمن، والتي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة، وتنفعه يوم القيامة. وفيها قال ابن عباس (وهو الآخذ علومه من النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما): التي تلوم على الخير والشر، تقول: لو فعلت كذا وكذا، وقال أيضاً: التي تندم على ما فات وتلوم عليه (١٤).
ومثل هذه النفس تلوم نفسها أو صاحبها على الخير إذا فاته، أو قلّ منه، وعلى الشر إن ارتكبه أو استهان ركوبه ولم يستعظمه، وتندم إذا مرّت السنوات ثم التفتت إلى ما عندها فرأته قليل الخيرات، خلْواً من الباقيات الصالحات، مليئاً بالآثام والسيئات!
نسأله تعالى ألاّ يحرمنا عفوه، وألاّ يبعدنا عن التقوى التي تكون في القلب كالنور، وأن يرزقنا العين الباصرة التي تسلك بِنَا إلى مراضيه، وتجنبنا معاصيه.
_______________________________
(١) الكافي للكليني ٢: ٢١٨، باب استصغار الذنب /ح ٣.
(٢) مكارم الأخلاق للحسن بن الفضل الطبرسي: ٤٥٢، والآية في سورة آل عمران: ٣٠.
(٣) مكارم الأخلاق: ٤٦٠، في مواعظه لأبي ذَر (رض).
(٤) كنز الفوائد للكراجي: ١٣.
(٥) غرر الحكم: ٩٢؛ عيون الحكم للواسطي ٦: ١٤.
(٦) نهج البلاغة: الحكمة ٤٧٧.
(٧) غرر الحكم: ٩٢؛ عيون الحكم للواسطي ٦: ١٥.
(٨) عيون أخبار الرِّضا للصدوق ٢: ١٨٠ /ح ٤، الباب ٤٤.
(٩) تحف العقول لا شعبة الحرّاني: ٢٨٩، من وصايا الإمام الكاظم "عليه السلام" لهشام بن الحكم.
(١٠) بحار الأنوار للمجلسي ٧٨: ١٥٩ / ح ١٨، باب مواعظ علي بن الحسين "عليهما السلام"، عن كتاب نثر الدّرر (مخطوط).
(١١) الكافي ٢: ٣٢٧، باب إنّ ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة/ح١.
(١٢) سورة المؤمنون: ٩٩ - ١٠٤.
(١٣) سورة القيامة: ١ - ٢.
(١٤) الدر المنثور للسيوطي ٦: ٢٨٧.