الطَّريق السَّريع لهجران المعاصي والآثام
الشيخ حسن هلال
خلقنا ذو العزَّة والجلالة والكمال عبيدًا بين يديه، وخطَّ لنا طرق الكمال والاستقامة، منعِمًا علينا بالحجج الظَّاهرة من الأنبياء والمعصومين "عليهم أفضل الصَّلاة والسَّلام"، والحجج الباطنة، ويمثلِّها العقل.
فلا مناص من أنْ نكون في مسيرنا للاستقامة مشتبهين مرَّة، ومذنبين، ومتجرِّئين تارة أخرى – والعياذ بالله -، ولهذا تجد أنَّه مَن يخرج عن هذا الطَّريق قد يخرج إلى جادَّة المنافقين، وقد يخرج آخرون إلى جادَّة الجاحدين، و...إلخ، من الطُّرق الكثيرة التي يشتبه العبد بينها وبين طريق الاستقامة، هذا إذا لم يكن على دراية ومعرفة بما يختاره.
وكما ورد عن سادتنا المعصومين "عليهم السلام" أنَّ المهم بعد ذلك الرُّجوع والنَّدم على ما فات والإنابة للقويِّ العزيز (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، كما ورد عن سيد الموحدين "عليه السلام" في معنى التوبة (وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله تعالى كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي) نهج البلاغة ص549 قصار الحكم رقم 417، وفي سير العبد بمسلك التَّوبة تتعدَّد أمامه كثير من الطُّرق، وربما اختار بعضها ولم يوفَّق، وترك أخرى وسقط، إلَّا أنْ يجد في قرارة نفسه أنَّ هذا الطَّريق شائك وصعب المنال، ولكن وكما نعلم أنَّه – وبعون الله تعالى وتوفيقاته – من أيسر الغايات إذا أراد العبد ذلك.
وبهذه الأسطر القليلة سوف نتعرَّف على بعض الطُّرق التي تعتبر في الحقيقة رئيسة، وذلك لما لها من الأثر البالغ في ترك الذُّنوب، وهجران المعاصي حيث تتوحَّد كلُّ هذه الطُّرق في أنَّها توجِّه ذات الإنسان، وعقله، وروحه، فالعبد في طريق الاستقامة يتأرجح بين طاعته لله وبين معصيته – والعياذ بالله تعالى -، وقد يجد الكثير صعوبة في الثَّبات على الطَّريق السَّوي مع معرفته بالواجبات، ومع وضوح المحرَّمات لديه كما جاء في دعاء أبي حمزة الثُّمالي: (وغلبني هواي، وأعانتني عليها شقوتي، وغرَّني سترك المرخى عليّ).
الطَّريق الأوَّل: حبُّ الله تعالى
لا شكَّ أنَّ هذا الطَّريق يعتبر من أعبد الطُّرق، وأسلكها، فلو التفتنا إلى مدى تأثير علاقة الحبِّ والمودَّة على المحبِّ، ففي الكافي والعياشي عن الصَّادق "عليه السَّلام": هل الدِّين إلا الحبّ، ثمَّ تلا هذه الآية الكريمة: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فقد ورد في تفسير هذه الآية، "فقال: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ أي: إنْ كنتم صادقين في دعوى محبّة الله فَاتَّبِعُونِي فيما أمرتكم ونهيتكم.
والمحبَّة عبارة عن ميل الَّنفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقرِّبها إلى ذلك الشيء.
والعبد إذا علم أنَّ الكمال الحقيقيَّ ليس إلّا لله، وأنَّ كلَّ ما يراه كمالًا من نفسه، أو غيره، فهو من الله، وبالله، وإلى الله لم يكن حبُّه إلّا لله، وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرَّغبة فيما يقرِّبه إليه، فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطَّاعة، وجعلت مستلزمة لاتِّباع الرَّسول في عبادته، والحرص على مطاوعته".
ولهذا قال أحد الشُّعراء:
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبُّك صادقًا لأطعته إنَّ المحبَّ لِمَن يحبُّ مطيع
وفي الواقع نرى هذا الانقياد بين الحبيب والمحبِّ بشكل واسع وجليٍّ في حياة الإنسان اليوميَّة، فأكثر علاقات الأرحام قائمة على هذا المنوال، ويرتسم غالبًا في طاعة الوالدين، واجتماعيَّا ينخرط الفرد في الجمعيَّات والمؤسَّسات، وكلّ ذاك الانخراط قائم على الحبِّ لتلك الشَّخصيَّة، أو الميل العاطفيِّ لبعض الأفكار، أو الحبّ لنفسه كما في كثير من الأحيان.
والسُّؤال البديهي، والذي يطرح نفسه: مَن الأولى أنْ يحبَّه الإنسان؟ نفسه، ماله، أمَّه، صاحبه أم خالقه وموجِده؟
والجواب البديهي – أيضًا -: إنَّ الأحقَّ والأولى بالحبِّ هو الموجِد والمبدِع والمنعِم هو الله القدير جلَّت عظمته، إلا أنَّ الكثير في الواقع يعملون خلاف ذلك، فالنَّفس مقدمة في ميادين كثيرة، فيعمل وفق محبَّته لذاته، فتصبح حتى العبادات لديه التي نأتمر بها للباري (عزَّ وجلَّ) وفق أهواء النَّفس وتبجيل شأنها – وقِس على ذلك كثير -، فعندما يتَّجه الإنسان لحبِّ نفسه يرى كثيرًا من الطَّاعات والخيرات صعبه المنال، وتحبِّب إليه نفسه بعض المكروهات، بل حتَّى المحرَّمات، فلا يرى استئناسًا حتَّى في صلاته، فتراه ميَّالًا لبعض الذُّنوب، وهو يعلم أثرها، وشدّة حرمتها، بل ويريد في بعض المراحل أنْ يهجرها، فيبقى في صراع طويل في ظلِّ محبَّة النَّفس، والنَّتيجة قلَّما تكون لصالح هذا العبد.
ولو أردنا تعريفًا للمحبَّة (فهي عبارةٌ عن ميل النَّفس إلى الملائم؛ لتستفيد من هذا الحبِّ؛ لنيل كمال ما تستلذ به).
* الطَّريق لحبِّ الله تعالى
ذِكر الحبيب: كلُّ حبيب تراه مولع بذكر حبيبه، وقلَّما تجد لسانه، أو قلبه ناسيًا لذكره، والذِّكر لله في الحقيقة يحتاج نفسه إلى قلب يسعه، وتوفيق من المذكور (عزَّ شأنه، وأكبر ذِكرًا)، وأقواه حينما يقف العبد قِبال عتبات المعصية، ويتراجع عنها.
نعم فهذا الرُّجوع يمثِّل في الحقيقة رجوعًا لله تعالى، وإنابة إليه، وذكرًا ما بعده ذِكر، ونحن محتاجون للإكثار من هذا الذِّكر، ولعلَّه المراد ممَّا جاء به رسول (صلَّى الله عليه وآله): (من تواضع لله رفعه، ومَن تكبَّر وضعه الله، ومَن أكثر ذِكر الله أحبَّه الله).
وهذا الذِّكر الذي أوردناه ما هو إلَّا نقطه بداية في مسيرة العبد في سبيل لقاء الحبيب، حتَّى يوفق للأذكار الواردة عن الأئمَّة المعصومين "عليهم السَّلام"، فهم السرج المضيئة؛ لأحبَّاء الله وأودَّائه. وتتَّضح هذه النَّكتة من الحديث القدسيِّ الذي أخبرنا به رسول الله "صلَّى الله عليه وآله وسلَّم" كما جاء في الكافي: (لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنَّوافل حتَّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به . .) بعد هذا الحبِّ وشدَّة القرب إلى المولى (عزَّ وجلَّ) من البعيد جدًّا أنْ يرتكب العبد ذنبًا أو يقترف معصيةً، فهنيئًا لأحبَّاء الله سبحانه.
ونتائج هذا الحبِّ واضح وجليّ إذ ورد في بعض الأخبار: (إذا أحبَّ الله عبدًا جعل له واعظًا من نفسه، وزاجرًا من قلبه يأمره وينهاه)، فلا يحتاج إلى مرشد خارجيٍّ ليبعده عن تلك الذُّنوب التي يخشاها، أو تلك المعاصي التي اعتاد عليها، وبهذا صار بعيدًا عن شِباك الغفلة، فيرى أنَّ قلبه أصبح عونًا له ينهاه حتى تراه مستوحشًا من أنْ يجلس مع الملوَّثين بالذُّنوب، ويفرُّ منهم خوفًا من براثن المعاصي، فيتحوَّل هذا الحبُّ إلى وقاية تعزل الإنسان عن طريق الغيِّ والفساد، وكلُّ ذلك نتيجة لذِكر الله تعالى وحبِّه.
وقد يُشْكِل أحدهم على أنَّ معرفة الله هي من الطُّرق الكافية لترك الذُّنوب، والعلَّة التَّامة لهجرانها ويجاب عليه بأنَّه ليس كلّ مَن عَرَف الله ووحَّده، وَوَصل إلى المراتب العالية في المعرفة لا يكون ذلك مانعًا له عن معصية الله، ألا ترى قول الله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا…)، ولو سلَّمنا أنَّ المعرفة لها أثر كبير في طاعة المولى إلا أنَّها ليست علَّه تامَّة.
الطَّريق الثَّاني: إرادة الإنسان للتَّغيير
الإنسان في عبوديَّته لله "عزَّ وجلَّ" يشعر بأنَّه مقصرًا في طاعته كما يشعر برغبته في إصلاح ما أفسده، وتبييض صفحته التي ازداد سوادها، فيقف الإنسان طالبًا العون الإلهيَّ بالدَّعاء والرَّجاء من الله للبعد عن تلك الذُّنوب، فيمّده ربَّ العزَّة واللُّطف برحمةٍ منه، ولكن تراه سرعان ما يعود لذنبه المعهود . . . لماذا؟ هل تغيَّر خط ونهج هذا العبد؟ أم ماذا؟
نعم لعلَّ الكثير منَّا فاته التَّأمُّل في الآية المباركة (… إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ…)، فالآية الشَّريفة تضع لنا هذه القاعدة العريضة؛ لتوجيه بوصلة هذا العبد إلى السَّعادة، أو الشَّقاوة عبر عجلة الثَّوْرَة التَّغيريَّة في نفس الإنسان وداخله.
فالإنسان في الحقيقة تحرِّكه محرِّكات كثيرة لأفعاله وسلوكيَّاته، ولكن الحركات والسُّلوكيَّات والطبائع النَّاتجة عن الإرادة الدَّاخليَّة في الإنسان هي المتَّصفة بالدَّوام والاستمرار، وقد أسماه صاحب الأمثل بـ(القانون العام) حيث ذَكَر أنَّ الآية المزبورة قد جاءت في موردين متفاوتين في القرآن (وإنَّها قانون عام وقانون حاسم ومنذر، هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الأساسيَّة لعلم الاجتماع الإسلاميِّ، يقول لنا: إنَّما يصيبكم هو من عند أنفسكم، وما أصاب القوم من السَّعادة والشَّقاء هو ممَّا عملت أيديهم، وما يقال من الحظِّ والصُّدْفة، وما يحتمله المنجِّمون ليس له أساس من الصِّحَّة … حتَّى اللُّطف الإلهيّ، أو العقاب لا يكون إلا بمقدمه).
إذًا لا مناص أنَّ القنطرة التي لا بدَّ للمذنب والعاصي والمقصِّر الذي يريد العودة لله أنْ يبدأ بنفسه ويغيِّر تفاصيل وجزئيَّات هذه النَّفس، ويبدّل رغباتها وتحرُّكاتها، وذلك في الحقيقة محتاج إلى التَّخلية والتَّحلية في سبيل الوصول إلى نتيجة في الواقع.
ولعلَّنا نستلهم هذا التَّغيير المطلوب من لدن أبي عبد الله الصَّادق "عليه السَّلام" حينما قال: (إنَّ أبي كان يقول: إنَّ الله قضى قضاء حتمًا لا ينعم على عبد نعمةٍ فيسلبها إيَّاه قبل أنْ يحدث العبد ذنبًا يستوجب بذلك الذَّنب سلب تلك النِّعمة، وذلك قول الله: [… إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ…].
أمَّا صاحب الميزان في صدد بيان هذه الآية ذكر أنَّه (من الممكن أنْ يستفاد من الآية العموم وهو أنَّ بين حالات الإنسان النَّفسيَّة، وبين الأوضاع الخارجيَّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشَّر، فلو كان القوم على الإيمان والطَّاعة وشكر النِّعمة عمَّهم الله بنعمه الظَّاهرة والباطنة، ودام ذلك عليهم حتَّى يغيِّروا، فيكفروا، ويفسقوا، فيغيَّر الله نعمه نقمًا، ودام ذلك حتَّى يغيروا …).
الطَّريق الثَّالث: استشعار مراقبه الله تعالى وحججهِ
* مقام استشعار المراقبة الإلهيَّة
هذا الطَّريق في الحقيقة واضح المعالم في تأثيره على سلوك الإنسان وعوده إلى طريق الهداية والرَّشاد، فشعور أيِّ مسلم ولو على نحو بسيط عند البعض بأنَّ عين الله تعالى ناظرة إليه، وحتَّى أولائك الملوثين بالمعاصي والذُّنوب الكبيرة لديهم نصيب وحظٌّ لا بأس به، فمثلًا يمنعهم استشعارهم هذا من التَّعدِّي على مقدَّسات الله، بل ويوجب هذا الاستشعار البسيط احتراما لأولياء الله بإحساسهم بالعلاقة التي تربطهم بالله تعالى.
إذًا هذا الاستشعار مفهوم مشكِّك في الواقع العملي، فالبعض يحافظ على درجة عالية من الاستشعار بوجود الله ومراقبته لعمله، والبعض الآخر ملوَّث ببعض المعاصي التي جعلت من غفلته طاغية على هذا الشُّعور اللَّطيف لدى العبد.
ولو دقَّقنا وركَّزنا النَّظر في استشعار المراقبة الإلهية بشكل غير متقطع بلحظات الغفلة التي أدخلتنا في شبهاتها لما تجرَّأنا على معصية الله ومخالفة أحكامه.
ويمكن القول: بأنَّ الاستشعار لدى كلِّ النَّاس بشكل عام إلا أنَّ الاختلاف يكمن في نوع المراقبة، فالمتيقِّنين يستشعرون عين الله تعالى، ورضا الله بحكم إيمانهم وبالذَّات الذين وصلوا لمراتب عالية حيث لا يغفلون ولو لحظات عن وجود الله ولطفه، فقلوبهم منيرة بوجود الله وعظمته، عملًا بالحديث الذي ورد عن صادق الأئمَّة "عليهم السَّلام": (القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله) ، أمَّا المراؤون والمنافقون يستشعرون عين الخلق، وقد ينزل أولئك العصاة أعداء الله إلى استشعار شياطينهم – والعياذ بالله سبحانه -.
ويتمحور هذا الطَّريق بأنَّ العبد يقف قبل أنْ يغور في فعل، أو قول، أو سكون متحسِّسًا بأنَّه يقف في ساحة قدس الله وجبروته وعظمته، وعين الله ناظرة إليه، وأنَّ حسناته وسيئاته متمثَّلة أمام عين خالقة وبارئه تعالى، فلو كان عمله متَّصفًا بالمخالفة لله تعالى يمكن بهذا الشُّعور-وبحسب قوَّته – أنْي يُردد الإنسان، فيتراجع ويختار ترك التجرؤ على أمر الله ونهيه، وهكذا لو كان العمل متَّصفًا بالموافقة لأوامر الله سيقدم عليه متقرِّبًا إلى النَّاظر الحسيب جلَّت عظمته.
ومفهوم هذا الاستشعار ورد في القرآن المجيد، وفي أحاديث وأدبيات أهل البيت "عليهم الصَّلاة والسَّلام"، فقد جاء في سورة العلق: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) بعد أنْ تقدَّمت هذه الآيات (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، فالمؤمن الحقيقيُّ يعتبر العالم كلَّه حاضرًا عند الله تعالى، وإنَّ كلَّ الأعمال تتمُّ في محضره، وينبغي لهذا الحضور الإلهيِّ أنْ يكون رادعًا وكافيًا للخجل والكفِّ عن المعاصي والذنوب، كما جاء عن أهل البيت"(عليهم السلام": (اعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك)، فالحديث الشَّريف يوضِّح بأنَّ العبد لا بدَّ أنْ بنظر لجهتين في عبوديَّته لله تعالى: الجهة الأولى: أنَّ عبادته، ومعاملاته، وأعماله يجب أنْ تكون متَّجهة ومتقرِّب بها للنَّاظر الأوَّل وهو الله "عزَّ وجلَّ" باعتباره هو القابل والمثيب لهذا العمل.
وتأتي الجهة الثَّانية، وهي التي تنصبُّ في أنَّه تعالى يقينًا يراك، ويسمعك.
* مقام استشعار مراقبة حجج الله سبحانه
وهذا المقام لا ينفصل عن المقام الأوَّل، ويمتاز هذا المقام بأنَّ بصمته واضحة على صفحات وجوه المؤمنين، كيف لا وقد تجلَّى في حجج الله عين الله، وحكمته ما ورد عن أمير المؤمنين "عليه السلام" أنَّه قال: (أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله)، وليتَّضح هذا المعنى من مراقبة أولياء الله المعصومين "عليهم السَّلام" من خلال ما ورد عن الإمام الرِّضا "عليه السَّلام": (أما علمت أنَّا معاشر الأئمَّة تُعرض علينا أعمال شيعتنا صباحًا ومساء، فما كان من التَّقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصَّفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا الله الشُّكر لصاحبه).
وعن الإمام الحجَّة المنتظر "عجل الله تعالى فرجه"، فهو يرى أعمالنا، وسلوكنا، وعلاقاتنا، فإنْ كانت في الجانب السَّليم، فهي التي تَسْعد وتبشر الإمام، وهنا تنشأ العلاقة الوطيدة بين هذا العبد والإمام الغائب الحاضر، حيث ترى العبد دائم الذِّكر له، وبالخصوص هذا الذِّكر العملي في الواقع، فالإمام "عج" ينظر إلى أعمال الشِّيعة، وخواصه، ويسرّ من حسناتهم، ويغضب من سيئاتهم، ويعيِّن وكلاءه العامة بالدُّعاء والإرشاد، والتَّصرُّف في قلوبهم، ويشرف على أحوال الشِّيعة، فإذا اتَّصلوا إليه بالدُّعاء للفَرَج والتَّوسُّل والاستشفاع به أقبل عليهم، ويدعو لهم، ويطلب من الله أنْ يقضي حوائجهم، وقد ورد في توقيعه "عليه السَّلام" إلى الشَّيخ المفيد "رضي الله عنه": (إنَّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء).
الطَّريق الرَّابع: التَّوسُّل بالمعصومين، وأولياء الله الصَّالحين "عليهم السَّلام)"
والتَّوسُّل ذابت فيه الفرقة النَّاجية؛ كونه الطَّريق الذي دلَّ عليه الله في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فلا بدَّ أنَّ لهذا الطَّريق القدرة على الهداية والاسترشاد، والنَّجاة من الذُّنوب وآثارها الوخيمة على الإنسان، باعتبار أنَّ التَّوسُّل وما يعني من الاستعانة بوسيلة للتَّقرُّب إلى الله، وطلب الحوائج، أكان هذا التَّوسُّل بأسماء الله وصفاته، أو التَّوسُّل بالقرآن الكريم، أو التَّوسُّل بالأعمال الصَّالحة، أو التَّوسُّل بدعاء الأخ المؤمن، ولكن كيف إذا كان هذا التَّوسُّل للتَّخلُّص من الأدران القلبيَّة، والتَّوسل بالرَّسول "صلَّى الله عليه وآله"، وأهل بيته "صلوات الله عليهم أجمعين"؛ ليوفِّق الإنسان من هجران أسباب المعاصي ومقدماتها.
فمن البعيد أنْ يترك الله هذا العبد الذي لجأ لوليِّه، ولجأ في الحقيقة إليه بعد هذا التَّوسُّل، فنحن على علم بأنَّ دعاء الأئمَّة المعصومين "عليهم السَّلام"، بل ودعاء المتَّقين من عباد الله مستجاب ولا يردُّه الله سبحانه، وهذا ما ثبت عمليًّا لدى الكثير من الصُّلحاء والمؤمنين، وهذه النَّتيجة طبيعيَّة، لأنَّ المتوسِّل بهم هم الأقرباء لله تعالى، هم العالمون بالله، والعارفون به، هم الطَّاهرون قلبًا وقالبًا.
الطَّريق الخامس: استذكار الموت
(وكفى بالموت واعظًا…)، نعم إنَّه حديث عظيم، وكلام نستطيع أنْ نقف عليه، ويتمُّ به مرادنا؛ كونه يحمل المعنى البليغ، والبيان العميق لتأثير هذا الطَّريق على صفحة العبد بشكل سريع وشديد، وهذا ما نستوحيه من كلمات الرَّسول الأعظم "صلَّى الله عليه وآله" حيث كان كثيرًا ما يوصي أصحابه بذِكر الموت، فيقول: (أكثروا ذِكْر الموت، فإنَّه هادم اللَّذات، حائل بينكم وبين الشَّهوات…).
وطريق استذكار الموت، وأثره العمليّ الكبير يوقَّف المتأمِّل لمعرفة خبايا هذا الطَّريق في نفس الإنسان، ففي الحقيقة تتفاوت نظراتنا للموت في نواحٍ شتَّى، ولكن تتَّفق تلك النَّظرات في أنَّ الموت يكبح شهوات الإنسان، ويهدم لذاته، ويستوقفه في محطَّات تفكُّر وتمعُّن لعظمة هذا الرَّحيل ومفصليَّته.
فمنا مَن ينظر إلى الموت بأنَّه نهاية له، وفناء لملذَّاته، ومحطَّة فقدان لخيرات هذه الدُّنيا ولحظاتها المختلفة، فيستوقفه الموت – إنْ استوقفه -؛ ليقيس فوائده وخسائره نسبة بهذا الرَّحيل المحتَّم، فهو وإنْ كان يعتقد في قرارة نفسه أنَّ موته ورحيله بعيد لطول أمله إلَّا أنَّ صورة المقابر ولحظات الوداع لأقاربه تستوقفه بقوَّة؛ لتطرق أفكاره لعلَّها تكون طريق نجاة له من ذنوبه التي أثقلت ظهره.
ومنَّا مَن ينظر للموت بأنَّه ميعاد للحساب، فيتفكَّر في سجلِّ أعماله، ويغوص في تاريخ أقواله، فتارة تطمئنه نفسه بأنَّه في الخطِّ السَّليم، وتارة يتغلَّب عليها، ويحسم حسابه في صالح الأرباح، وتقليل الخسائر، فتراه مائلًا عن طريق الآثام متوجِّها لسعادته ورشاده.
ومنَّا مَن ينظر إلى أنَّ الموت بداية له، وشروع في سعادته، ومحطَّة تغيُّر في نفسه، فهو وإنْ كان في خوف الحساب، وهول المطلع عند الرَّقيب الحسيب إلَّا أنَّه دائمًا ما يفحص كتابه وجهوزيَّته لهذا اليوم، فيسد ثغرات المعاصي، ويحصِّن نفسه بالأذكار، ويتقرَّب إلى الله زُلفى.
وكلُّ النَّظرات تلك وأصحابها يشتركون في النَّتيجة التي يصلون إليها من نظرهم للموت بأنَّ ذِكر الموت يصبح طريقًا سالكًا للبعد عن المعاصي، ودافعًا وواقيًا عنها، كما يصبح سببًا للمراتب العالية بين العباد المقرَّبين لعمله الصَّالحات، وبناءه قلبًا سليمًا بين جوانبه إلَّا أنَّ الاختلاف في مستوى النَّتيجة طبيعيَّة بين أصحاب النَّظرات، وذلك وفق مقدار استذكارهم للموت، ومانعيَّة الغفلة لديهم.
فإنَّ أهل الدُّنيا وبسبب اشتغالهم بنعيم الدُّنيا الزَّائلة قد غفلوا عن نعيم وجنان الآخرة الباقية، فأصبح حب الدنيا ونعيمها عازل عن العمل وفق المرحلة القادمة التي يؤكِّدها الموت، لذلك فإنَّ ذِكر الموت أكَّدت عليه الروايات الشريفة لأهل البيت "عليهم السَّلام" لا سيما أمير المؤمنين "عليه السَّلام"، فقد تكرَّر في محطَّات مختلفة قوله "عليه السَّلام": (مَن أكثر من ذكر الموت…)، وعقَّبه بجواب شرط مختلف اشترك في المعنى: (…، قلت في الدُّنيا رغبته)، و(…، رضا من الدُّنيا بالكفاف)، و(…، يهون أسباب الدُّنيا)، والمعنى الإجمالي بأنَّ العبد من خلال استذكاره للموت يستطيع أنْ يقتل الغفلة في أعماقه، ويعرف حقيقة هذه الدُّنيا الزَّائفة، فلا تصبح الدُّنيا هدفًا له ومغنمًا، وإنَّما قنطرة يعبرها.
سائلين المولى أنْ يتطَّلف علينا، نحن المذنبين الغارقين برحمته، ويخرج حبُّ الدُّنيا من قلوبنا، ويحشرنا مع المتَّقين الأبرار بجاه النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وآله"، وآل بيته الأطَّهار "عليهم السَّلام".