تأملات في فقه الغيبة
-4-
بقلم الدكتور محمد صالح العجمي
كان حديثنا خلال حلقات ثلاث مضت حول فقه الغيبة، وقد تضمن هذا الفقه تناول عدة مواضيع، كان من أبرزها: مفهوم الغيبة، وأنواع الغيبة، وبواعث الغيبة، ومن أحكام الغيبة، وذم الغيبة، وكفارة الغيبة، واليوم نواصل العرض العلمي لهذا الموضوع بمقدمة قصيرة حول آثار الغيبة على حياة الإنسان في الدارين الدنيا والآخرة، ومن ثم نختم الحديث بالموارد التي جوزت فيها الشريعة السمحة الغيبة.
إن للغيبة آثارا سلبية على حياة الإنسان، حيث يمكن حصر هذه الآثار في النقاط الآتية:
1. تظهر نتائج هذا العمل الخبيث على حياته الدنيا، فيشاهدها رأي العين ويدركها إدراك المتفكر، كما أن لها آثارا أخرى على الحياة الآخرة، فتتجسد له الغيبة صنوفا من الويلات والعذابات يلاقيها في آخرته، وإن للغيبة آثارا أخرى على المجتمع، وتفصيل ذلك يمكن الإشارة له بالآتي:
أ- قال النبي (ص): " من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يُجمع بينهما في الجنة أبدا، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتابُ في النار خالدا فيها وبئس المصير ".
ب- قال النبي (ص): " من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته، كانت أولُ خطوة خطاها وضعها في جهنم، وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق ".
ت- قال النبي (ص): " يُؤتى بأحد يوم القيامة، يُوقف بين يدي الله، ويُدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته! فيقول: إلهي ليس هذا كتابي، فإنني لا أرى فيه طاعتي! فيُقال له: إن ربك لا يضِل ولا ينسى، ذهب عمُلك باغتياب الناس، ثم يُؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه فيَرى فيها طاعات كثيرة فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإني، ما عملت هذه الطاعات! فيُقال: لأن فلاناً اغتابك فدُفعت حسناته إليك ".
ومن طريف ما يُروى في هذا الشأن أنه في أحد الأيام توفيت شابة في ريعان شبابها، وكانت تصلي وتصوم وتتصدق وظاهر الأمر أنها ملتزمة بحدود الشريعة من بعض الأمر والنهي، وبعض الأخلاق والمحامد، فحزن عليها أهلها وأغلبُ الناس، فجعلوا يبكونها ويترحمون عليها ويستغفرون لها. وقام أخوها بتولي أمرها من تغسيل وتكفين وتشييع ودفن، وبعد ذلك عاد الأخ إلى المنزل، ثم اكتشف أن محفظته قد ضاعت منه، ورجّح أنها ضاعت في المقبرة وقت دفن أخته، فعاد إلى المقبرة مرة أخرى؛ ليبحث عن محفظته، فلما دخل المقبرة وهو في طريقه إلى قبر أخته رأى منظرا أهاله وصورة أفزعته، رأى أن نارا تخرج من قبر أخته!!! فاستغرب واندهش من هذا المنظر، وعاد إلى والدته من ساعته!!! فسألها: ماذا كان عمل أختي؟ رأيتُ من حالها كذا وكذا، وإذا بدموع الوالدة تنهمر على خديها تبكي رحمة وشفقة على تلك البنت المعذبة في قبرها، ثم قالت: كم حذرتها، وكم نهيتها، وكم زجرتها، وكم خوفتها الله تعالى ... ولكن من دون جدوى، إنها يا ولدي كانت تمشي بالغيبة بين الناس!!!
2. التسبب في ردة الفعل، فمن تقع عليه الغيبة قد يصله الكلام بصورة أو بأخرى، فيسعى للانتقام، أو للدفاع عن نفسه، مما يجعل المجتمع ساحة للصراعات والعداوات وانتشار البغضاء، ومعنى ذلك إظهار ردة الفعل السيئ من قبل المستغاب على مستوى اللفظ كأقل تقدير، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله: "لا تَغتب فتُغتب "، أو ربما يتطور الأمر إلى الخصومات والأضغان والأحقاد، وربما إلى التشاكس والتشاكي، فتكون العيون متناظرة والقلوب متنافرة.
3. من تلك الآثار الانتقاص من قيمة المغتاب، والنظر إليه بعين تزدريه وتحقره في المجالس والأندية؛ نتيجة سوء سلوكه، واعتدائه على حرمات الناس وهتكها؛ لذلك يقول الشاعر:
يا هاتكا حرم الرجال ولاهيا
|
وقاطعا سبل المودة عشت غير مكرم
|
لو كنت حرا من سُلالة ماجد
|
ما كنت هتّاكا لحرمة مسلم
|
4. تضعف الثقة بين الناس، فيصبح كل واحد فاقدا للثقة مع صاحبه وجاره، وهكذا يكون المجتمع بلا ثقة بين مختلف أفراده وهي صفة ذميمة وخطيرة، وبالتالي سيكثر سوء الظن، والتحفظ بين أبناء المجتمع الواحد الذي يفترض فيه أن يكون متحابا متماسكا كالبنيان المرصوص.
إن المغتاب للناس لهو رجل مغفل أبله أحمق لا يتفكر في عاقبة أقواله وأفعاله، يهدم أعراض الناس وسمعتهم، ولا يعلم أن حرمتهم عند الله تعالى أشد من حرمة الكعبة، يفعل هذا ولا يعلم أنه ممن قال الله تعالى فيهم: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة "، أيها المغتاب هلا التفت إلى قوله تعالى: " ولا يغتب بعضُكم بعضا أيحب أحدُكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه "، أيها المغتاب هلا تأملت حديثه (ع): " الغيبة إدام كلاب النار "، أيها المغتاب هل تعلم: أنك بكل غيبة تغتاب بها أخاك يؤخذ من سجل حسناتك إلى سجل حسناته، وإن لم تكن لك حسنات يؤخذ من سجل سيئاته وترمى على سجل سيئاتك، أيها المغتاب اشتغل بعيوبك ومساويك وتجنب الآخرين فلا قول ولا فعل ولا غمز ولا لمز...
ولكن قد نتساءل أخي القارئ أختي القارئة، هل هناك موارد جوزت فيها الشريعة الغيبة؟
نعم هناك بعض الموارد المعدودة والمحدودة ذكرها الفقهاء والعلماء تجوز فيها الغيبة، بشرط أن يكون من وراء ذلك حكمة، وليس الترخيص هنا لمجرد الاستغابة؛ لأنهم يتصفون بما يتصفون به من دون مبرر، ومن تلك الموارد:
أ- غيبة المتجاهر بالفسق .. الفاسق: من خرج عن حدود الشرع، وانتهك قوانينه بالسيئات وارتكاب المحرمات، ومثال ذلك ما جاء في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ " والمقصود من قوله : " فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ " خرج عن حدود طاعة الله وعصى أمره، وكذلك في قوله تعالى: " وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ "، الذين فسقوا هم: الذين خرجوا عن حدود طاعة الله فتمردوا على قيم الإيمان والعمل الصالح. هذا هو الفاسق. أما المتجاهر بالفسق فهو من يقوم بهذه الموبقات مجاهرة علنا لا خفية وسترا، كمن يشرب الخمر علنا ويصر عليها، أو يهجر الصلاة مجاهرة بلا عذر، والمتجاهر بالفسق تجوز غيبته؛ فلعل ذلك يكون رادعا له، وباعثا على التوبة والإقلاع عن الذنب، وقد جاء عن الإمام الصادق (ع): " إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ". وقال (ص): " ثلاثة لا تحرم عليك أعراضهم: المجاهر بالفسق، والإمام الجائر، والمبتدع ".
· يجب أن يعلم أن القدر المتيقن من جواز الغيبة في هذا المورد هو ذكره فيما يتجاهر به فقط وفقط، أما جواز غيبته في الذنوب الأخرى المستورة فهو مورد خلاف والأولى تركه، والأحوط عدم استغابة المتجاهر بالفسق في غير البلد أو المحل الذي يتجاهر فيه بالفسق، أما غير المتجاهر بالفسق ففي غيبته إشكال.
ب- غيبة الظالم في مقام الشكاية من ظلمه .. (التظلم عند من له رتبة الحكم وإحقاق الحق)، مثل: القضاة، والمفتين، والمحامين، ومشائخ القبيلة، وكبار العائلة، وكل ذلك يجب أن يكون بهدف إحقاق الحق المتمثل في رفع الظلم، وذلك مستمد من قول النبي (ص): " لصاحب الحق مقال "، ويُروى أن هند بنت عتبة جاءت النبي (ص) شاكية أبا سفيان أنه رجلٌ شحيح لا يعطيها ما يكفيها هي وولدها، فبعد أن استمع النبي (ص) إلى شكايتها قال لها: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". والأحوط الاقتصار على إظهار التظلم عند من يرجو نصرته وإغاثته، أما من يعلم بأنه لا يجيبه أو لا يستطيع أن ينصره فالأحوط أن لا يشتكي عنده من الظالم ولا يذكر ظلمه إليه.
ت- نصح المستشير .. فمتى استشاره مسلم في معاملة اقتصادية أو اجتماعية أو غيرهما يريد إجراءها مع شخص آخر، وكان في ذلك الشخص عيبٌ خفي بحيث لو لم يذكره للمستشير لأجرى المعاملة وتورط بضرر ومشقة، جاز له في هذه الصورة أن يذكر العيب لمن استشاره، بقصد النصح والإرشاد لا المذمة والتحقير، ويروى أن فاطمة بنت قيس لما أن استشارت النبي (ص) في خطابها قال لها: " أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه " ( كثير الأسفار)، إن عدم ذكر العيب هنا هو خيانة للمستشير وغشٌ له، وعلى ذلك لا مانع من ذكر العيب في هذه الصورة ... ويجب أن يعلم أن الأحوط في هذه المسألة مراعاة أمرين:
· أن يكون الضرر في عدم ذكر العيب للمستشير أكبر وأكثر، أما إذا كان الأمر على عكس ذلك يعني إذا كان الضرر ضررا عاديا محتملا ولا تأثير استراتيجيا له، فاللازم الامتناع عن ذكر العيب.
· أن يكون مضطرا لذكر العيب من أجل عدم إيقاع المعاملة، أما إذا كان بالإمكان منع المستشير عن إيقاع المعاملة من دون ذكر العيب كأن يقول له مثلا: لا أرى صلاحا في هذه المعاملة، وكان المستشير يقبل منه ذلك، فحينئذ يجب الاكتفاء بذلك.
ث- ذكر العيب الواضح المشهور والمعروف .. مثل: الأعمش والأحول والأعرج وأمثالهم، بشرط أن لا يقصد بذلك الانتقاص بل التعريف، وبشرط أن لا يتأذى من ذلك صاحبُ الوصف. وورد في كتب التاريخ كثير من ذلك: روي عن سليمان الأعمش، وقال أبو الزناد الأعرج، فهذا لا غيبة فيه طالما أنه لقبٌ مشهور به صاحبه، ولكن بشرط أن يرضى صاحبه به، وإلا عُـدّ غيبة مقيتة. ومن هنا تنتشر ألقابٌ بأسماء بعض الحيوانات في مجتمعنا لبعض الأسر، فإن كان أصحابها يجيزون ذلك فهو جائز، وإن كانوا لا يجيزونه فيجب الامتناع عنه.
ج- غيبة الضالين المضلين المبتدعين في دين الله .. بقصد فضحهم لئلا ينخدع الناسُ بهم، كمن يحلل أو يحرم على هواه في دين الله تعالى، أو يحدث بدعة في الدين، والضال المضل عادة ما تكون له مقومات اللسان الفصيح، والفكر القوي، والأتباع، ومن هنا تجوز غيبته لكشف خبثه وشرّه ... والابتداع والإضلال في دين الله تعالى أمران خطيران يجب التصدي لهما، وكشف صاحبهما أمام الملأ، ولا يصبح ذكر صاحبهما غيبة.
ح- رد الادعاء .. كأن يدعي عمرو بأنه مجتهد، أو سيّد علوي، أو أنه صاحب الحق الفلاني، أو طبيب حاذق في علاج الأمراض المستعصية، وكان هذا الادعاء زعما باطلا، وفيه تضليل للناس وإفساد في الأرض، فيجب رده، ويجوز اغتياب صاحبه، فلعل ذلك يكون رادعا له، حيث إنه سيصبح حديثا في كل مجلس وناد وعلى ألسنة الناس جميعهم، فربما يشكل هذا الحدث خط عودة له عن غيّه.
ويرى السيد الإمام الخميني في كتابه ( الأربعون حديثا ) أن الأولى للإنسان المحتاط أن يترك الغيبة في الموارد الجائزة، إلا للضرورة؛ لأن النفس يمكن أن تنخدع وتسترسل في هذا الأمر، وإن تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة قد يضر بحالها، فمن المحتمل أن تنجر نفسه شيئا فشيئا من الموارد الجائزة إلى الموارد المحرمة، ويصبح الأمر عنده أمرا عاديا، نعم إذا كان الصلاح والإصلاح متوقفا على الغيبة فلا مانع منها، ويقول: من الجدير بالكيّس الفطن أن يبحث في عيوبه ويتتبع عثراته، وكم هو قبيح بالإنسان الذي تلتفُّ حوله ملايين الذنوب أن يتجاهلها ويغفل عنها، ويتتبع عورات الآخرين وينشرها هتكا لما ستره الله عليهم.
نسأل الله العفو والعافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة، ونعوذ به من شرور أفعالنا وسيء أقوالنا، ونسأله أن يجملنا بالخلق الحسن، وأن يمّن علينا باحترام حقوق الآخرين، ونعوذ به تبارك وتعالى أن تكون في رقابنا غيبة لأحد من المؤمنين إلا أعاننا على استرضائه والامتناع عنها.