القرآن وخصائصه
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
أهمية القرآن المجيد:
القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي يُشكّل المستند لدين الإسلام العالمي والدائم، وقد ذُكرت فيه كُليّات معارف الإسلام ببيان جذاب ولذلك كانت قيمته أغلى وأهم وأرقى من كل شيء، بل لا يمكن المقايسة بينه وبين أي شيءٍ آخر من ناحية القيمة، وعلاوة على ذلك فالقرآن الكريم هو كلام الله والمعجزة المستمرة للنبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" ومستند نبوته ومصدر أصول وفروع المعارف الإسلامية كما ذكر، فالقرآن الكريم هو كلام الله تعالى الذي تنزّل على النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" من مصدر العزّة ومقام الكبرياء والعظمة ليبين سبيل السعادة لعالم الإنسانية من خلال سلسلة من المواد العلمية والعملية التي ينال الإنسان بتطبيقها سعادة الدارين.
إعجاز القرآن:
القرآن الكريم معجزة نبوّة النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" وهو حجة وبرهان ومستند يدحض حجة الخصم ويعجزه من جميع الجهات، ويسدُّ عليه السبيل أمام أي ِّ عذر أو نقاش أة اعتراض، ويثبت مقاصده بأوضح وجه وأبينه.
وجه الإعجاز اللّغوي:
من المسلّم أنّ اللغة العربية لغة قويّة وواسعة تستطيع تأدية المقاصد الباطنية للإنسان بأوضح الوجوه وأدقها، وهي في هذا المجال أكمل اللغات.
وقد ثبت تاريخياً أن عرب الجاهلية الذين كانوا في غالبيتهم من سكان الخيام، ومحرومين من المدينة ومن أكثر مزايا الحياة الاجتماعية، كانوا أصحاب البيان وبلاغة الكلام، ولا نجد لهم في صفحات التأريخ منافساً على الإطلاق.
لقد كان للكلام البليغ في ساحة الأدب العربي أعلى القيم، وكانوا يحترمون الكلام الجميل ذا المواصفات الأدبية إلى أقصى الحدود، وكما قاموا بنصب أصنامهم وآلهتهم في الكعبة، كذلك قاموا بتعليق الأشعار الرائعة لشعرائهم من الدرجة الأولى على حائط الكعبة أيضاً.
وكانوا يجيدون وبامتياز الكلام والتخاطب باللغة العربية الفصيحة رغم سعتها ودقّة قواعدها، ويراعون المحسنات الكلامية بكل اتقان وجمال، إلا أنّه ومنذ الأيام الأولى التي نزلت فيها آيات من القرآن الكريم على النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" وقرئت على الناس أحدثت ضجّة بين العرب وفرسان اللغة فيهم، ووقع بيان القرآن الجذّاب والغني بالمعاني في القلوب، وأدهش أصحاب الأفئدة بنحوٍ أنساهم كلّ كلام جميل، وأنزلوا الأشعار اللطيفة لأساتذة الأدب واللغة التي كانت معلّقة على جدار الكعبة، وكانت تُسمّى بالمعلّقات.
لقد جذب هذا الكلام الإلهي بجماله وروعته اللامتناهية كلّ القلوب، وأخرس بنظمه اللطيف كلّ الأدباء وأرباب اللغة العربية.
لكنّه كان ومن ناحية أخرى في غاية المرارة والسوء بالنسبة للمشركين وعبدة الأصنام، وذلك لأنّه قام ببيانه البليغ وحجّته القاطعة بالبرهنة على دين التوحيد والاستدلال عليه وتوهين نهج الشرك وعبادة الأصنام، التي كان الناس يدعونها بالآلهة، وكانوا يمدّون إليها يد الحاجة، ويقدّمون لها القرابين، ويعبدونها، واعتبرها تماثيل حجريّة وخشبيّة بلا روح ولا أثر أو فائدة، ودعا الأغراب المتخلّفين الذين كانت تغمرهم العزّة والكِبَر من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، والذين كانوا يبنون حياتهم على أساس سفك الدّماء وقطع الطرق، دعاهم إلى نهج عبادة الحقّ واحترام العدالة والإنسانية، ولذا فقد واجهه الأعراب بالجدال والمحاربة، ولجأوا لاستعمال أي وسيلة لإطفاء مشعل الهداية هذا، لكنّهم لم يحصدوا من سعيهم وجهودهم الفاشلة هذه سوى اليأس والفشل. وقد التقى النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" في أوائل البعثة بأحد الفصحاء واسمه الوليد، وكان من العارفين بالأدب والمشهورين بذلك، فقرأ عليه النبيّ عدة آيات من أول "حم السجدة" فأنصت إليه الوليد بكل كِبَرٍ وعزَّة، إلى أن وصل إلى هذه الآية الشريفة: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ( فما أن تلا هذه الآية حتّى تبدّل حاله واعترته الرجفة، وكاد يفقد وعيه، فاضطرب المجلس وتفرّقت الجماعة.
وجاء بعد ذلك جماعة إلى الوليد يعاتبونه على أنّه قد أذلّهم وأضعفهم أمام محمّد، فأجابهم مُقسماً بأنكم تعلمون بأنّي لا أخاف من أحد، ولا طمع لي بأحد، كما تعلمون بأنّي من أهل البلاغة، والكلام الذي سمعته من محمّد ليس شبيهاً بكلام الناس فهو كلام جذّاب يسحر القلوب، فلا يمكن تسميته بالشعر ولا بالنثر، وهو عميق المعنى وله قواعده وأصوله، وإن لم يكن مفر من الحكم على هذا الكلام فأمهلوني ثلاثة أيام لكي أفكّر . وعندما رجعوا إليه بعد ثلاثة أيام قال لهم: إنّ كلام محمّد سحر، يخدع القلوب ويتملّكها.
فقام المشركون بتسمية القرآن بالسحر بإرشاد من الوليد، وامتنعوا عن الاستماع إليه، كما منعوا الناس عن ذلك أيضاً، وعندما كان النبيّ الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" يقوم بتلاوة القرآن في المسجد الحرام أحياناً كانوا يأخذون بالصباح والتصفيق لكي لا يسمحوا للآخرين بالاستماع إليه.
ومع ما أظهره هؤلاء من جحود فقد أُخِذتْ قلوبهم بالبيان الجميل والرائع في القرآن مما جعلهم يضطربون، فكانوا يأتون في ظلام الليل ليقفوا خلف حائط بيت النبي ويستمعوا لتلاوة القرآن، ويتحادثون فيما بينهم بصوت خافت بأنّ هذا الكلام لا يمكن أن يكون كلام مخلوق، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى فقال: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) وعندما كان يقوم النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلّم" بتلاوة القرآن ودعوة الناس عند الكعبة أحياناً كان أرباب اللغة من العرب إذا أرادوا أن يمرّوا من هناك ينحنون لكي لا يُروا ولا يُعرفوا.
كما يقول الله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ).
وجوه الإعجاز المتعددة:
ويجب الالتفات في خاتمة هذا البحث إلى أن القرآن لا ينحصر إعجازه بجمال نظمه فحسب، وإنّما هو معجز أيضاً من جهة اشتماله على الحلول الصحيحة لجميع الحاجات البشرية، ومن جهة الأخبار الغيبية التي ذكرها، ومن جهة الحقائق التي بيّنها، ومن سائر الجهات التي تتجلّى في هذا الكتاب السماوي، ويعلن لجميع البشر أنّهم لن يتمكّنوا أن يأتوا بمثله.
أسلوب القرآن:
إنّ القرآن الكريم من خلال مقاصده يخاطب الناس بلغتهم التي يفهمونها ومنطقهم الفكري، دون أن يدعوهم إلى التقليد الأعمى، وينبّه الإنسان إلى مجموعة من المعارف التي يدركها بفطرته سواء شاء أم أبى، مذكّراً بأنّ الإنسان لا يستطيع الامتناع عن قبولها أو رفض الاعتراف بها.
حياة القرآن:
يقول الله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ *وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ)
القرآن الكريم يفصل بين الحق والباطل وليس كلاماً عبثيّاً لا طائل منه، والمطلب الذي يبيّنه حي وثابت إلى الأبد بالنسبة للجميع بمقدار ما يصل شعاع دلالته، وليس ككلام الناس العادي الذي يوزن من بعض الجهات التي يستطيع الفهم والفكر أن يحيط بها، بينما يغفل عن بقية الجهات ويكون ثمة طريق للإهمال إليه، بل هو كلام الله المحيط بكل ظاهر وخفي، والمطّلع على كل مصلحة ومفسدة.
لذا كان لزاماً على كل مسلم أن يفتح عين الحقيقة لديه، ليتلقى كلام الله على أنّه حيّ وثابت باستمرار من خلال تذكّره الدائم لهاتين الآيتين الشريفتين، وألا يقتنع بما فهمه الآخرون وقالوه، وإلا يغلق على نفسه طريق التفكير الحرّ الذي هو الرأسمال الوحيد والمختص بالإنسان، والذي يؤكد القرآن الكريم كل التأكيد على استخدامه، وذلك لأنّ كتاب الله قول فصل وحجة حية إلى الأبد بالنسبة للجميع، وكتاب كهذا لن يكون منحصراً بفهم جماعة معينة.
يقول الله تعالى: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
موافقة العقل والفطرة:
إنّ القرآن الكريم يريد من الناس أن يرجعوا إلى فطرتهم ليقبلوا الحق، أي أن يستعدوا أولاً لقبول الحق بلا قيد أو شرط، ويقبلوا ما يرونه حقّاً ويرون خيرهم ونفعهم فيه في الدنيا والآخرة، دون أن يضعوا للوساوس الشيطانية ولنداء الهوى والهوس.
ثم بعد ذلك يعرضوا المعارف الإسلامية على عقولهم المفكّرة، فإذا رأوها حقاً ورأوا أن مصلحتهم وسعادتهم الواقعية في قبولها وتطبيقها، فليسلّموا بها، وعندئذٍ فسوف يكون نهج الحياة الإنسانية والمبادئ التي ستطبق في المجتمع البشري قوانين وتشريعات يطلبها الإنسان بإرادته وميله الفطري.
الانسجام والتناسق:
وأخيراً فإن للقرآن منهجاً متناسقاً لتتوافق جميع أجزائه وآياته مع البناء الإنساني الخاص، ويخلو من التضاد والتناقض يشكل كامل، فهو ليس نهجاً متضاداً يستلهم من المعنويات في بعض الموارد ومن الماديات في بعضها الآخر، ويوافق العقل السليم في مورد ويتبع الهوى والهوس في مورد آخر.
يقول الله تعالى في وصف القرآن الكريم: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وفي آية أخرى يبيّن أن سبب استقامة الإسلام هي مطابقته للفطرة وخلقة الإنسان، إذ إنه غني البيان أن النهج والسبيل الذي يلبّي المتطلبات الفطرية والاحتياجات الواقعية للإنسان سوف يصنع الإنسان السعيد الذي يحقق آماله بأفضل وجه.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).
ويقول تعالى أيضاً: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
يدعو القرآن الكريم الناس إلى السبيل والنهج الواضح، ويبيّن المقصد المنشود بشكل جلي، وهذا السبيل – ولا شك – سوف يكون نهجاً يلبي المتطلبات الفطرية للإنسان التي هي نفس حاجاته الواقعية تلبية صحيحة، ويتوافق مع ما يبديه العقل السليم من نظر وذلك هو الدين الفطري المسمّى "بالإسلام" .
وأمّا النهج الذي وضع على أساس الهوى والهوس وإرضاء داعي الشهوة والغضب لدى المجتمع أو الأشخاص ذوي النفوذ فيه، وكذلك النهج الذي اتخذ من خلال تقليد أعمى للآباء والأجداد، والنهج الذي تأخذه الأمة المتخلفة والضعيفة من أمة قوية قادرة فتتقبل كل ما تجده لديها من دون نقاش أو تردد، ومن دون تطبيق له على منطق العقل السليم، فهذه السبل والمناهج ليست سوى انخراط وغرق في الظلمات ولن يكون هذا في الحقيقة سوى سيراً في طريق لا يضمن الوصول إلى المقصد والهدف على الإطلاق، كما يقول الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).