دور الدين في الحياة الاجتماعية
بقلم: زهير الأعرجي
بلا شكّ انّ النظرة الأخلاقية للدين متضافرة تماماً مع النظرة الاجتماعية. فالدين يساعد الأفراد على اعتناق عقيدتهم الأساسية في الخلق والتكوين والوجود، ويساعدهم أيضاً على تشكيل طبيعة اتجاهاتهم ودوافعهم ونشاطاتهم تجاه بقية الأفراد في المجتمع. فالأخلاق الاجتماعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً غيرَ قابلٍ للانفصام مع الرسالة الدينية. ولو لا الدين لما كان للأخلاق الاجتماعية دور في حياتنا الدنيوية.
ولعل أهم ما يميز الرسالة الدينية وأهدافها المعلنة في تنظيم شؤون الاجتماع الإنساني وتعبيد الأفراد للخالق عزّ وجلّ هو امتلاكها لمجموعة مترابطة من الأحكام الشرعية الإلزامية. فالأحكام الشرعية آليات ووسائل على درجة عظيمة من الأهمية باستطاعتها إيصال الإنسان إلى نهاية رائعة بخصوص إنشاء المجتمع الإنساني العادل القائم على أسس العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى. ولذلك فإنّ طاعة الأفراد لتلك الأحكام تدخل ضمن نفس الإطار الأخلاقي الذي يرى في الأحكام الشرعية ضرورة ملحة لتكامل الحياة الإنسانية على وجه الأرض. فعن طريقي الإمرة والإطاعة تتشكل المسؤولية الأخلاقية التي دعا لها الدين في تنظيم المجتمع الإسلامي.
وبطبيعة الحال، فإنّ الرسالة الدينية تلحظ في إنشاء الأحكام جميع المصالح والمفاسد التي تؤثر على حياة الأفراد سلباً وإيجاباً. فالمصلحة قضية معنوية تنتج أشياء لها علاقة بالعلم، والصحة، والسلامة، والسعادة، والجمال، والأمان، والعدالة الاجتماعية وكلّ ما يحرّك مشاعر الاستقرار والثبات في شخصية الفرد ويحسسها بالسعادة والاطمئنان. بينما تنتج المفسدة أشياء معاكسة لذلك تماماً كالجهل، والشقاء، المرض، وعدم الاستقرار، والظلم الاجتماعي، والاضطراب، بل كلّ ما يؤدي إلى قبح الحياة الاجتماعية والفردية وتعاستها. فالحكم الشرعي يدور مدار المصلحة أو المفسدة، ويكون عندها – الوجوب أو الاستحباب محور القضايا التي تدعم مصالح الأفراد والنظام الاجتماعي، بينما تكون الحرمة أو الكراهية محور القضايا التي تؤدي إلى مفاسد للأفراد أو النظام الاجتماعي الذي يضمّهم. وبمعنى آخر إنّ الحكم الشرعي يجلب إلى الناس كلّ لون من ألوان الخير والسعادة ويدفع عنهم كلّ لون من ألوان الشر والشقاء.
إنّ الحاجة إلى التماس الأخلاقية الاجتماعية في الرسالة الدينية تكمن في أنّ الفرد كيان اجتماعي لا يستطيع أن يحيى دون تعاون الآخرين ومساعدتهم. فالطفل الرضيع يحتاج إلى رعاية أبوية من أجل أن ينشأ بشكل صحي وسليم، والعائلة الصغيرة تحتاج إلى تعاون وتنظيم اجتماعي في الحقوق والواجبات داخل الأُسرة ذاتها، والأُسر المختلفة تحتاج إلى نظام موحّد لترتيب حقوق أفرادها وأولوياتها عندما تتزاحم تلك الأُسر المختلفة تحتاج إلى نظام موحّد لترتيب حقوق أفرادها وأولوياتهم عندما تتزاحم تلك الأُسر المختلفة نحو مكسب اجتماعي معيّن. ففي تلك الحالات تتبلور – بشكل لا يقبل الشك – الحاجة إلى الأحكام والقوانين الشرعية التي تنظّم شؤون الفرد والجماعة. فالدوافع الإنسانية نحو التنافس الاقتصادي، ومحاولة إشباع المصالح الذاتية دون حدود، والحسد والنظر إلى أرزاق الآخرين، والجهل بحاجات الناس كلّها تدفعنا نحو التقيد بتطبيق الأحكام الإسلامية في الحقوق والواجبات. لأنّ تلك الأحكام تضع ضوابط محكمة لحريات الأفراد وحدوداً لحقوقهم المادية والمعنوية وواجباتهم الأخلاقية. ومن أمثلتها أحكام توزيع الثروة الاجتماعية، وأحكام العقوبات، وأحكام البيع والشراء، والأحكام المتعلقة بالسلوك الفردي في الأماكن العامة. فإذا كان الأفراد ح على سبيل الافتراض – في حرب اقتصادية ومالية مع بعضهم البعض، فأي ثمرة نجنيها من الإنتاج الاجتماعي المزعوم؟ وأي لونٍ من المجتمعات سيكون ذلك الذي لا يلتزم بنظرية أخلاقية إلزامية في التعامل الاجتماعي؟ وأي خوف وخطورة وفقر سيعيش فيه الأفراد إذا لم يكن لديهم قانون طبيعي يحكم العلاقات الحقوقية فيما بينهم في ذلك المجتمع؟ إذن فإنّ تطبيق الأحكام الشرعية من قبل المكلفين ليس واجباً شرعياً فحسب بل هو ضرورة عقلية تفرضها طبيعة التكوين البشري للإنسان. فتطبيق الأحكام الشرعية يؤدي إلى الانسجام والتوافق الاجتماعي باعتبار إنّ حفظ الحقوق والواجبات ستكون قضية مضمونة – على الأقل – لجميع الأفراد. والشفرة الأخلاقية للدين تدين كلّ أشكال الإعتداء، والظلم، والغش، والخداع. وبذلك فهي تخلق مناخاً طبيعياً لذلك الانسجام والمودّة الجماعية ونكران الذات والتعايش الأخلاقي من أجل هدف أسمى وهو عبادة الخالق عزّ وجلّ.
إلّا إنّ السؤال المهم الذي يطرح في هذا المقام كيف يقوم الدين، بنجاح، بإنشاء ذلك الدافع الجماعي نحو ممارسة السلوك الأخلاقي؟ لا شكّ أنّ السلوك الأخلاقي لابدّ وأن ينشأ من دوافع دينية محضة. فالإطاعة الأخلاقية للأوامر لا تؤتي ثمارها إلّا في الإطار الديني، لأنّ تلك الطاعة إنما تنبع في واقع الحال من إلزام ذاتي داخلي وليست وليدة إكراه قانوني خارجي. فالقانون يستطيع أن يفرض نظاماً أخلاقياً معيناً على الأفراد، إلّا إنّ الدين قادر على تربية المكلّف على إطاعة الشريعة ضمن الإلزام الذي تنشئُهُ تلك الرسالة الإلهية عند الفرد القادر على تحمل التكليف.
ومن الطبيعي، فهناك ثلاثة أصعدة يقوم من خلالها الدين بتنمية الدافع الإنساني نحو العمل الأخلاقي بين الأفراد. وتلك الأصعدة هي:
الأوّل: تنوير ذات الفرد بأنّ الأخلاق والتعامل الأخلاقي مع بقية الأفراد ومع الخالق عزّ وجلّ هو جزء من جوهر الرسالة الدينية. فقد وصف المولى عزّ وجلّ خاتم الأنبياء (ص) بقوله: (إنّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4). وهو وصف يعبّر عن أخلاقية الرسالة الدينية ذاتها، فإذا كان القائد على تلك الدرجة وذلك المستوى من الأخلاق فلابدّ أن يقتدي أولئك التابعون المؤمنون بقائدهم العظيم. فالمكلّفون يعلمون بأنّ الطريق الأخلاقي لا يقربهم من خالقهم ومولاهم فحسب، بل إنّه يسلك بهم طريقاً نحو تحقيق السعادة الاجتماعية والأمن والاستقرار الجماعي. فالإلزام الأخلاقي الذي يحاول الدين بناءه في شخصية الإنسان ينتزع كلّ أشكال وألوان الأنانية والأطماع الذاتية. وبكلمة، فإنّ الإسلام يحاول أن يخلق تصوراً لدى الفرد مفاده بأنّ من مصلحته الذاتية أن ينفّذ صادقاً تلك الإلزامات الداخلية الذاتية التي أمر بها الدين على الصعيد الاجتماعي. فوعي الذات لمصلحتها الأخلاقية يتطابع مع نداء الدين نحو التعاون الاجتماعي والتكاتف الأخلاقي بين الأفراد. وقد قال عزّ وجلّ في محكم كتابه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...) (البقرة/ 245). وفكرة الاستقراض المالي مصداق من مصاديق تلك النظرة الأخلاقية التي لا ترى للمال والثروة قيمة حقيقية بقدر ما تنظر للدافع الأخلاقي نحو مساعدة الآخرين وتجعله محوراً من محاور النظرة الدينية للمجتمع والنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يحكمه.
الثاني: تربية الفرد على احترام الشريعة واحترام الأحكام المنبثقة منها. فالشريعة تنتشل الفرد منذ عمر التكليف اليافع لتمنحه حقوقاً وتفرض عليه واجباتٍ معينة تنمو وتتطور معه نموه وتطوره العقلي والفكري. فالضمير الإنساني يعلم بأنّ الأحكام الشرعية الخاصة بالفرد والمجتمع إنّما شرّعت من أجل المصلحة العليا للنظام الاجتماعي. بل إنّ الضمير الإنساني يستطيع التمييز بين أخلاقية الأحكام الشرعية وعدم أخلاقية بعض القوانين الوضعية الخاصة بالحرية الفردية في إشباع الغرائز.
الثالث: إنّ الدين يربي الفرد على الإيمان بأنّ الطبيعة الإنسانية مجبولة على حب الخير، والتراحم، والتعاطف، والبذل، والإنفاق، واحترام حقوق الآخرين. ومع إنّ النفس الإنسانية كانت قد أُلهمت التقوى والفجور، كما يؤكد لنا القرآن المجيد، إلّا انّ رسالة الدين تهدف دائماً إلى إنشاء ذلك الدافع الأخلاقي الخيّر لدى الفرد، وإلى تحريك تلك الطبيعة المجبولة على حب الخير، والإنفاق، والتعاطف الاجتماعي.
إنّ أهم ما يميز المجتمع الإسلامي من غيره من المجتمعات هو أنّ الأحكام الشرعية والقوانين التي تنظّم شؤون الأفراد تندمج مع بعضها البعض اندماجاً شرعياً محكماً من أجل النظر إلى مصلحة الفرد. فيكون الأصل – حينئذٍ – أنّ الجماعة المؤمنة بالله في ذلك المجتمع إنما يوحّد مصالحها الفردية والجماعية، النظام الأخلاقي الذي تحكمه الرسالة الإلهية. فهنا لا تعارض ولا تناقض بين الشريعة ومتطلبات الحياة الاجتماعية المتغيرة، ولا تعارض ولا تناقض بين حقوق الأفراد وواجباتهم على الصعيدين الاجتماعي والتعبدي، ولا تعارض ولا تناقض بين الأهداف الاجتماعية السامية والأهداف الشخصية النبيلة. وهذا الأصل في النظرية الدينية هو الذي يميّز – بفاصلة عظيمة – تلك النظرية عن النظريات الاجتماعية الوضعية.