في رحاب ضيافة الله تعالى
الشيخ هلال بن حسن بن علي اللواتي
ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" قال: إن رسول الله "صلى الله عليه وآله" خطبنا ذات يوم فقال: (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم من أهل كرامة الله ...)، وقد أورد هذه الخطبة الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه في أماليه، كما أوردها غيره من أعلام الطائفة.
المقدمة:
لو نظرنا إلى النصوص الشريفة التي فيها ذكر الأيام والليالي والساعات والشهور، ومدى قدسيتها في نفسها؛ فإننا لن نجد كشهر رمضان المبارك قدسيةً وعظمةً، ومع أن الرواية الشريفة قد ذكرت كلمة "الشهر" والتي تحمل الدلالة التضمنية لجميع ما تحويها هذه الكلمة؛ إلا أن النص الشريف أبى إلا مزيداً من التأكيد على خصوصيته عن سائر الشهور، فنص بعد الإجمال على التفصيل، فذكر الأيام والليالي وزاد تأكيداً بذكر "الساعات"، ما يؤكد على أهمية هذا الشهر قدسيةً وحرمةً وتعظيماً، وهذا بذاته يضع هذا الشهر المبارك تحت مجهر الإهتمام دون غيره من الشهور، ويثير مجموعة من التساؤلات حوله ..
فما الذي أكسبه كل هذه الأهمية ؟!
وما الذي رفعه كل هذه الرفعة ؟!
وهل الأمر متعلق بذكرى تأريخية فنقول متساءلين أهل حدث شئ فيه حتى أكسبه هذه القدسية ؟!
وهل يستدعي الإستمرار فيه إلى يومنا هذا ؟!
أم يحتاج أن نضع هذا التساؤل في صيغة أخرى فنقول: ماذا يوجد فيه ما ليس في غيره من الشهور؟!
فالفرق بيّنٌ بين الصيغتين؛ إذ الأولى تدور حول حدث تاريخية، وما يحدث من القداسة ليس إلا لذكرى مضت وانتهت، وأما الصيغة الثانية فهي تدور حول موضوع لا يزال مستمراً متجدداً .
ويتولى الإجابة على مثل هذه الأسئلة "علم العقيدة" في بعده المعروف بـ"الرؤية الكونية" ، ليضع الجواب الدقيق على حقيقة هذا الشهر المبارك، ويبين ما يكون فيه العبد من "زمان" مقدس ليس كسائر الأزمنة قدسيةً .
معلم الإجابة :
من الحقائق الثابتة في "معارف الثقلين" أن هذا العالم يتكون من أمرين:
الأمر الأول: الأمر الإعتباري.
الأمر الثاني: الأمر الحقيقي.
فالأمر الإعتباري .. ما يكون غير ملازمٍ لمتعلقه كالإسم مع المسمى، فلو أن شارعاً سمي بإسم ما فإننا بداهةً نجد الفارق بين الإسم والمسمى، ونجدهما غير متلازمين، فيمكن سلب الإسم عنه واستبداله بغيره، فهذا ما يسمى بـ"الأمر الإعتباري" ؛ الذي يأخذ في حيثيته إعتبار المعتبر، وإيجاد علقة بين الإسم والمسمى بما يعرف بـ"العلقة الوضعية".
وأما الحقيقي .. فإنه وإن كانت الألفظ الإعتبارية دالة عليه وعلى مسماه إلا أن العلقة القائمة بين الإسم والمسمى تكون غير قابلة للانفكاك، من قبيل "الزوجية و الأربعة" ، فإن الزوجية لا تنفك عن الأربعة، وكذا العكس إذ بينهما تلازماً ذاتياً، والمتلازم الذاتي لا يزول عن متعلقه بأي نحو من الأنحاء لأنه لو زال زال وجوده من أصل، وهذا الفارق الجوهري بين الإعتبار وبين الحقيقة – ولنا حديث مسهب إن شاء الله تعالى في هذا الموضوع لما أن نتناول العلاقة بين شهر رمضان وبين لفظ الجلالة المذكور في الرواية الشريفة -.
فإذا فهنا هذا المطلب .. فالآن نطبق ما أوردناه جواباً على التساؤل في الصغيتين المذكورتين.. أهل ما جاء في الأخبار الشريفة عبارة عن ذكرى وانتهى وما نقوم به الآن هو بمجرد إعادة سيرة تلكم الذكرى، أم أن الأمر متجددٌ ومستمر؟!.
فالجواب هو: إذا قلنا بتاريخية الحدث فإننا نصفه بصفة اعتبارية، وأما إذا قلنا أنه متجدد وحاضر فإننا نصفه بصفة الحقيقة، فأي منهما يرى في مدرسة "الثقلين" ؟!.
الجواب:
لو نظرنا إلى العالم والوجود فإن كل ما فيه نبض لا يتوقف، وشعور لا يموت، وحياة متجددة، وذلك لأن خالق هذا الوجود وهو "الله" سبحانه وتعالى أراد نظام وجوده أن يكون النظام الأحسن، وهذا النظام الأحسن ليس إلا ككائن حي، ترتبط أعضاؤه بعضها ببعض، ويتفاعل أول بأخره، ويشعر آخره بأوله، فنجد عوالم الغيب وهو مرتبطة بعالم المادة، ونجد عالم المادة مرتبط بعالم الغيب، وما هذا الإرتباط سوى الإرتباط التكويني الذي واقعه ليس إلا الارتباط الحقيقي، وليس الاعتباري.
شهر الله تعالى شهر ذو الحقيقة الوجودية:
فما جاء حول هذا الشهر المبارك - وفق الرابطة التكونية بين العوالم – يكون أمره متجدداً، ومستمراً في النبض والحياة والعطاء، فهو لما أن يدخل يدخل شاعراً بما فيه من العظمة، ولما أن يخرج يخرج وهو ينبض بقدسيته، فليس الإحتفاء بهذا الشهر المبارك إحياء لحدث تاريخي من قبيل نزول القرآن الكريم، فنكرر ذكراه، ونحاول أن نستعيد المجد بصيامه؛ كلا، بل هو في الحقيقة إحتفاء بما يتجدد فيه من عظيم العطاء، وما تحدث فيه من النفحات الإلهية القدسية وبشكل مستمر في كل سنة في خصوص هذا لشهر المبارك وهو "شهر رمضان".
كاشفية النص النبوي للدلالة التكوينية الحقيقية:
والنص الوارد عن النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" كاشف عن هذه العلقة التكوينية بين الشهر وبين عطاءته، مؤكداً بأن الأمر ليس إحتفال بالذكرى التاريخية، أو لحدث حصل فيه، بل إن الشهر المبارك هو بذاته متجددٌ وحي ينبض، وزمان شاعر، فكان لزاماً احترامه وتعظيم حرمته.
المنفعة التبادلية بين الشهر والعبد:
فإذا قام العبد بواجب التقدير لهذا لشهر وجد نفسه والشهر يغدق عليه بفيوضات الرحمن والرحيم، بل بفيوضات "الله" تعالى، وسيتضح الأمر بإذن الله تعالى لاحقاً، وهذا الأمر طبيعي جداً في عالم التكوين، حيث غلبة الأحكام الواقعية والحقيقية التكوينية على أحكام الاعتبار.
وبعد هذه المقدمة سننتقل إلى ما تفيده كلمات النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" من فوائد عظيمة، كي نقف عند مفرداتها وبالتالي عند معانيها لنقف من وراء ذلك على عظمة هذا الشهر، وعلى قدسيته إن شاء الله تعالى .
"شهر الله":
إن أول ما بدأ به النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" بعد إلفات انتباه الناس هو الحديث عن إقبال شهر الله تعالى.
وهنا سأتجاوز الوقوف عند كلمة "أقبل" وإلا فهي تحوي على عدة مفاهيم قرآنية جميلة، وهل النسبة نسبة إعتبارية أم حقيقية ؟، فقد أجبنا بالإجمال قبل قليل، وتفصيله موكول إلى محله، ولكن لنقف عند كلمة "شهر الله" التي وردت في النص النبوي الشريف، فماذا يعني ذلك؟، وما أهمية الوقوف عند هذه الكلمة؟! ، فهذا ما سوف نتعرف فما يأتي من كلام.
"شهر الله": مضاف ومضافٌ إليه، تحمل هذه الجملة مجموعة من المعاني الجميلة، ولضيق المقام سوف أختصر الكلام فيه، ونقول ما نود بيانه بالنقاط الآتية:
أولاً: إن النسب والعلقة بين الاشياء في عالمنا الوضعي نسب وعلاقات إعتبارية.
فأما النسب الاعتبارية فحقيقتها:
1-ليس بينها وبين متعلقها علقة تكوينية لازمة.
2-تقبل الانسلاخ عن متعلقها.
مثال ذلك: إسم الشارع والشارع نفسه، فالعلاقة بينها علاقة بإعتبار معتبرها، فيمكن أن يغير الإسم، فإذا فعل ذلك .. لم يتأثر الشارع من هذا التغير .
وأما النسب التكوينية فحقيقتها:
1-بينها وبين متعلقها علقة لازمة غير قابلة الإنفكاك.
2-لا تقبل الانسلاخ عن متعلقها.
مثال ذلك .. الزوجية والأربعة، فإذا أردنا أن نسلب الزوجية عن الأربعة لزالت الأربعة عن وجودها.
ثانياً: إن مفاهيم الثقلين وإن كانت ألفاظ اعتبارية إلا أنها تحمل المعاني الحقيقية التكوينية.
تطبيق المثال:
حينما يصف النبي الأعظم "صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين" شهر رمضان بأنه شهر الله، فإنه بهذه النسبة قد بين مجموعة من المعطيات والثمار:
1-أن النسبة بين الشهر ولفظ الجلالة حقيقة تكوينية لازمة.
2-أنه "صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين" لم يستعمل إسماً آخراً من أسماء الله تعالى، بل استعمل "لفظ الجلالة" .
3-وكما هو معلوم لدى الإعلام بأن لله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى، وهي كثيرة، وأن دعاء الجوشن الكبير قد حوى ما يقرب من ألف إسم .
4-وأن لكل إسم من هذه الأسماء المباركة دلالة خاصة تختلف عن دلالة الإسم الآخر، فمثلاً: ما لإسمه تعالى "الشافي" من الدلالة ما لا توجد في الإسم المبارك "القهار"، وهكذا بالنسبة إلى جميع الإسماء.
5-وأن كل هذه الدلالات المباركة قد اجتمعت في إسم واحد فقط وهو "الله" جل جلاله .
فلما نذكر لفظ الجلالة فإننا نعيش جميع دلالات الإسماء المباركة، وليس الحال نفسه إذا ما ذكرنا إسم الجميل، أو اللطيف ... الخ ، فلكل منها دلالة مختصة.
ثالثاً: فلما نجد نسبة الشهر المبارك إلى " الله " تعالى ، بإستعمال لفظ الجلالة ، فهذا معناه أننا نقبل على شهر يحوي جميع الفيوضات للكمالات الإلهية على الإطلاق .
النتيجة:
أننا نقبل على شهر الكمالات الإلهية الجمالية والجلالية، وهذه الخصوصية لا توجد لأي شهر من أشهر السنة عدا لهذا الشهر الفضيل.
"دعيتم فيه إلى ضيافة الله":
وإذا نجد رسول الله "صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين" يدعو المسلمين إلى تلبية دعوة المضيف، وهو أعظم مضيف على الإطلاق، إنه ملك الملوك، ومالك الوجود وخالقه، ومن بيده كل شيء ، إنه "الله" تبارك وتعالى.
وفي هذه الجملة المباركة نقف عند معطيات أخرى مفيدة جداً نلخصها في الآتي:
أولاً: استعمل النبي "صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين" لفظ الجلالة مرة أخرى.
ثانياً: إنها ضيافة ليست كضيافتنا المولى العرفي، أو الملك العرفي، إنها ضيافة على أسماء الله تعالى وصفاته.
ثالثاً: فالمضيف هو الله تبارك وتعالى وهو يدعونا إلى التشرف بالجلوس على مائدة لا يوجد لها مثيل في تاريخ الوجود كله.
النتيجة:
أولاً: إن علينا الإعداد والإستعداد هذه الأيام المباركة ولهذا الشهر الفضيل.
ثانياً: إن استعدادنا لابد وأن يكون بمستوى يليق بالمضيف .
ثالثاً: علينا أن نقدر الضيافة حق قدرها.
الثمار الطيبة:
فإذا قمنا ما علينا من الواجبات تجاه المضيف والضيافة، فحينها نخرج من حد التقصير، ومن الكون مصداقاً لقوله "صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين": (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)، حينها فقط سيؤتي صيامنا ثماره الطيبة، ويشاهدها العبد في حياته.
ونكتفي بهذا القدر من البيان والتوضيح والتدبر حول هذه الرواية الشريفة ، وختاماً نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عتقائه من نار جهنم ، وأن يرزقنا صحبه محمد وآله وصحبه الميامين.