ذل المعصية وعز الطاعة
قال الرسول الأكرم (ص): "مَن أراد عزّاً بلا عشيرة وغنىً بلا مال وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عزّ طاعته".
لا شكّ أنّ المال يسدّ بعض حاجات الإنسان وأنّ العشيرة تمنحه العزّة والمنعة والاحترام وتعزّز مركزه الاجتماعي، إلّا أنّ هذه الأمور محدودة باعتبارها وسائل مادية لا تتيسر لكلّ الناس، إذ لا يمكن أن يكونوا أثرياء جميعاً بحيث يسدّون كلّ ما يلزمهم، وهذه المسألة تنسحب على العشيرة أيضاً، فليس كلّ الناس تتوفر لديهم هذه الميزة، بل أنّها تنحصر في أفراد معينين.
ولذا فإنّ الله سبحانه جعل الغنى والعزة والهيبة في أمور أخرى بحيث يمكن توفيرها لجميع الناس على حدٍّ سواء، ولا يستلزم ذلك منهم شيئاً سوى بعض المعاناة، وهو أن يبنى الإنسان المتّقي المؤمن بالله والمعافى أخلاقياً وروحياً هو بحد ذاته سيكون محترماً ومحبوباً لدى جميع الناس، إضافة إلى ما ينطوي عليه هذا الحب من التعظيم والهيبة والإجلال.
فإذا ما عرضت له حاجة بادر الجميع إلى قضائها معتبرينه كأحدهم، فهو شريكهم في حياتهم وسعادتهم.
إنّ النعم المادية محدودة ومقسمة، فإذا أصبح الإنسان وكلّ همه سدّ حاجاته المادّية فلن يصل إلى هدفه أبداً، ذلك أنّ الإنسان كلّما حقّق أمنية من أمانيه طمح إلى أخرى أكبر منها، فهو في حالة من الاضطراب الدائم والقلق، بعيداً كلّ البعد عن الطمأنينة والرضا اللذين هما رمز السعادة.
إنّ الأمور المعنوية هي التي تهب الطمأنينة للإنسان، وقد قال العظماء: "إنّ الأماني الباطلة مثلها مثل الماء المالح، فهو لا يروي الإنسان أبداً بل يزيده ظمأ حتى يقتله". لقد قالوا ذلك لكي نعتبر ونخرج عن دائرة الطمع ومدار الحرص ونبني حياتنا على أساس صحيح يضمن لنا السعادة، لم يقولوا ذلك لكي يدفعونا إلى الكسل والخمول وعدم المسؤولية.
على الإنسان أن يشق طريقه في بحر الحياة المتلاطم إلى أن يصل إلى الشاطىء المنشود، وفرق بين حركة سفينة العقل والعلم وبين السقوط في هاوية الحرص والطمع والتكالب.
فهناك من يدور في إحدى الدوّامات البحرية العنيفة. إنّه يتحرك بالطبع ويدور ولكنّ حركته هذه لن تقوده إلى ساحل النجاة أبداً بل العكس من ذلك تماماً.
من أسس الحياة هو الحركة والسير في الصراط المستقيم حيث طريق الأنبياء منذ فجر التأريخ، وإلّا فهو السقوط في مهاوي الحرص والطمع والجنون، واللهاث وراء تكديس الثروة والأموال من أجل لا شيء، فالثروة وبغض النظر عن جانبها الاجتماعي وما ينتج عنها من هدر لحقوق المجتمع تعتبر ذنباً كبيراً حتى على مستوى الفرد نفسه، ذلك أنّه يتحمل في سبيلها شتى أنواع العذاب، ويهدر كلّ عمره في سبيل الحفاظ عليها مضاعفتها دون أن يترك لنفسه وقتاً للمطالعة والتأمّل والانتهال من ينابيع الروح، بل إنّه لا يستفيد من ثروته شيئاً، إذ يمكنه أن يسخرها في سبيل راحته، ولذا فهو يعيش في شقاء مستمر، ناهيك عن مسؤوليتها في الآخرة.
يقول الإمام عليّ (ع): "عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء".
فالبخيل الذي يخاف الفقر ويكدّس أمواله ويحرص عليها ويعاني في ذلك ما يعاني، هو في الحقيقة يعيش حالة الفقراء، التي يخاف منها، أمّا الغنى الذي ينشده فهو بمنأى عنه، بل إنّه يبتعد عنه يوماً بعد آخر، وبالرغم من كلّ ذلك فإنّ حسابه سيكون حساب الأغنياء.
أجل هذا هو الانحراف عن الجادّة الصحيحة والصراط المستقيم والسقوط في هاوية الأمراض النفسية كالبخل والحرص والطمع وجنون الشهرة والشهوة وغيرها، فالعظماء من البشر لم يطلبوا منّا الحرمان من النعم الإلهية بل أرادوا إنقاذنا من هذه المهاوي.