السعادة
بقلم الشيخ حسن عبدالله العجمي
السعادةُ غايةٌ يَنْشُدُها الجميعُ، إلا أن من يُدْرِكُها هم قليلون، فليست السعادةُ في كثرةِ المالِ أو الولدِ أو الوصولِ إلى المناصبِ العاليةِ أو نيلِ الجاهِ الرفيعِ عند الناس، فإنَّ السعادةَ الحاصلةَ من كلِّ ذلك هي سعادةٌ نسبيةٌ ووقتيةٌ لا أنها السعادةُ الحقيقيةُ.
إنَّ في القرآنِ الكريمِ آياتٌ تَحمِلُ في طياتِها أسرارَ السعادة وسبيلَ تحقيقها، فمن يريد أن يكون سعيداً فعليه أن يعودَ إلى كتابِ اللهِ المجيدِ، ويبحثُ فيه عن سبيلِ السعادةِ الحقَّةِ، فإن اللهَ سبحانه وتعالى جعل ارتباطاً وثيقاً بين الإيمانِ والتقوى من جهة، والسعادةِ من جهةٍ أخرى، ويبدو ذلك جليّاً من خلالِ العديدِ من الآياتِ الكريمةِ، ومنها قوله سبحانه وتعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون* لهمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الزمر : 61]
فإن مَنْ آمنَ بالله سبحانه وتعالى واتقاهُ لم يعرفْ الخوفُ والحزنُ إلى قلبه سبيلا .. وبانتفاء الخوفِ والحزنِ عن الإنسانِ تكون حياتُهُ مليئةً بالسعادةِ.
إذا فالسيرُ على جادةِ الشريعةِ الإسلاميةِ بفعل ما أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بفعلِهِ والانتهاءِ عن ما نهى سبحانه وتعالى عنه هو السبيلُ إلى تحققِ السعادةِ لدى العبدِ في الدارين، في دارِ الدنيا ودارِ الآخرة. قال اللهُ سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فأيُّ سعادةٍ أعظمُ من أن يعيشَ العبدُ حياةً طيبةً هنيئةً مملوءةً بالطمأنينةِ والاستقرار؟
إنَّ البعضَ ينساقُ وراءَ اللذائذِ المختلفةِ، فلا يتركُ لذةً إلاَّ ويقترفُها، ويظنُّ بأنه لو حصلَ على اللذائذِ كلِّها لحصل على السعادةِ التامةِ الكاملةِ، والحقُّ أنَّ مثل هذا الشخص بعيدٌ كلَّ البعدِ عن السعادةِ، فلذائذُ الدنيا متنوعةٌ ومتعددةٌ ومتغيرةُ الشكلِ والوصفِ ولكن ليست كلُّ لذةٍ فيها سعادةٌ؛ نعم، السعادةُ واللذةُ يجتمعان من جهةٍ ويفترقان من جهةٍ أخرى؛ يجتمعان في كونِ كلٍّ منهما يُدخل السرورَ على الإنسانِ، ولكنهما يفترقان، والفرقُ بينهما في أنَّ اللذةَ تذهبُ نشوتهُا فورًا بعد الانتهاءِ من سببها، وربما حصلت بعدها ندامةٌ وتعاسةٌ ما بعدها تعاسة، أما السعادةُ الحقيقيةُ فإنّها تظلُّ ملازمةً لصاحبها بعد أن سعى إليها وحققَ موجباتِها.
فالسعادةُ الحقيقيةُ إنما تتحققُ بالفوزِ بالجنةِ والنجاةِ من النارِ، قال الله سبحانه وتعالى: (كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)، فهذه الحياةُ الدنيا فانيةٌ، وسعادتهُا فانيةٌ أيضاً، ثم نرد إلى ربِّ العزةِ لنلقى السعادةَ الحقيقيةَ الدائمةَ وهي الفوزُ بالجنةِ ونيلُ رضوانِ اللهِ سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
إن الإيمانَ القويَّ والتقوى الرفيعةَ يكسبان العبدَ السعادةَ من جهةِ أنهما يمنعانه من الانزلاقِ في وحلِ المعاصي ومستنقعِ الجريمةِ التي هي من أخطرِ أسبابِ التعاسةِ والشقاءِ، فلا شيءَ يضمنُ للمرءِ أن لا تجرّهُ شهواتُه ورغباتُه إلى الموبقاتِ إذا كان إيمانُهُ وتقواه ضعيفين أو معدومين.
ومن جهة أخرى أنهما يوفران أهمَّ شرطٍ من شروطِ السعادةِ، وهو الاطمئنانُ بالخلاصِ والنجاةُ من الأزماتِ والمصاعبِ والمشاكلِ، فعندما يقعُ المرءُ في بحرِ المشاكلِ والأزماتِ لا مرساةُ للنجاةِ سوى الإيمانِ والتقوى، فمن دونِ الإيمانِ تزداد عواملُ الخوفِ والقلقِ، أما مع الإيمانِ فلا شيءَ يستحقُّ الخوفَ غيرَ مقامِ اللهِ سبحانِه وتعالى، فالمسلمُ عميقُ الإيمانِ يستهينُ بكلِّ الصعابِ، لأنه دائمُ التوكلِ على اللهِ عزّ وجل، ومن دونِ التقوى لن يجدَ الخلاصَ مما ألم به من مصائبٍ ومصاعبٍ ومشاكلٍ ومضائقٍ، فهذا القرآنُ الكريمُ يخبرنا أن أن التقوى سببٌ في النجاة من كل ذلك، قال الله سبحانه وتعالى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)، وعن النبي الأكرمِ صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : «لو أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رتقاً على عبدٍ ثم اتقى الله ، لجعل اللهُ له منهما مخرجا» .