التواضع
بقلم: الشيخ حسن عبد الله العجمي
من القيم الأخلاقية التي أشادت بها الشريعة الإسلامية كتاباً وسنّةً التواضع، ويعرّف التواضع بأنّه احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع والتعالي عليهم، أو هو الانكسار النفسي الذي لا يرى معه الإنسان نفسه بأنّه أعلى من الآخرين، فيتحرّكُ تجاه الآخرين من موقع الاحترام والتعظيم لهم بكلماته وأفعاله، وناهيك في فضله أنّ الله سبحانه وتعالى أمر به نبيّه الأكرمَ محمداً "صلى الله عليه وآله" فقال سبحانه وتعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215)، فقوله سبحانه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) كناية عن التواضع المقرون بالمحبّة والحنان، كحال الطائر الذي يفتح جناحيه ويضمُّ إليه فراخه إظهاراً للمحبّة وبدافع الحنان لصونهم من الأخطار المحتملة وحفظهم من التفرّق، فإنَّ النبي "صلى الله عليه وآله" مأمورٌ بأن يتحرّك من هذا الموقعِ ليحفظ المؤمنين تحت جناحيْه وظلِّه.
وعندما يؤمر نبيُّ الإسلام بالتواضع وإظهار المحبّة للمؤمنين فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي أن يعيشوا حالةَ التواضع مع بعضهم البعض؛ لأنّ النبي "صلى الله عليه وآله" يعتبر قدوةً وأسوةً لجميع أفراد الأمّة الإسلامية.. فلقد كان صلوات الله وسلامه عليه أشدَّ الناس تواضعاً؛ يحلبُ شاته، ويرقعُ ثوبه، ويخصفُ نعله، ويواكلُ المساكين، وكان يبدأُ من لقيه بالسلام، ويجلسُ بين أصحابه فلا يتميّزُ عليهم في مجلسه، فعن أبي ذر الغفاري "رضي الله عنه" قال: (كان رسول الله "صلى الله عليه وآله" يجلس بين ظهراني أصحابِهِ فيجيءُ الغريب فلا يدري أيَّهُم هو حتى يسألْ، فطلبنا أن يجعل مجلسا يعرفُهُ الغريبُ إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلسُ عليه ونجلسُ بجانبه) (ميزان الحكمة ج4 ص 3226).
ومما روي في تواضعه "صلى الله عليه وآله" أنّه كان في سفر مع بعض أصحابه (فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليَّ ذبحها، وقال آخر: عليَّ سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقال "صلى الله عليه وآله": وعليَّ جمعُ الحطب، فقالوا: يا رسولَ الله نحن نكفيك، فقال "صلى الله عليه وآله": قد علمت أنّكم تكفونني ولكن أكره أن أتميّزَ عليكم، فإنَّ اللهَ يكرهُ من عبده أن يراه متميّزاً بين أصحابه، وقام وجمعَ الحطب) (أخلاق أهل البيت صفحة 38 عن سفينة البحار ج1 ص 415).
وقد ذكر اللهُ سبحانه وتعالى التواضع في جملة صفات عباده المؤمنين الذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبةٍ عاليةٍ من الكمال الإنساني فقال سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63)، فأوّل صفة ذكرها سبحانه وتعالى لهؤلاء هي صفة التواضع الأمر الذي يدل على أنّ التواضع يمثل أهمَّ الفضائل والقيمِ الأخلاقية في واقعِ الإنسانِ وحركته الاجتماعية والمعنوية.
ففي قوله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) ينفي سبحانه عنهم كلَّ نوع من أنواع السلوكيات الناتجة من حالة التكبر السلبية، وذكرت الآية المشي كنموذج للدلالة على وجود التواضع لدى هذه الثلة من عباده الله كملكة نفسانية لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان وحركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.
وأثر عن النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" أنّه قال: (التواضعُ لا يزيد العبد إلاّ رفعةً، فتواضعوا يرفعُكُم الله) (ميزان الحكمة ج4 ص 3558).
فهذا الحديث النبوي الشريف يردُّ على تصوّر خاطئ لدى بعض الأشخاص، فإنّهم يتصوّرون أنّ التواضع يحط من قيمة الإنسان المتواضع، ويجعل من الآخرين أن ينظروا إليه نظرةَ استصغار، والحقُّ هو العكس تماماً، فإنّ الأشخاص المتواضعين يحضون بالاحترام الكبير من قبل الآخرين، ولا يزيدهم تواضعهم إلاّ رفعةً وعزّةً ومحبّةً في قلوب النّاس، ويحترمهم الجميعُ لأخلاقهم الطيبة الحسنة، فالإنسان الذي يسعى إلى التحلّي بالتواضع بصورته الصحيحة – أي يكون تواضعه في الموارد التي تحبّذ الشريعة الإسلامية التواضع فيها- فإنَّ احترامه سيزداد عند الناس، وسيزيده الله سبحانه وتعالى رفعةً ومنزلةً في نفوسهم.
ونقل أنّ النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" قال لأصحابه يوماً: (مالي لا أرى عليكم حلاوةَ العبادة؟ قالوا: وما حلاوةُ العبادةُ؟ قال: التواضع) (ميزان الحكمة ج4 ص 3554).
فحقيقة العبادة هي غاية الخضوع والتذلل أمام الحق سبحانه وتعالى، فالشخص الذي ذاق حلاوة الخضوع والتواضع مقابل الذات الإلهية المقدّسة، فإنّه سيتحلّى بالتواضع مع الخلق.
ومما روي عن النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" في الترغيب في التواضع والحث عليه أنّه قال: (إن أحبَّكم وأقربَكم مني يومَ القيامةِ مجلساً أحسنُكُم خلقاً، وأشدُّكُم تواضعاً ..) (ميزان الحكمة ج1 ص 800)، فالمتواضعُ من أحبِّ النّاسِ إلى رسول الله "صلى الله عليه وآله" ومن كان محبوباً لرسول الله "صلى الله عليه وآله" فهو محبوبٌ لله عزّ وجل، وكذلك المتواضع ُيكونُ من أقربِ الناسِ منه "صلى الله عليه وآله" يومَ القيامة.