تأملات في فقه الغيبة
-1-
بقلم: الدكتور محمد صالح العجمي
الغيبة ذنبٌ من الذنوب الكبيرة الخطيرة التي ورد الوعيد عليها بالعذاب في بعض آيات القرآن الكريم، كما في قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19) ، وورد النهي الصريح عنها في قوله جل وعلا: (ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12)، وهناك قائمة طويلة جداً من الأحاديث الشريفة المروية عن النبي "صلى الله عليه وآله" وأهل بيته الطيبين الطاهرين "عليهم السلام" في ذم الغيبة، وعقوبة المغتاب وجزائه، ومن ذلك قوله "صلى الله عليه وآله": (من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة إلاّ أن يغفر له صاحبه)، وقد ذكر المتحدثون في هذا الأمر قصصاً وعظية كثيرة كلها توضح أن الغيبة مرضٌ عُضال، ولا بد للمريض بها أن يتداوى قبل أن يستشري المرضُ فيه ويقضي عليه.
1-مفهوم الغيبة
الغيبة: ( أن تذكر أخاك بما يكرهه سواء كان ذلك بنقص في بدنه، أو في أخلاقه، أو في أقواله، أو في أفعاله المتعلقة بدينه أو دنياه، بل وإن كان بنقص في ثوبه، أو داره، أو دابته ) وهذا مستنتج من حديث الرسول "صلى الله عليه وآله": (الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه) ، ويُروى أن جماعة من الصحابة كانوا عند النبي "صلى الله عليه وآله" فذكروا رجلاً إلى أن قالوا: ما أعجزه! فقال لهم "صلى الله عليه وآله" : " اغتبتم أخاكم "، فقالوا يا رسول الله قلنا ما فيه. قال : " إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه ".
أ-ما الفرق بين الغيبة والبهتان؟
الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه وهو فيه، أما إذا لم يكن فيه فهو بهتان.
ب_سؤال موجه إلى سماحة السيد السيستاني على موقعه في قسم الاستفتاءات (ما الغيبة؟) :
الغيبة: « أن يُذكر المؤمن بعيب في غَيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن، وسواء أكان العيب في بدنه، أم في نسبه، أم في خلقه، أم في فعله، أم في قوله، أمِ في دينه، أم في دنياه، أم في غير ذلك، مما يكون عيباً مستوراً عن الناس، كما لا فرق في الذكر بين أن يكون بالقول، أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب. وهذا التعريف أشد تحرجاً في الغيبة حيث إنه يشير إلى قوله: (سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن ) فهو غيبة.
وقد ذمّها الله عزَّ وجل في كتابه الكريم وصوّرها في صورة تقشعر منها النفوس والأبدان، فقال جل وعلا: (ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ). وقال نبينا "صلى الله عليه وآله": (إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل قد يزني فيتوبُ إلى الله، فيتوبُ الله عليه، وصاحبُ الغيبة لا يُغفر له حتى يغفر له صاحبه). ولا يحسن بالمؤمن أن يستمع إلى غيبة أخيه المؤمن، بل يظهر من الروايات عن النبي والأئمة "عليهم السلام" أنه: يجب على سامع الغيبة أن ينصر المغتاب ويرد عنه، وأنه إذا لم يرد عمن وقعت عليه الغيبة خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنه كان عليه كوزر من اغتاب. وفي حديث آخر قال "صلى الله عليه وآله" : (مررتُ ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقلت يا جبرائيل من هؤلاء؟ فقال الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم) . فنعوذ بالله تعالى من أن نقع في آفات الغيبة، وننزلق في مهاويها، اللهم اعصم ألسنتنا وأفعالنا وجوارحنا عن أن نغتاب أحداً، أو أن نشهد مجلساً أغتيب فيه مسلم فلم ننصره.
2-أنواع الغيبة
أ- هل الغيبة منحصرة في اللسان فقط؟
الغيبة تتحقق باللسان وهو من أكثر صورها انتشاراً؛ وهي أقدر على التصوير في الانتقاص، وبالتالي فهي أقبح وأقذر، ولذا يقول الشاعر:
جراحاتُ السنان لها التئامٌ *** ولا يلتام ما جرح اللسان
وتتحقق الغيبة بكل ما يُفهم منه أو يراد به انتقاص الآخرين، كالفعل والمحاكاة: مشية الأعرج، أو نظرة الأحول. وتتحقق الغيبة بالإيماء والإشارة، وقد روي أنه دخلت السيدة صفية زوجة النبي "صلى الله عليه وآله" على عائشة بحضور النبي "صلى الله عليه وآله"، فلما ولّت السيدة صفية، أومأت عائشة بيدها أي أشارت إلى أنها قصيرة، فقال "صلى الله عليه وآله": " لقد اغتبتها "، وفي رواية أخرى أنها قالت: حسبك من صفية كذا وكذا تعني ( قصيرة )، فقال لها رسول الله "صلى الله عليه وآله": " لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته " !!! فرب كلمة أهلكت صاحبها. وتتحقق الغيبة بالكتابة فالقلم أحد اللسانين كأن يكتب نعوذ بالله من قلة الحياء، ونسأله تعالى أن يعصمنا منه، وهو يقصد فلان بن فلان. وتتحقق الغيبة بالغمز والرمز، ويدخل من الغيبة قول المادح: نعم الرجل الصالح الكريم الحليم فلان بن فلان، لكنه مع مزيد من الأسف مبتلى ببعض النفاق، نعوذ بالله تعالى من شر المنافقين.
ب- حتى تتحقق الغيبة يجب أن تكون محددة بشخص معين اسماً ورسماً، أما إذا كان الشخص المذكور بلا اسم ولا علامة فلا تعد تلك غيبة، كأن يقول: رأيت شخصا سيئ الطباع فضّ الأخلاق.
ج- ما حكم الغيبة لشخص مردد بين مجموعة أشخاص؟
يجب تحديد الاسم والرسم، فإذا قال: أحد أولاد فلان بن فلان مزعج، فتعد هذه غيبة؛ لأنهم محدودون معروفون، أما إذا قال أحد العُمانيين مزعجاً أو بعض العمانيين مزعجاً فلا تعد هذه غيبة؛ لأنها غيبة مرددة بين مجموعة كبيرة من الناس يصعب تحديد الاسم والرسم من خلالها.
3-بواعث الغيبة
أ-الغضب، أو الحقد، أو الحسد وكلها أمراض اجتماعية فتّاكة على الإنسان أن يستشفي منها عند الطبيب الاجتماعي، كما يطلب الشفاء عند الطبيب البشري إذا أصيب بمرض عضوي، فالغاضب والحاقد والحاسد أكثر عرضة للوقوع في منحدرات الغيبة السحيقة، ومن هنا فعلينا أن نحذر هذه الصفات الذميمة في كل حياتنا؛ لأنها إذا رافقت الإنسان أهلكته، ولهذا يقول الشاعر في الغضب:
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم *** عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب
ويقول في الحقد:
إن الحقود وإن تقادم عهده *** فالحقد باق في الصدور مغيّب
ب- السخرية والاستهزاء بالآخرين، فأحياناً يكون باعث بعض الناس السخرية والاستهزاء بالآخرين ليس إلاّ فيقعون في أعراض بعض الناس غيبة ونميمة وبهتاناً، وهذه غالباً ما تكون في مجالس الهزل واللهو واللعب والترويح عن النفس، ومن هنا فعلينا أن نحذر كثيراً إذا ما قُدّر لنا أن نكون جلساء في مثل هذه المجالس، وذلك بأن نراقب أقوالنا وحركاتنا وأفعالنا، ونردها إلى مرد الشارع المقدس فيما أمر به ونهى عنه، وألا نطلق لها العنان فيما تشاء وتهوى فتقع في عرض هذا وتنتهش من عرض ذاك، وتنتقص من قيمة ذلك، وبهذا يصح قول القائل: الغيبة فاكهة مجالس السوء؛ ولهذا يقول الإمام علي "عليه السلام" : (إياك أن تجعل مركبك لسانك في غيبة إخوانك، أو تقول ما يصير عليك حجة، وفي الإساءة إليك علة).
ج-إرادة الافتخار والمباهاة: بأن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول زيدٌ أنا العالم الفاضل وعمرو لا يعلم شيئاً. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك علو نفسه وأنه أفضل من عمرو، وهذه تكون عادة عند المقارنة بين شخصين أو مجموعتين، ولهذا فقد ذم الدين الإسلامي تضخيم الذات، وحث على التواضع.
د-دفع المذمة عن النفس، بأن ينسب إليه شخص شيئاً من القبائح، فيرد بالتبرء منها بإلقائها على ذلك الشخص، فمثلا: زيدٌ يتهم عمراً بعدم التصدق في سبيل الله تعالى، فيتبرأ عمرو من ذلك بإلقاء التهمة على زيد، وكان يكفي عمرو أن ينفي التهمة عن نفسه فقط وفقط ولا يتعرض لزيد، إلا أنه وقع في المحذور والمحظور.
ومن باب دفع المذمة عن الغير المعروف بجلالته وعظمته يقع الإنسان أيضاً في الغيبة، وفي هذا يروى أن رجلاً جاء إلى الإمام السجاد "عليه السلام" فقال له: إن فلاناً ينسبك إلى أنك ضال مبدع، فقال له "عليه السلام" : "ما رعيت حق مجالسة الرجل، حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه... ثم قال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار".
ه_ مرافقة أصدقاء السوء وملازمتهم والسير في ركابهم، ومجاراتهم في الكلام والانتقاص من شأن الناس؛ ولهذا نجد الرسول "صلى الله عليه وآله" في هذا الشأن يقول: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة)، فهذا النص دليل ومرشد للمؤمن الواعي في اختيار الأصدقاء، وفي حديث آخر قال "صلى الله عليه وآله": (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، ويقول الشاعر:
واختر قرينك واصطفيه تفاخرا *** إن القرين إلى المقارن ينسب
وإنَّ خيرَ الأصحاب لصاحبه، وأنفعَ الجلساءِ إلى جليسه، من كان ذا بِرٍّ وتُقى، ومروءةٍ
ونُهى، ومكارمَ أخلاق، ومحاسنَ آداب، وجميلِ عوائد، مع صفاءِ سريرة، ونفسٍ أبية،
وهمّةٍ عالية، تكمل صفاته، ويَجل قدره حين يكونُ من أهل العلم والأدب، والفقه والحكمة،
إذْ هذه صفات الكُمّل من الأنام، الذين يأنس بهم الجليس، ويسعد بهم الصديق؛ لإخلاصهم في
المودة، وإعانتهم على النائبة، وأمْنِ جانبهم من كل غائلة، فمن وُفق لصحبة من كانت هذه
صفاته وأخلاقه، وتلك شمائله وآدابه، فذلك عُنوان سعادته، وأمارةُ توفيقه.
ويروى في ذلك عن أحدهم قال: كنت في المسجد الجامع فاغتابوا رجلاً فنهيتهم عنه فكفوا، وأخذوا في غيره ثم عادوا إليه فدخلت معهم في شيء من أمره، فرأيت تلك الليلة رجلاً أسود طويلاً ومعه طبق عليه قطعة من لحم خنزير فقال لي: كل!!! فقلت والله لا آكل لحم خنزير.. فانتهرني انتهاراً شديداً وقال: قد أكلت ما هو شراً منه!!! فجعل يدسُّه في فمي حتى استيقظتُ.. فو الله لقد مكثت أربعين يوماً ما أكلت طعاماً إلا وجدتُ طعم ذلك اللحم ونتنَه في فمي ... نسأل الله العفو والعافية.
و-التعجب والاستغراب من صدور المنكر، بأن يظهر تعجبه واستغرابه من فعلة فلان بن فلان؛ فيقول مثلاً: سبحان الله كيف أنّ عمرو مرّ بهذا الموقف المشين ولم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهنا باعث التعجب والاستغراب الغضبُ لله تعالى، ولكنّ غضبه هذا أوقعه في مهاوي الغيبة المذمومة، وبطل ثواب تعجبه وغضبه لله تعالى وصار آثماً من حيث لا يدري، وبذا فإن قوله تبارك وتعالى: (خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِم إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ينطبق عليه، فلنكن حذرين من هذا الأمر.
ز-الرحمة والشفقة، بسبب ما ابتلي به غيره من سوء، فيقول: مسكين عمرو قد غمني ما ارتكبه من القبح، أو ما حدث له من الإهانة والاستخفاف! فيكون صادقاً في شفقته ورحمته، إلا أنه لما ذكر اسمه وأظهر رسمه وأوضح عيبه صار مغتاباً، وأوقعه الشيطان من حيث لا يشعر في مزالق الغيبة؛ فبطل ثواب رحمته وشفقته.
وهذان الباعثان الأخيران ( التعجب والرحمة ) مما يغمض فهمها على الناس؛ فأكثرهم يظنون أن التعجب والاستغراب والرحمة والشفقة لله وفي سبيل الله من الموارد المرخص فيها للفرد بذكر الاسم والرسم، وهذا خطأ محض وذنب فاحش، ويروي الشيخ النراقي في كتابه جامع السعادات ج2 قصة معبرة، حيث يقول: ( أن رجلاً مر على قوم في عصر النبي "صلى الله عليه وآله" فلما جاوزهم، قال رجل منهم: إني أبغض هذا الرجل لله، فقال القوم: والله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فاخبروه به، فأتى الرجلُ رسول الله "صلى الله عليه وآله " وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه. فدعاه، وسأله عما قال في حقه فقال: نعم! قد قلت ذلك. فقال رسول الله "صلى الله عليه وآله " : " ولم تبغضه؟ " فقال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة! فقال: الرجل يا رسول الله، فاسأله هل رآني أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله، فقال: لا. فقال: والله ما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر! قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أفطرت فيه، أو أنقصت من حقه شيئاً؟ فسأله، فقال: لا! فقال: والله ما رأيته يعطى سائلاً قط ولا مسكيناً، ولا رأيته ينفق من ماله شيئاً في سبيل الخير إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر! قال: فاسأله هل رآني أنقصت منها شيئاً، أو ما كست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا! فقال رسول الله "صلى الله عليه وآله " للرجل: " قم، فلعله خير منك ") إن باعث الاستغراب والتعجب ممزوجاً بالرحمة والشفقة هو الذي دفع هذا الرجل ليعبر عن بغضه لجاره، ولكن للأسف ما كل مجتهد مصيب.
وفي ضوء ما تقدم من أسباب وبواعث للغيبة على الإنسان أن يراقب أقواله وأفعاله بحيث تكون بعيدة كل البعد عن مآثم الغيبة وقبائحها، وأن النفس كيفما تحملها تكون، فإن أطلقت لها العنان جنحت، وإن لزمته بحكمة وحنكة أفلحت.
فاعلم أخي المؤمن وتعلم أن المقترف للغيبة في خسران مبين وضلال مهين، ومن هنا فأمسك عليك لسانك واكبح جماحه، ولا تجعله يقودك حتى يكبك في النار على وجهك، وأنصحك هنا بأن تعرف معنى الغيبة جيداً، وأن تربي نفسك على اجتنابها، وهذا يحتاج إلى صبر ومراقبة للنفس الميالة إلى اللهو والشهوات والوقوع في الملذات، عصمنا الله وإياكم من هذا الذنب الكبير ...
وللحديث بقية في جزئه الثاني ... دمتم بود.