الاحتفال بمولد النبي (ص)... بدعة أم سُنّة
الشيخ جعفر السبحاني
لقد طال النزاع في الآونة الأخيرة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها في الاحتفال بمولد النبيّ الأكرم (ص)، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه بينما يراه الأكثرون أنّه من السنّة. وإليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلّة.
النبي أصل في الكتاب والسنّة:
إنّ العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المُحدثة فليس ذلك ببدعة، ونركّز على وجود دليل عام على الاحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأمّا الدليل فكما يلي:
الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب.
ولا شكّ أنّ حبّ الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحبّ، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى البيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان، ومن هذا المنطق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحب نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتصاله به جسمانياً كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً كالعقائد والأفكار والآراء والنظريات التي يتبنّاها، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشدّ من حبّه لأبيه وأمّه فيذّب عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شيء حتى نفسه التي بين جنبيه.
فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة، تكون لمؤسّسها ومغذّيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها؛ إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا أخضرّ لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال من غير فرق بين نبيّ وآخر ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم، وإقبالاً عليهم.
النبيّ في الكتاب:
ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشرية، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبيّ وكلّ ما يرتبط به، وليست الآيات إلاّ إرشاداً إلى ما توحي فطرة الإنسان إليه قال سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة : 24).
ويقول سبحانه: ( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الأعراف: 157). فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة:
1 ـ الإيمان به.
2 ـ تعزيره.
3 ـ نصرته.
4 ـ اتّباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه.
وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنه قد ذكره بقوله: ( وَنَصَرُوهُ ) وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة والعظمة، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.
ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحث على حبّه ومودته.
قال رسول اللَّه (ص):
1 ـ (والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده ).
2 ـ (ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شيء أحبّ إليه من اللَّه ورسوله، ومن كان لئن يُحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتد عن دينه، ومن كان يَحبّ للَّه ويبغض للَّه ).
3 ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه ).
4 ـ (ثلاث مَن كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهم ).
5 ـ أبو ذر قال: يا رسول اللَّه! الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: (أنت يا أبا ذر مع من أحببت ) قال: فإنّي أُحب اللَّه ورسوله، قال: (فإنّك مع من أحببت )، قال: فأعاد (ها) أبو ذر، فأعادها رسول اللَّه (ص).
6 ـ (من أحيا سنّتي فقد أحبّني ومن أحبّني كان معي في الجنّة ).
7 ـ (أشد أُمتي لي حبّاً قوم يكونون بعدي يودّ أحدهم أنّه فقد أهله وماله وأنّه رآني ).
8 ـ (إنّ أُناساً من أُمتي يأتون بعدي يودّ أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله ).
9 ـ (من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كلّ صلاة مكتوبة حلّت له الشفاعة منّي يوم القيامة: اللَّهمَّ أعط محمداً الوسيلة، واجعل في المصطفين محبّته، وفي العالمين درجته، وفي المقرّبين ذكر داره ).
اختلاف الأمة في درجات حبّهم للنبي (ص) :
وليست الأمة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حب اللَّه تعالى.
مظاهر الحب في الحياة:
إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان تصرفاته، بل إنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة. فحبّ اللَّه ورسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه، والاستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول اللَّه (ص) أشدَّ الحبّ، ومع ذلك يخالفه في ما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادّعى حبّاً في نفسه وخالفه في عمله فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.
للحبِّ مظاهر وراء الاتّباع:
نعم لا يقتصر أثر الحبّ على هذا، بل له آثار أُخرى في حياة المحب، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظمه ويزيل حاجته، ويذب عنه، ويدفع عنه كل كارثة ويهيئ له ما يريحه ويسره إذا كان حيّاً.
وإذا كان المحبوب ميتاً أو مفقوداً حزن عليه أشد الحزن، وأجرى له الدموع، كما فعل النبيّ يعقوب (ع) عندما افتقد ولده الحبيب يوسف (ع) فبكاه حتى ابيضّت عيناه من الحزن، وبقي كظيماً حتى إذا هبّ عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هشَّ له وبشَّ، وهفا إليه شوقاً وحبّاً.
بل يتعدّى أثر الحبّ عند فقد الحبيب وموته هذا الحد، فنجد المحبّ يحفظ آثار محبوبه، وكل ما يتّصل به من لباسه وأشيائه، كقلمه ودفتره وعصاه ونظّارته. كما ويحترم أبناءه وأولاده، ويحترم جنازته ومثواه، ويحتفل كل عام بميلاده وذكرى موته، ويكرمه ويعظمه حبّاً به ومودة له.
إلى هنا ثبت، أنّ حبّ النبيّ وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أنّ المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكل ما يعد مظهراً لحبّ النبي شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات ولا يكون منكراً في الشريعة، نظير:
1 ـ تنظيم السنّة النبوية، وإعراب أحاديثها وطبعها ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم.
2 ـ نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطولة حول حياة النبيّ وعترته، وإنشاء القصائد بشتى اللغات والألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.
وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبيّ ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهرة في هذا المجال، فشكر اللَّه مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة.
3 ـ تقبيل كلّ ما يمت إلى النبي بصلة كباب داره، وضريحه وأستار قبره انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته.
وهذا أمر طبيعي وفطري فبما أنّ الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبيّ (ص) من تقبيل الرسول (ص) فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الاتّصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه. فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى ويصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول:
أمرّ على الديار ديار ليلى = أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
فما حبّ الديار شغفن قلبي = ولكن حبّ من سكن الديارا
4 ـ إقامة الاحتفالات في مواليدهم وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيات والمحرّمات.
ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبيّ في أيّ من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ أي حبّ النبيّ الذي أمر به القرآن والسنّة بهذا العمل.
قال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (ع)، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عظيم... فرحم اللَّه امرئ اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشد علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء (١).
إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الاحتفال بمولد النبيّ الأكرم (ص)، احتفالاً دينياً فيه رضا اللَّه ورسوله، ولا تّصح تسمّيته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل؛ الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.
ويرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبيّ؛ وجدانك الحرّ، فإنّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبيّ وإشادة بكرامته وعظمته، بل يتلقّاها كل من شاهدها عن كثب على أنّ المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداءً بقوله سبحانه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (الانشراح: 4).
السنّة النبوية وكرامة يوم مولده (ص):
1 ـ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أنّ رسول اللَّه (ص) سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ( ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أُنزل عليّ ) (٢).
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم اللَّه على عباده ما هذا لفظه: إنّ من أعظم نعم اللَّه على هذه الأمة إظهار محمّد (ص) وبعثته وإرساله إليهم، كما قال اللَّه تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر (٣).
2 ـ روى مسلم في صحيحه عن ابن عبّاس (رضي اللَّه عنه) قال: لمّا قدم النبيّ (ص) المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظفر اللَّه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصوم تعظيماً له، فقال رسول اللَّه (ص): (نحن أولى بموسى ) وأمر بصومه (٤).
وقد استدل ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: فيستفاد فعل الشكر للَّه على ما منّ به في يوم معيّن من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظير ذلك اليوم من كلّ سنة. والشكر للَّه يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ نبيّ الرحمة في ذلك اليوم (٥).
3 ـ وللسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصّه، يقول: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبيّ (ص) عقّ عن نفسه بعد النبوّة مع أنّه قد ورد أنّ جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي (ص) إظهار للشكر على إيجاد اللَّه إيّاه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القُربات وإظهار المسرّات (٦).
نرى أنّ المسيح عندما دعا ربه أن ينزل مائدة عليه وعلى حوارييه قال: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (المائدة: 114).
فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً، والرسول الأكرم نعمة عظيمة منّ بها اللَّه على المسلمين بميلاده، فلم لا نتّخذه يوم فرح وسرور؟
الاستدلال بالإجماع:
ذكروا أن أوّل من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب أربل، وقد توفي عام 630هـ، وربما يقال: أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون؛ أوّلهم المعز لدين اللَّه، توجّه من المغرب إلى مصر في شوال 361هـ، وقيل في ذلك غيره، وعلى أيّ تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أيّ ابن أُنثى، وعلى أيّ حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر وهذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الاجماع حجة؟ مع أنّ اتفاق الأمة بنفسه أحد الأدلة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبيّ إلى أن جاء ابن تيميّة والعز بن عبد السلام (٧) والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجّة بنفسه؟
أوهام وتشكيكات:
إنّ للقائلين بالمنع تشكيكات وشُبَهاً كلّها سراب لا ماء، نذكرها بنصوصهم:
أ ـ الاحتفال نوع من العبادة :
قال محمد حامد الفقي: والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع العبادة لهم وتعظيمهم (٨).
يلاحظ عليه:
أنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بألوهية المعظَّم له أو ربوبيته، أو كونه مالكاً لمصير المعظِّم المحتفل، وأنّ بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضارّه ولا أقل، وبيده مفاتيح المغفرة والشفاعة.
وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يُعدّ ذلك عبادة له وإن أُقيمت له عشرات الاحتفالات وأُلقيت فيها القصائد والخطب.
ومن المعلوم أنّ المحتفلين المسلمين يعتقدون أنّ النبيّ الأكرم عبدٌ من عباد اللَّه الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من اللَّه إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.
ب ـ لم يحتفل السلف بمولد النبيّ:
قال ابن تيميّة: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضّاً أو راجحاً لكان السلف (رضي اللَّه عنهم) أحقّ به منّا، فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللَّه (ص) وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص (٩).
يلاحظ عليه:
أنّ المقياس في السنّة والبدعة هو الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتّصلة بعصر النبيّ، وأمّا غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يكن هناك اعتماد على هذه الأصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياء ولا رسلاً، وليس الخلف بأقل منهم، بل الجميع أمام الكتاب والسنّة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنّة على جواز الاحتفال، فترك السلف لا يكون مانعاً، على أنّ ترك السلف لم يكن مقارناً بتحريم الاحتفال أو كراهيته فغاية ما هناك أنّهم لم يفعلوا، وقد أمر اللَّه بما في هذه الآية: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ( الحشر: 7) ولم يقل في حقّ النبي (وما تركه فانتهوا عنه ) فكيف الحال في حقّ السلف؟!
ج ـ إنّها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح:
يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح (ع)، وإمّا محبّة للنبيّ وتعظيماً له واللَّه قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد لا على البدع (١٠).
يلاحظ عليه:
أنّ ابن تيمية ليس على يقين بأنّ المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاةً للنصارى، أضف إلى ذلك أنّ الأساس الذي يجب أن يبنى عليه عمل المسلم هو: انطباق العمل على الكتاب والسنّة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتّباع الكتاب والسنّة، وإن افترضنا أنّ أوّل من احتفل، احتفل مضاهاةً، إلاّ أنّ المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة.
د ـ تخصيص المولد بيوم للاحتفال به بدعة:
إنّ عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العمل بدعة (١١).
هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكنّ الجواب عنه واضح، وذلك لأنّ جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال وإن كانت سواسية إلاّ أنّ تخصيص يوم واحد للاحتفال به، فلأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلاّ ما شذّ، وهو أنّ ذلك اليوم تشرّف بولادته فهو من أفضل الأيام، كما أنّ البقعة التي ضمّت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثمّ خصّ النبيّ الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم وبيّن أنّ سبب التخصيص هو أنّه (ص) ولد فيه، فصار كلّ ذلك سبباً لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضاً، بل كلّ يوم أرادوا تكريم النبيّ والاحتفاء به.
ثمّ إنّ الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه، هو أنّه لم يقترن ولن يقترن ادّعاء ورود الأمر الشخصي على هذا التخصيص، وإنّما الكلّ يتّفق على جواز الاحتفال في جميع الأيام غير أن تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه.
نعم، من احتفل في مولد النبيّ وادّعى ورود الشرع به، أو حثّه على هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن على أديم الأرض رجلاً يدّعي ذلك.
هـ ـ الاحتفالات تشتمل على أمور محرّمة:
إنّ هذه الاحتفالات مشتملة على أمور محرّمة في الغالب كاختلاط النساء بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء (١٢).
يلاحظ عليه:
أنّ هذا النوع من الاستدلال ينمّ عن قصور باع المستدل، وهذا يدل على أنّه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسّك بالطحلب شأن الغريق المتمسّك به.
نعم، لا يمكن أن ننكر أنّ ما يقيمه العقلاء من احتفال، له تأثير في نفوسنا وتحفيز لنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبيّ، وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الأميني:
(لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمة في الطوائف والأحياء، بعدِّ سنيها، واتخاذ رأس كلّ سنة بتلكم المناسبات أعياداً وأفراحاً، أو مآتم وأحزاناً، وإقامة الحفل السارّ، أو التأبين، من الشعائر المطّردة، والعادات الجارية منذ القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسّستها الفكرة الصالحة لدى الأمم الغابرة، عند كل أمّة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلمّ جراً حتى اليوم.
هذه مراسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجّلها التاريخ في صفحاته.
وكأنَّ هذه السنّة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحب والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعظماء الأمة إحياءً لذكراهم، وتخليداً لاسمهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية إضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجع للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختصّ بجيل دون جيل، ولا بفئة دون أخرى.
وإنّما الأيام تقتبس نوراً وازدهاراً، وتتوسّم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعداً ونحساً، وتتّخذ صبغة ممّا وقع فيها من الحوادث الهامّة، وقوارع الدهر ونوازله... .
ــــــــــــــــــــــــ
١- المواهب اللدنية 1 : 148.
٢- صحيح مسلم 2 : 819.
٣- ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف، 98.
٤- صحيح مسلم 1 :13، وأخرجه البخاري 7 : 215.
٥- الحاوي للفتاوي، السيوطي 1 : 196.
٦- الحاوي للفتاوي، السيوطي 1 : 196.
٧- هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577 660ه)، فقيه شافعي، له من الكتب (التفسير الكبير ) و(مسائل الطريقة ) وغيرها. (أعلام الزركلي 4 : 21، دار الملايين بيروت).
٨- محمّد حامد الفقي في تعليقته على فتح المجيد، 154.
٩- اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية 293 : 294.
١٠- المصدر السابق.
١١- البدعة، صالح الفوزان، 17.
١٢- سيرتنا وسنتنا، الأميني 38 : 39، الطبعة الثانية.