تأملات في فقه الغيبة
-3-
بقلم الدكتور محمد صالح العجمي
كفارة الغيبة
يأتي تركيزنا على موضوع الغيبة؛ نظراً لأنها مرضٌ اجتماعي واسع الانتشار في الأوساط الاجتماعية وللأسف الشديد، لذا فقد تحدثنا من قبلُ عن جملة من العناوين المهمة تتصل بهذا الشأن، وهي: مفهوم الغيبة، وأنواع الغيبة، وبواعث الغيبة، وذم الغيبة، وفي هذا العدد سيكون تفصيل حديثنا عن (كفارة الغيبة).
قد يخطئ الإنسان ويقع في حضيض الغيبة، ولكنه أيضا قد يصحو ويفوق، ويود التوبة إلى الله تعالى والاعتذار عما بدر منه، فماذا عليه أن يفعل؟
الغيبة معصية سهلة ينقاد إليها الناسُ إلا من رحم الله، والشيء السهل يحسبه الناس-في العادة -هيناً وهو عند الله عظيم. وكفارة الغيبة من الأمور المهمة التي ينبغي أن تُولى أهمية فائقة، وكأن العلاقة بين الغيبة وكفارة الغيبة عكسية، وعلى المغتاب أن يحرص حرصاً شديداً ويهتم اهتماماً أكيداً باسترضاء من وقعت عليه الغيبة، والتودد إليه، والاستغفار له؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يرضى عن المستغيب إلاّ بعد أن يرضى عنه صاحبه الذي استغابه، وهذا واضح في قوله "صلى الله عليه وآله": (الغيبة أشد من الزنا)، قيل: وكيف؟ قال: (الرجل يزني، ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يُغفر له حتى يغفر له صاحبه).
والأصل في كفارة الغيبة مراعاة جملة من الأمور وهي:
1-التوبة الصادقة والندم على ما بدر من تعدٍ لحدود الله، وتجاوز لحرماته، وانتهاك أعراض العباد، ومعاهدة النفس أمام الله على عدم العودة إلى معاقرة الغيبة أبداً، وشرط التوبة الصادقة أمر أساسٌ ومهمٌ في قبول الأعمال، ولا تجوز المداهمة أو المراوغة، فإن جازت على الخلق فلا تجوز على خالق الخلق.
2-إن كان من وقعت عليه الغيبة حيّاً معروفاً، فينبغي الذهاب إليه، والاجتماع به، وطلب البراءة منه، وعلى المستغيب أن يجتهد في الحصول على العفو منه، وفي هذا يقول "صلى الله عليه وآله": (من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه قبل أن يأتي يومٌ ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يُؤخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته)، هذا بالإضافة إلى التودد إليه، والثناء عليه فكما ذمّه وقدح في شخصه فعليه أن يمدحه ويثني عليه، وعليه أن يستغفر له كلما مر ذكره، وقد سئل النبي "صلى الله عليه وآله": ما كفارة الاغتياب؟ قال: (تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته)، وبعد ذلك لعل الله تبارك وتعالى يرضى عنه إن علم صدق مقصده ونصح توبته، وعفو صاحبه عنه. وفي هذا السياق توجد جملة من التفاصيل يمكن مناقشتها كالآتي:
*على من أراد أن يستبرئ لنفسه من إثم الغيبة أن يسعى جاهداً في التحلل ممن اغتابه، فيطلب منه العفو والصفح، وبراءة الذمّة، ويعتذر إليه بالكلام اللين الحسن، ويبذل في سبيل ذلك ما يستطيع، حتى إن اضطر إلى شراء الهدايا القيمة، أو تقديم المساعدة المالية، أو الوقوف معه في محنة تصيبه، أو جعل الوساطة بينه وبين صاحبه من أهل الجاه والشأن، وعلى المغتاب أن يتحمل ما يأتيه من أذى ومشقة وحرج في سبيل أن يعفوا عنه صاحبه الذي استغابه، وقد رجّح العلماء ذلك كله في سبيل التحلل من حقوق العباد في دار الدنيا والخروج منها بالبراءة والمحمل الخفيف، وإلا فسوف ينتظره عذابٌ شديد في الدار الآخرة، ومن صور هذا العذاب أن يُمسخ كلبا، قال الإمام الصادق "عليه السلام": (إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار)، والتائبُ من الغيبة آخر من يدخل الجنة، والمصر عليها أول من يدخل النار والعياذ بالله، وهناك صنوف من الويلات والبلاءات يلاقيها المغتاب في عالمي الدنيا والآخرة مرّ ذكر بعضها، فالأفضل له أن يتوب ويستبرئ، وأن يجتهد في العلاج والكفارة.
*إذا بالغ المستغيبُ في الاعتذار والتودد إلى المستغاب، وبذل ما بوسعه من وسيلة وحيلة في سبيل إبراء ذمته، ولم يسمح المستغاب ولم يعفُ، فإن هذا قد يقلل من سيآت المستغيب التي اكتسبها بالغيبة، وإنه في هذه الحالة في مقام محمود، كما يستحب استحباباً مؤكداً للمستغاب أن يقبل عذر أخيه المستغيب الذي جاءه معتذراً معترفاً بذنبه طالباً البراءة والصفح، ومن غير المنطق وخلاف الحكمة أن يتشنج في الأمر ويغلق باب التوبة، وورد في الخبر: (إذا جثت الأممُ بين يدي الله تعالى يوم القيامة نودوا: ليقم من كان أجره على الله تعالى، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا عن مظلمة). والإمام زينُ العابدين "عليه السلام" يعلمنا في دعاء يوم الاثنين أن نبذل الجهد الجهيد من أجل استحلال من وقعت عليه الغيبة، حيث يقول "عليه السلام": (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يُشْهِدْ أحَداً حينَ فَطَرَ السَّمواتِ وَالأرْضَ،وَلاَ اتَّخَذَ مُعيناً حينَ بَرَأ النَّسَماتِ... وَأَسْأَلُكَ في مَظالِمِ عِبادِكَ عنديفأيما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ أَوْ اَمَة مِنْ إمائِكَ كانَتْ لَهُ قبليمَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها إيّاهُ في نَفْسِهِ أوْ في عِرْضِهِ أوْ في مالِهِ أَوْفي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ أوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها أوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِبِمَيْل أَوْ هَوىً أَوْ أنَفَة أوْ حَمِيَّة أَوْ رِياء أَوْ عَصَبِيَّة غائِباًكانَ أوْ شاهِداً وَحَيّاً كانَ أوْ مَيِّتاً فَقَصُرَتْ يَدي وَضاقَ وُسْعى عَنْرَدِّها إلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِوَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ إلى إرادَتِهِ أنْ تُصَلِيَّعَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَأنْ تُرْضِيَهُ عَنّى بِما شِئْتْ وَتَهَبَ ليمِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً ... ). ويقول "عليه السلام": في دعاء مكارم الأخلاق: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأن أعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ وَأثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ وأكافئ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وأخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ) هذا هو الإمام زين العابدين "عليه السلام" فهلا قد تعلمنا منه، وسرنا على منهاجه.
*إذا أدّت مصارحة من وقعت عليه الغيبة إلى زيادة الشحناء والبغضاء فلا ينبغي إخباره ومصارحته، فالأصل في المصارحة وطلب المغفرة زيادة وشائج القربى والتسامح لا التنافر والتقابح، ولا ينبغي من هذا الباب التهاون في طلب المغفرة واستبراء الذمة بحجة أن الطرف الآخر غير متقبل لمجرد التوهم بذلك، بل يجب أن يكون هذا القرار بناء على أدلة مرجحة يضعها المستغيب أمامه، كأن يكون المستغاب شديد العصبية، يتشنج دائماً في تسوية الخلافات وطلب الصلح والمودات معروفاً بهذه الصفات، وفي هذه الحالة يكتفى بالاستغفار له والتودد إليه، والثناء عليه، والدعاء له.
3-إن كان من وقعت عليه الغيبة حيّاً ولكنه غير معروف له مكان ويتعذر الوصول إليه، فيُكتفى بالاستغفار له كلما ذكر، والثناء عليه كلما مر اسمه، والدعاء له بحسن العاقبة، ولا بأس بالتصدق نيابة عنه من قبل المستغيب.
4-إن كان من وقعت عليه الغيبة ميتاً فيكتفى بالاستغفار له، والترحم عليه، وإهداء الفاتحة إلى روحه، والتصدق نيابة عنه. كما أن على الأولاد الأحياء أن يبذلوا الجهد في طلب العفو والمغفرة لوالديهم أو أقاربهم الذين توفوا وعليهم وزر الغيبة، وهذا من باب البر بالوالدين والصلة للأرحام والأقارب، فمثلا يمكنهم الاستغفار لمن اغتابه والدهم المتوفى، كما يمكنهم الذهاب إليه والاستحلال منه، والإحسان إليه، والثناء عليه كلما مر ذكره، وكل ذلك نيابة عن والدهم المتوفى...
*هل يكفي مجرد الاستغفار ككفارة للغيبة؟ إن مجرد الاستغفار لا يكفي، فإن الأصل أن الذنوب لا تُمحى إلاّ بالتوبة الصادقة التي يصحبها الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، وعقد العزم على عدم العود إليه مطلقاً، وصدق القلب في معاملة الخالق سبحانه وتعالى، ثم يُرجى لمن جاء بهذه التوبة أن يغفر الله له ذنبه، ويعفو عنه خطيئته. أما حقوق العباد ومظالم الخلق، فلا يكفرها إلاّ عفوُ أصحابها عنها ومغفرتهم لها، وفي هذا يُروى عن ابن كثير: عن أنس بن مالك قال: كانت العربُ تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رجلٌ يخدمهما فناما ونام هو معهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً فقالا: إن هذا (نؤوم) أي كثير النوم، فأيقظاه. فقالا له: ائت رسول الله "صلى الله عليه وآله" فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام ويستأدمانك، فقال "صلى الله عليه وآله": (إنهما قد ائتدما) فجاءا إلى النبي "صلى الله عليه وآله" فقالا يا رسول الله: بأي شيء ائتدمنا؟ فقال "صلى الله عليه وآله": (بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما) فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. فقال "صلى الله عليه وآله": (اطلبا منه فليستغفر لكما)، وهكذا فطلب المغفرة من المستغاب شرط في التوبة من الغيبة، إلى جانب صدق التوبة والاستغفار.
*ما صيغة الاستغفار؟ لا بد أن نصدق الله في هذا الاستغفار لمن وقعت عليه الغيبة، فنخلص فيه المسألة، ونبتغي إليه الوسيلة فيه، ونكرره في مواطن الإجابة، وندعو فيه بكل خير وبركة له في الدنيا والآخرة، ويشترط أن يكون الدعاء مناسباً لحالة المستغاب، فيدعو للحي بالصلاح والفلاح، وللميت بالمغفرة والرحمة، وللصغير بالرشد والهداية، وهكذا...، ولا شك أن هذه الحالة من الدعاء تقتضي تخصيص المدعو له: إما بذكر اسمه، أو بذكر صفته فتقول: ( اللهم اغفر لي ولفلان بن فلان الذي اغتبته وظلمته، اللهم تجاوز عني وعنه، اللهم أحسن عاقبتي وعاقبته)، فكما أنك اغتبته باسمه أو وصفه، وخصصته بالأذى، فكذلك ينبغي أن يكون الاستغفار والدعاء مخصصا حتى تقابل السيئات بالحسنات، أما الصيغ العامة فلا تبدو كافية في تحقيق ما ترجو من الله تعالى. وفي كتب الأخلاق تجد تلازماً واقتراناً واضحان بين الغيبة والاستغفار للمستغاب يستنتج من العديد من الأحاديث الشريفة، منها قوله "صلى الله عليه وآله": (إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته).
أخي المؤمن تصادق مع عباد الله تعالى، ولا تهتك أعراضهم بالغيبة، فتؤذيهم فيغضب الله عليك؛ لأنك آذيتَ عباده، وانتهكت أعراضهم، وإن فعلت فإنَّ عرضك مهتوك، تأمل قول الإمام الصادق "عليه السلام": (لا تغتب فتغتب، ولا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها، فإنك كما تدين تُدان)، أيها المؤمن العزيز تذكر وتدبر وتفكر أن خمس دقائق من الغيبة يقابلها عذاب شديد عتيد أقله ما يلاقيه المستغيب في البرزخ من ويلات وكربات، وفي الآخرة تكون من الأخسرين الذين تلفح وجوههم النار...
عصمنا الله وإياكم من الوقوع في مهاوي الغيبة، وللحديث بقية
الغيبة ذلك الوبالُ الوخيم (*)
أخي المؤمن، أختي المؤمنة: تُعد الغيبة من أخطر الأمراض الاجتماعية المتفشية، وهي من أكثر الذنوب التي تهدم الأعمال الصالحة التي يقوم بها المرء في حياته، يقع الكثير من الناس في منزلق الغيبة من حيث لا ينتبهون، فاحذر فإن المغتاب على خطر شديد، إن بقي مصرا عليها فهو أول من يدخل النار!!!
حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، وزنها قبل أن تُوزن
م
|
الوصف
|
نعم
|
لا
|
|
1
|
هل تعرف معنى الغيبة كما عرّفها علماء الأخلاق؟
|
|
|
|
2
|
هل أنت ممن يجتنب الغيبة حقا قولا وعملا؟
|
|
|
|
3
|
هل تحفظ آية قرآنية كريمة تردك عن الغيبة؟
|
|
|
|
4
|
هل تحفظ حديثا شريفا يردعك عن الغيبة؟
|
|
|
|
5
|
هل تحفظ دعاء يثنيك عن الوقوع في الغيبة؟
|
|
|
|
6
|
هل تعرف قصّة مؤثرة تخوفك من عاقبة المغتاب؟
|
|
|
|
7
|
هل تراقب كلماتك وحركاتك خوف الوقوع في الغيبة؟
|
|
|
|
8
|
هل تؤنّب نفسك عندما تغتاب أحدا من المسلمين؟
|
|
|
|
9
|
هل تطلب براءة الذمة ممن اغتبته، وتعتذر منه؟
|
|
|
|
10
|
هل تستغفر لمن اغتبته، وتذكره بالخير أمام الآخرين؟
|
|
|
|
11
|
هل تتصدق عمن اغتبته، أو تهديه ثواب بعض الأعمال؟
|
|
|
|
12
|
هل تعرف العاقبة الوخيمة للمغتاب في الحياة الدنيا؟
|
|
|
|
13
|
هل تعرف العاقبة الوخيمة للمغتاب في الحياة الآخرة؟
|
|
|
|
14
|
هل تعفو عمن اغتابك، وتتسامح معه؟
|
|
|
|
15
|
هل ترد الغيبة عن المؤمنين عندما يغتابهم أحد في حضرتك؟
|
|
|
|
16
|
هل تنهى عن الغيبة، وتحذر من سوء عاقبتها؟
|
|
|
|
17
|
هل تعرف الموارد الفقهية المرخصة للغيبة؟
|
|
|
|
18
|
هل تعرف لماذا يغتاب الناسُ بعضهم بعضا؟
|
|
|
|
19
|
هل تطالع كتابا يعلمك فقه الغيبة، ويحذرك منها؟
|
|
|
|
20
|
هل تبين لأسرتك معنى الغيبة، وآثارها على الفرد والمجتمع؟
|
|
|
|
النتيجة النهائية
|
أنا بعيد عن الغيبة
|
أنا قريب من الغيبة !!!
|
|
ماذا يجب عليَّ أن أفعل إذا كنتُ بعيدا عن الغيبة، وماذا عليَّ أن أفعل إذا كنتُ قريبا من الغيبة؟
|
____________________________
(*) أعد المقياس وحكمه الدكتور محمد بن صالح العجمي.