الحوار كأصل ومبدأ في الإسلام
السيد محمّد باقر الصدر
الحوار أصل ومبدأ:
ليس الحوار ملحقاً أو هامشاً نضيفه إلى مفردات وصياغات علم الكلام أو الفقه أو السياسة... وبداهة فإنّه ليس تكتيكاً براغماتياً أو حيلة تقتضيها ظروف تراجع قسري، كما أنّ مصطلح الاستراتيجية لا يغطي تماماً مقاصد الحوار وغاياته ناهيك بقصوره عن الإحاطة بأصله ومبتدئه.
الحوار بالنسبة إلينا هو في صلب العقيدة، وهو في أساس الحياة الإسلامية والمسيحية والإنسانية الفطرية عموماً: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54)، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل/ 111)، "في البدء كان الكلمة..." (العهد الجديد)... (وخلق الله الإنسان على صورته) (العهد القديم).
الحوار تعبير عن قيمة عظيمة بل القيمة الكبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية... الفطرة... فالدين هو الفطرة، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الرّوم/ 30)... فطرة الله هذه، دين الإنسانية هذا، تكرر ذكره في الكتب السماوية فحمل تعابير: المحبة والتوبة والندامة والنور والكلمة والبشارة والقلم والقلب واللسان والمغفرة والتسامح والشفقة والرأفة وملح الأرض والمصالحة والفرح والعناية والغفران والبرّ والتقوى والحكمة والرشد والكرامة والهداية واللطف والحسنة والصدقة وسواء السبيل والصراط المستقيم والعمل الصالح والعبادة والقيام... وكلها هي الحوار...
فالدين هو الحوار: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). والحوار هو الدين: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وقد وردت مادة حوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34). (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا) (الكهف/ 37). (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة/ 1).
ولكن معنى الحوار والمحاورة والتحاور ورد في عشرات المواضع خصوصاً في صيغ المجادلة بالتي هي أحسن.
- ولعل الحوار الأوّل هو ذلك الذي دار بين الله (عزّ وجلّ) وملائكته في شأن خلق آدم... فجاءت المحاورة بصيغة قال... وقالوا... (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...) (إلى آخر الآية 33 من سورة البقرة).
- ثمّ كان الحوار الثاني بين الله – سبحانه وتعالى – وإبليس... وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صوراً عدة لهذا الحوار الذي شكل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقهية.
- ثمّ كان الحوار بين الله ورسله وأنبيائه (آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد) والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم... وهي كلّها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون الكتاب وشكلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لا تنضب. ويمكن الإجمال والقول إنّ هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن الكريم تحمل في مضامينها وأبعادها المعاني الآتية:
1- إنّ الاختلاف سنّة إلهية: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة/ 48).
2- وهو رحمة للناس: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 251)، "اختلاف أمتي رحمة" (حديث).
3- وهو ركن المعرفة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).
4- إنّ الفطرة هي قبول الآخر والحوار معه... (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99).
5- إنّ الحكم الأخير هو لله تعالى إليه المصير في حين أنّ الحقيقة نسبية وهي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وليست في يده... (إِلَى اللَّهِ مرجعكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 48)، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125)، (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الحج/ 68-69). (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى/ 15).
6- إنّ شرط الحوار هو الإسلام لرب العالمين، أي الوقوف على أرض واحدة: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24)، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران/ 64).
7- ومن مستلزمات الحوار الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحقِّ والصبر: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62). (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر). الحوار إذاً هو جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية وهو طريق الرشد والرشاد في الدنيا والآخرة.. ذلك بأنّ الله رب العالمين غني عن الناس، ولو شاء لما خلقهم أصلاً، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة... ولكن حكمة الله في الخلق وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسنة لا تبديل لها...
إنّها سنة التدافع، أي الحوار الدائم، بالتي هي أحسن، بالكلمة الطيبة "أصلها ثابت وفرعها في السماء"، بالحسنة والموعظة والحكمة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجهاد النفس وهو الجهاد الأكبر... (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34). (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 251). هذا الحوار، السنّة الإلهية الكونية، ملح الأرض، هو حوار الحياة، حوار التدافع والمدافعة، المجادلة والحكمة، المشاركة والعيش، إنّه حوار النضال المشترك من أجل الإنسان وقضاياه، من أجل الحرية والعدل والاستقلال والأمن والسلام والكرامة والخير للجميع... (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، وفردية... فبناء الإنسان الحر والشخصية القرآنية، يمران عبر الحوار مع الآخر... (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى) (العلق/ 6)، (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (الرحمن/ 8).
والحكم الأخير والحقيقة المطلقة هي الله سبحانه وتعالى هو الحجة وهو النبأ العظيم، وهو الهادي وهو الذي يخبر الجميع يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الحج/ 67-69)، فلا جدل بيزنطياً، ولا حوار لاهوت وعلم كلام وعقائد... ولا خوف من عدل الله وحكمه... فكلّ من آمن وعمل صالحاً (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).
هذا هو المقصد الرئيسي والغاية الجوهرية للحوار.. ولا نقول هذا الكلام للتقليل من أهمية حوار اللاهوت وعلم الكلام.. فالتاريخ شهد وما زال محاورات ومجادلات لا تحصى ولا تعد، وشهد انتقال هذا أو ذاك من دين إلى آخر... فلم يكسب الإسلام ولم تكسب المسيحية، ولم تحسم الحقيقة ولم يظهر المخلص... إنّ منطق الرسالات السماوية، ودليل الفطرة الإنسانية وسنّة الحياة والعصر، ترشدنا جميعاً إلى اعتبار الأولوية، والأهمية المطلقة لحوار الحياة، وشهادة التاريخ والحاضر والمستقبل، أي لصوغ مشروع حضاري إنساني مشترك لخير البشرية جمعاء ولمجد الله على الأرض... لنكون قوّامين بالقسط ولنكون شهداء على الناس ولتكون منا أُمّة وسط تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر...
المصدر: كتاب الإمام الصدر والحوار كلمة سواء