نظرة القرآن عن القلب
الشيخ مرتضى مطهّري
أظنّ أنّه لا داعي للتوضيح ، بأنّ الغرض من القلب في اصطلاح العرفاء والأُدباء ليس ذلك العضو اللحمي الموجود في الجانب الأيسر من البدن ، ويّجري الدم ـ كالمضخة ـ في العروق ، فمثلا في تعبير القرآن : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ... ) [ ق : 37 ] ، أو في التعبير العرفاني اللطيف لحافظ ( الشاعر ) :
( قد نفر قلبي ، وغافل أنا المسكين ، ماذا قد حتى بهذا الصيد التائه الحيوان ) .
واضحٌ أنّ المقصود من القلب ( في هذين المثالين ) ، حقيقةٌ ساميةٌ ممتازةٌ ، تختلف تماماً عن هذا العضو الموجود في البدن ، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضً ) [ البقرة : 10 ] ، فإنّ معالجة هذا المرض خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب ، وإذا وجد طبيب يتمكّن من معالجة هذه الأمراض ، فلا شك أنّه طبيب متخصّص في الأمراض الروحية .
تعريف القلب :
إذن ما هو المقصود من القلب ؟
للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان . فالإنسان في الوقت الذي هو موجود واحد ، إلاّ أنّ له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجودية ؛ لأنّ الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار ، والآمال ، والخوف ، والحبّ ، و... وأنّها بمثابة الأنهار والجداول ، التي تتجمّع في مركز واحد ، وأنّ هذا المركز بنفسه بحر عميق ، بحيث ما استطاع - إلى الآن - أيَّ إنسان أن يدّعي أنّه اطلع على أعماق هذا البحر .
فالفلاسفة ، والعرفاء ، وعلماء النفس ، ساهم كلٌّ إلى حدٍّ ما في السباحة في أغوار هذا البحر ، ووفّق كلّ منهم إلى كشف بعض أسراره ، ولربّما كان العرفاء أكثر حظّا من الآخرين في هذا المجال .
وما يسمّيه القرآن بالقلب ، عبارة عن حقيقة هذا البحر ، وإنّ ما نسمّيه بالروح الظاهرية ، عبارة عن الأنهار والجداول التي تتصل بهذا البحر ، وحتى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتصل بهذا البحر .
عندما يذكر القرآن الوحي ، لم يقل شيئا عن العقل ، بل إنّ علاقته ترتبط مع قلب الرسول (ص) ، ومعنى هذا الكلام أنّ القرآن لم يَرِد على الرسول بقوّة العقل وبالاستدلال العقلي ، بل كان هذا قلب الرسول (ص) ، حيث ارتقى إلى حالة لا يمكن لنا تصوّرها ، وفي تلك الحالة حصل على قابلية أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية ، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضح كيفية هذا الارتباط إلى حد ما ، نقرأ في سورة النجم :
( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) : يقول القرآن ذلك ، ليبيّن أنّ مستوى هذه المسائل فوق حيّز عمل العقل ـ الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء ـ .
ونقرأ في سورة التكوير : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ )
يعتبر القلب من وجهة نظر القرآن وسيلة للمعرفة أيضاً ، وأنّ القسم الأكبر من نداءات القرآن تُخاطب قَلب الإنسان . تلك النداءات التي لا طاقة لسماعها إلاّ بواسطة أُذن القلب ، ولذلك فإنّ القرآن يؤكّد كثيراً بالمحافظة على هذه الوسيلة والعمل على تكاملها .
نلتقي في القرآن كثيراً بأمور مثل : تزكية النفس ، وصفاء القلب :
( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) [ الشمس : 9 ] .
و( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ المطففين : 14] .
وحول إنارة القلب يقول : ( ... إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا .. ) [ الأنفال : 29 ] .
و( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) [ العنكبوت : 69 ] .
وفي مقابل ذلك ، فإنّ الأعمال القبيحة تسوّد روح الإنسان وتَسلب منه الاتجاهات الطاهرة النقية ، وقد تكرّر هذا الحديث في القرآن . يقول عن لسان المؤمنين :
( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) [ آل عمران : 8 ] ،
وفي وصف المسيئين يقول : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ المطففين : 14 ] .
( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ .. ) [ الصف : 5 ] .
ويتحدث القرآن عن قساوة القلوب وتختمها :
( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) [ البقرة : 7 ] .
و( جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ... ) [ الأنعام : 25 ] .
و( ... كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) [ الأعراف : 101 ] .
و( ... فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) [ الحديد : 16 ] .
كلّ هذه التأكيدات تبيّن أنّ القرآن يريد جوّاً روحياً ، ومعنوية عالية للإنسان ، ويوجب على كل فردٍ أن يحافظ على سلامة ونقاء هذا الجوّ .
وبالإضافة إلى ذلك ، ففي الجوّ الاجتماعي المريض ، وحيث تصبح أكثر جهود الإنسان لنظافة البيئة عقيمة غير موفقة ، يؤكّد القرآن أن يستغلّ البشر كلّ طاقاته في سبيل تصفية وتزكية بيئته الاجتماعية . يصرّح القرآن بأنّ ذلك الإيمان والعشق والمعرفة ، والتوجهات السامية ، وتأثيرات القرآن ، وقبول نصائحه ، كل ذلك يرتبط بابتعاد الإنسان والمجتمع الإنساني عن الدَّنايا ، والرذائل والأهواء النفسية ، والشهوات .
يشير التأريخ البشري أنّ القوى الحاكمة عندما أرادت السيطرة على مجتمع ما واستثماره ، تسعى لإفساد روح المجتمع ، ولهذا الغرض تُهيئ وسائل الشهوة للناس ، وتحرِّضهم على الشهوات .
والنموذج الذي يدعو إلى الاعتبار من هذا الأسلوب القذر ، الفاجعة التي حدثت للمسلمين في أسبانيا المسلمة ، التي كانت تعدّ من مواطن النهضة ، ومن أكثر الدول الأوروبية حضارةً وتقدّماً ، ولأجل إخراج أسبانيا من أيدي المسلمين ، بدأ المسيحيون يعملون على إفساد نفسيات وأخلاق الشباب المسلمين .
وضعوا ما أمكنهم من وسائل اللهو واللعب والشهوة في اختيار المسلمين ، وتقدّموا في هذا المجال بحيث خدعوا الأمراء ورؤساء الحكومة ولطخوهم بالفجور . وهكذا استطاعوا القضاء على عزيمة المسلمين وقوتّهم وإرادتهم وشجاعتهم وإيمانهم وصفاء نفوسهم ، وبدّلوهم إلى أشخاص أذلاّء ضُعفاء فاسدين ، يتّبعون الشهوات ، ويشربون الخمور ، ويرتكبون الفواحش والمنكرات . وواضح جداً أنّ التغلّب على مثل هؤلاء الأشخاص لم يكن أمراً صعباً .
لقد انتقم المسيحيون من حكومة المسلمين التي مضى عليها 300 -400 عاماً ، انتقاماً يخجل التاريخ من تذكّره وتذكّر تلك الجرائم . أولئك المسيحيون الذين يسلّمون الطرف الأيسر من وجوههم إلى من لطم على يمينها ـ حسب تعاليم السيد المسيح ـ أجروا بحراً من دماء المسلمين في الأندلس ، وبيّضوا ـ بذلك ـ وجه جنكيز ( المغولي ) ، وطبيعي أنّ فشل المسلمين كان نتيجة هِمَمهم المنحطّة ، وفساد نفوسهم ، وجزاء عدم اتباعهم للقرآن وتعاليمه .
وفي زماننا أيضاً ، أينما وضع الاستعمار رجله ، يستند على ذلك الموضوع الذي حذّر منه القرآن ، أي : إنّه يسعى ليفسد القلوب ، فإذا فسد القلب لا يستطيع العقل أن يعمل شيئا ، بل يصبح نفسه قيدا أكبر في أيدي وأرجل الإنسان .
ولذلك نرى أنّ المستعمرين والمستثمرين لا يخشون من افتتاح المدارس والجامعات ، بل ويقدمون بأنفسهم على تأسيسها ، ولكنهم يسعون من طرف آخر لإفساد قلوب ونفوس الطلاب والتلاميذ بكل طاقاتهم ، إذ هم يدركون تماماً هذه الحقيقة، وهي أنّ المريض في قلبه وروحه ، لا يستطيع أن يعمل شيئا ، ويتقبّل كل ذلّة واستثمار وأسارة .
يهتمّ القرآن كثيراً بنقاء وعلوِّ روح المجتمع ، حيث يقول في الآية الشريفة : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... ) [ المائدة : 2 ] ، ابحثوا أوّلا : عن كل عمل خير ، وابتعدوا عن كل سوء ورذالة ، وثانياً :اعملوا معاً وبصورة اجتماعية ولا تعملوا منفردين .
وبالنسبة إلى القلب ، اذكر بعض النقاط على لسان الرسول (ص) والأئمّة الأطهار ( عليهم السلام ) ، ليكون ختاماً حسنا لهذا الموضوع .
مكتوبٌ في كتب السيرة أنّ شخصاً حضر عند رسول الله (ص) وقال : أنّ لي أسئلة أريد أن أعرضها عليكم . فسأله الرسول : هل يريد أن يسمع أجوبة أم يرغب في طرح الأسئلة فقط ؟ فأجاب أنّه يريد الجواب .
فقال النبي (ص) ( ما معناه ) : جئت تسأل عن البِر والإحسان ، والإثم والعدوان ؟ أجاب : نعم ، فجمع النبي (ص) ثلاثة من أصابعه ووضعها على صدر الرجل براحة قائلاً : ( استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ) ثمّ أضاف ( ما معناه ) : لقد خُلق القلب بحيث يرتبط مع الحسنات ويرتاح معها ، ولكنه يضطرب وينزجر من السيئات والقبائح ، تماماً مثل بدن الإنسان ، فإذا ورده شيء لا يتجانس معه يغيّر نظامه ، وهكذا روح الإنسان تتعرّض للاختلال والاضطراب بواسطة الأعمال السيئة .
إنّ ما يسمّى عندنا بعذاب الضمير ، ناشئ عن عدم تجانس الروح مع المفاسد والسيئات والأثام ، يشير الرسول (ص) إلى هذه النقطة ، وهي أنّ الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة ، ويُخلِص نفسه لمعرفة الحقيقة ، لا يمكن لقلبه ـ في هذه الحالة ـ أن يخونه وسوف يهديه إلى مسير الهداية المستقيم ، والإنسان أساساً ما دام يبحث صادقا عن الحقّ والحقيقة الخالصة المحضة .
يردّ الرسول على من سأله عن البِر : ( استفت قلبك ) ، أي : إنّك لو كنت تريد البِر حقيقةً ، فإنّ ما يطمئنّ قلبك به ويسكن ضميرك له هو البِرّ ، ولكن إذا كنت ترغب شيئاً ، غير أن قلبك لم يطمئن له ، فتيقّن أنّه هو الإثم .
وفي مكان آخر يسأل الرسول (ص) عن معنى الإيمان ؟ فيجيب (ما معناه) : المؤمن هو الذي إذا ارتكب عملاً سيئاً تعرّض للندم وعدم الراحة ، وإذا ارتكب عملا صالحا سرّ وفرح.
عن عبد الله بن القاسم ، عن الإمام الصادق (ع) ، أنّه قال : ( إذا تخلّى المؤمن من الدنيا ، سما ووجد حلاوة حبّ الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله ، فلم يشتغلوا بغيره ) ، أي : إنّ المؤمن إذا زهد في الدنيا ، يسمو ويرتفع ويحسّ حلاوة محبّة الله ، ويتصوّر أهل الدنيا أنّه قد جنّ ، في حين أنّ حلاوة حبّ الله جعلته في غنى عنهم ، وشغله حبّ الله عن غيره .
قال (الرواي) وسمعته ( الإمام الصادق ) يقول : ( إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو ) [ أصول الكافي 2 : 130 ]
عن إسحاق بن عمّار قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ( انَّ رسول الله (ص) صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لُونه ، قد نحف جسمه ، وغارت عيناه في رأسه . فقال له رسول الله (ص) : كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يا رسول الله موقناً !
فعجب رسول الله من قوله ، وقال (ص) : إنّ لكلّ يقينٍ حقيقة ، فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقيني ـ يا رسول الله ـ هو الذي أحزنني ، وأسهر ليلي ، وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، على الأرائك متكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي .
فقال رسول الله (ص) لأصحابه : هذا عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان ، ثم قال له : إلزم ما أنت عليه ! فقال الشاب : ادع الله لي ـ يا رسول الله ـ أن أزرق الشهادة معك ، فدعا له رسول الله (ص) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي ، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر ) [ أصول الكافي ، كتاب الإيمان والكفر : 2 : 53 ] .
يقول القرآن بأنّ صفاء القلب يوصل الإنسان إلى مقام يقول عنه أمير المؤمنين (ع) : ( لو كُشف لي الغطاء ما ازددتُّ يقيناً ) .
إنّ القرآن بتعاليمه يريد أن يربّي أناساً ، مسلّحين بسلاح العلم والعقل ، ويستفيدون من سلاح القلب أيضاً ، ويستخدمون هذين السلاحين في أحسن أساليبه وأسمى كيفياته في طريق الحق . وإنّ أئمّتنا وتلامذتهم الصالحين المؤمنين نماذج حيّة واضحة لهؤلاء الأناس .