ليشهدوا منافع لهم
قال الله سبحانه وتعالى:( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
أعظم المناسبات العبادية تلك العبادة التي اختبر الله عباده ليرى صدق عبوديتهم، وليمتحن خضوعهم له ، فأمرهم بالتوجّه إلى أرض المقدسات، في وادٍ غير ذي زرع، ليقوموا بواجب العبودية وليؤدوا فروض الطاعة ، اختباراً وامتحاناً منه عزّ وجلّ لهم، موسم تتجلّى فيه العبودية التي هي عزّ المؤمن ، موسم يخرج فيه المؤمن من ذلّ المعاصي والذنوب ، ويخلع عنه لباس الوزر من الملذات والشهوات ، ليصير بذلك عبداً لله سبحانه بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وبكلّ ما تتضمنه من معاني العز والطاعة، وهي الانتساب بالعبودية لله الواحد الأحد القادر القاهر ، وليعلن فيها خروجه على كلّ أنواع العبودية ، ويحطم فيها أصنام الهوى ويجعل قلبه متّجها ً لإله واحد هو الله العلي العظيم.
هذا الموسم فيه من المعاني والدروس والعبر الشيء الكثير. وتتنوع معالم هذه العبارة الربّانية الفريدة الغربية في طقوسها وطريقة أدائها، من أهمها: معلم المنافع التي سوف يتمتع بها المؤمن من خلال أدائه لهذه العبادة الفريدة.
منافع الحجّ:
مما لا شك فيه أن الإنسان أول ما يتبادر إلى ذهنه حين يقرأ هذه الآية الكريمة هو المنافع الدنيوية التي سوف يحصل عليها من خلال الكسب والبيع والشراء وما إلى ذلك، فهل المنافع لهذه العبادة تنحصر في هذه الأمور: أي المكاسب المادية التي يحصل عليها المؤمن أم أن المنافع أشمل من المكاسب المادية؟
لا شك أن المنافع المقصودة في الآية الكريمة لا تخص المكاسب المادية فقط؛ لأن هذه المكاسب لا يحصل عليها إلاّ مجموعة، فأكثر الناس ربما يعدّ من الناحية المادية خاسراً للنفقات الباهظة التي يتحمّلها، لأداء هذا المنسك العظيم. هذه المنافع لا بدّ وأن تشمل غير المنفعة المادية المحضة، حيث تقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: المنافع الدنيوية:
وهذه المنافع يمكن ملاحظتها من خلال ثلاثة مظاهر أساسية:
أ-التجارة: لا شك أن موسم الحجّ يعتبر من المواسم التجارية المهمة، وحين نراجع روايات أهل البيت (صلوات الله عليهم) نلاحظ أنهم يعتبرون إحدى الحكم الموجودة في الحجّ هي مسألة الاستفادة المادية، ففي الحديث المروي عن هشام بن الحكم وكان من أصحاب الإمام الصادق ومن متكلمي الإمامية – قال: سألت أبا عبد الله "عليه السلام" فقلت له ما العلة التي من أجلها كلّف الله العباد بالحجّ؟ فذكر عليه السلام مجموعة من المنافع في حديث طويل وذكر من ضمنها: (ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع المكاري بذلك والجمال... ولو كان كلّ قوم إنما يتكلمون على بلادهم وما فيها لهلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح)، فمن هذا الحديث نستظهر أن أحد العلل والحكم التي من أجلها شرع الحجّ إنما هي للاستفادة التجارية وتناقل السلع بين البلدان والتبادل التجاري.
ب-اجتماع المؤمنين وتبادل المنافع: إن اجتماع الناس من مناطق الأرض المختلفة على مالهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب والثقافات المتباينة مع وجود الرابطة الإيمانية الروحية القوية التي تشدّ بعضهم للبعض الآخر. تتلاقح أفكارهم ويستفيد كلّ واحد منهم من تجارب الآخرين، باعتبارهم يمثلون حضارات مختلفة، فيتحقق النفع العظيم باجتماعهم. وأضف إلى ذلك أمر من أهم ما في هذا المجال وهو شعور المسلمين بالقوة والمنعة ، فالإنسان عندما ينظر إلى هذه الأمواج البشرية التي لا يحدّها النظر أحياناً يشعر بالعزّة والقوة والمنعة، ويشعر أن هناك الملايين من البشر يسيرون لهدف واحد ويعملون وفق إرادة واحدة هي إرادة الله سبحانه وتعالى، ويستنّون ويستهدون بكتاب الله الكريم وسنة نبيه العظيم مما يجعل الإنسان يشعر أنه لا يعيش ضمن مجموعة صغيرة، تتلاقفها الأيدي وتعصف بها رياح الشرّ ، فالمؤمن الذي يستشعر القوة ، يستشعر معها الكرامة والعزّة ، وهذا يفيده كثيراً في العمل لنشر الإسلام ؛ ومواجهة الغزو الفكري والثقافي الذي يتسلّل إلى المجتمعات الإسلامية في محاولة لتدمير القيم الإسلامية.
ج -التغيير من رتابة الحياة: لا شك أن الإنسان الذي يعيش ضمن حياة رتيبة تسير على وتيرة واحدة يواجه الكثير من المشاكل النفسية التي تنعكس بدورها على المجتمع فتخلق مشاكل اجتماعية خطيرة ، لذا نلاحظ أن الأطباء ينصحون في كثير من الأوقات ، بتغيير نمط الحياة عبر أخذ إجازة لمدة معينة ، يغير فيها الإنسان من نمط حياته ، ليرجع ويؤدي عمله بشكل أكثر جدية وأكثر فائدة ، فهو يرجع بروحية عالية تعينه على أن يكون إنساناً منتجاً بشكل كبير ، ولو لاحظنا أن الإنسان في كثير من أسفاره وسياحاته ربما لا يستطيع أن يغير كلّ نمط حياته. ولكن في الحجّ نلاحظ أنه يغيّر نمط حياته بشكلٍ كامل من حيث ملبسه ومأكله وطريقة نومه، وكل ما يرتبط بالحياة بالإضافة إلى حالة التحرر الروحي الكامل والانشغال الكامل عن الحياة ومشاغلها، والتوجّه إلى الله بكلّ تفكيره وجوارحه. ثم يعود إنساناً منتجاً وعاملاً بشكل أكثر فاعلية مما سبق، ولعل الرواية المروية عن الإمام الصادق "عليه السلام" عن جده الإمام زين العابدين "عليه السلام" تشير إلى هذا المعنى، فعن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" قال: (قال علي بن الحسين: حجّوا واعتمروا، تصحّ أبدانُكم وتتسعُ أرزاقُكم... الخ).
فلا شك أن الراحة النفسية لها الأثر الأكبر في سلامة الإنسان بدنياً، وأن الأعمال الشاقة التي يؤديها الحاج لها دورها في تقوية بدنه وزيادة درجة تحمّله.
ثانياً: المنافع الأخروية:
نقصد بها تلك المنافع التي يشهدها الإنسان ويستشعرها مع كونها أموراً تتعلق بآخرته ، ففي الكافي بإسناده عن الربيع بن خيثم قال: (شهدت أبا عبد الله "عليه السلام" وهو يطاف به حول الكعبة في محل وهو شديد المرض ، فكان كلّما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض ، فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول: اِرفعوني فلما فعل ذلك مراراً في كلّ شوط ، قلت له: جُعلت فداك يا ابن رسول الله إن هذا يشقّ عليك ، فقال: إنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) فقلت منافع الدنيا أو منافع الآخرة فقال: الكل) .
ومن الأمور التي يحقّقها الحجّ والتي لها دورها الكبير في سعادة الإنسان في حياته الآخرة:
أ-الجانب العبادي: يمثل الحجّ خلاصة العبادة، فالحاج يقوم بمجموعة من العبادات في نفس الوقت، وبالتالي فهو يحصل على فوائد عديدة من تأدية هذا النسك: من صلاة، وصوم وزكاة، وإنفاق، وتضحية وغيرها.
ب-الجانب الغيبي: لا شك أن الحجّ يعمّق عند الإنسان حالة الارتباط بالغيب؛ لما تمثّله عملية الحجّ من أمور غريبة، وروي عن أمير المؤمنين "عليه السلام" أنه قال في الخطبة القاصعة:
(... أَلَا ترونَ أن الله سبحانه اختبر الأوّلين َ من لدن آدم َ صلوات الله عليه إلى الآخِرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفعُ ولا تبصرُ ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعرَ بقاعِ الأرضِ حَجَراً، وأقَلٍّ نتائِقِ الدنيا مَدَراً).
ويصف صلوت الله عليه الديار المقدسة وصعوبة تضاريسها وقلّة مائها وحرارة هوائها إلى أن يقول:
(ثم أمر آدم "علية السلام" وَوَلَدَه أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم ... ثم يقول: حتى يهزّوا مناكبهم ذُللاً يُهللون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاءِ الشعورِ محاسنَ خَلقِهِم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً).
فكل هذه الطقوس التي يؤديها الإنسان دون أن يفهم الكثير منها معنًى معيناً، ودون أن يلاحظ ويلمس الفوائد من ذلك سوى أنه يتعبّد لله، والتعبّد لله هو قمة الارتباط بالغيب، الذي هو الشرط الأساسي للإيمان به سبحانه.
ج-المغفرة من الذنوب: لا شك أن الحجّ من العبادات المهمة في مغفرة الذنوب، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنه قال في إحدى خطبه في بيان أركان الدين: ((وحجّ البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان – أي يغسلان – الذنب)
وعن أبي عبد الله الصادق عن علي بن الحسين "عليه السلام" قال: (الحاج مغفور له وموجوب له الجنة).
فالإنسان الذي يُقبل على الله سبحانه وتعالى إقبالاً كاملاً ويتعبًد بكل ما يريده الله منه، فلا شك يكون مغفور الذنب.
هذا بالإضافة إلى أن الحجّ عبارة عن عملية وقائية ضد الذنوب والمعاصي، لما فيه من الأعمال العبادية التي تجعل الإنسان يعيش حالة الرغبة والرهبة إلى الله، وترك قساوة القلب، وترك نسيان الذكر وغيرها من الأمور التي تجعل الإنسان يتحصّن ضد الذنوب والمعاصي.
ثالثاً: الآثار الوضعية:
أن كثيراً من العبادات والأعمال الصالحة بالإضافة إلى ما لها من الأجر الجزيل والثواب الكثير، فإن لها آثاراً وضعية يحسها الإنسان، فمثلاً صلة الرحم له أثر كبير في الرزق وطول العمر، يقول أمير المؤمنين: (وصلة الرحم فإنها مثراة في المال ومنسأةٌ في الأجل) وصدقة العلانية تدفع ميتة السوء، وكثرة الاستغفار توجب زيادة الرزق.
كما أن لبعض الأعمال الطالحة آثارها الوضعية السّلبية، فالزنا مثلاً إذا تفشّى في المجتمع يكثر موت الفجأة، وقطع الأرحام يوجب قصر العمر، وغير ذلك من هذه الأعمال.
والحجّ كعبادة مع ما فيها من المنافع لدنيوية والأخروية، فإن لها آثاراً وضعية يحسها الإنسان ويلمسها، فهي وإن كانت الكثير من الروايات تؤكدها وتذكرها إلاّ أن التجارب العلمية أثبتت صحة هذا الكلام، ويمكن ذكر بعض هذه الآثار:
1-نفي الفقر: من موجبات زيادة الرزق ونفي الفقر عن الإنسان القيام بهذا النسك العظيم، فكما ورد عن علي عليه السلام: (وحجّ البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر). والغريب أن هذه العبادة هي الوحيدة غير الزكاة والخمس التي لا يمكن تأديتها إلاّ بالإنفاق ودفع المال، وهما من موجبات الخسارة؛ باعتبار أن الإنسان يدفع مالاً، وأن الإنسان سوف يكون مكتفياً من حيث مؤونته ومؤونة عياله بأدائها ولعل الروية عن الإمام زين العابدين تشير إلى هذا المعنى بشكل أوضح لقوله عليه السلام: (... وتكفوا مؤنة الناس ومؤنة عيالكم).
2-صحة البدن: من المفارقات الغريبة أن يكون الحجّ سبباً لصحة الأبدان، خصوصاً إذا لاحظنا أن الكثير من الحجّاج يصابون بالأمراض في موسم الحجّ، ولكن أكثر من رواية تؤكد هذا المعنى، ربما تكون هذه الأمراض بحدّ ذاتها سبباً لقوة جسم الإنسان وصحته لأن الجسم يتعوّد على مقاومة الأمراض فيكون ذلك سبباً لمناعته ومتانته، ربما لا يكون ذلك هو السبب ولكنه أمر غيبي مرتبط بعطاء إلهي. ومما يؤكد هذا الأمر ما ورد عن علي بن الحسين "عليه السلام" يقول: (حجّوا واعتمروا تصحّ أجسامكم ويصلح إيمانكم وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم).
3-إن مال الحجّ مخلوف على الإنسان: من الأمور التي تؤكدها الروايات أن الإنسان عندما ينفق ماله في الحجّ، فإن الله يخلف عليه ذلك المال ويعيده، ولعل العمل الوحيد الذي لا يحرّم فيه الإسراف ويستحب فيه الإنفاق هو الحجّ، فعن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" قال: (ما من نفقة أحبّ إلى الله عزَّ وجلّ من نفقة قصدٍ، ويبغضُ الإسرافَ إلاّ في حجٍّ أو عمرة).
هذه بعض المنافع التي يمكن أن يحصل عليها الحاج، ولعل ما لا نعرفه وندركه أكثر من ذلك بكثير. (*).
_____________________
(*) المصدر كتاب "دروس من الإسلام" للسيد علي الحكيم.