التوبة هدم وبناء
الشيخ عبد الحسين العكري
كل إنسان منّا يجد من نفسه أنّه غير معصوم عن الزّلل والوقوع في الخطأ، وأنّه يمكن أنْ يقع في الخطايا إذا لم نقل أنّ الكثير منّا قد وقع في الخطأ ويريد أنْ يصحّح خطأه، فحينئذ هو أمام خيارين، فالخيار الأول أنّه يجد الباب مفتوحًا حتى يرجع إلى طريق الصواب والرشد.
والخيار الثاني أنْ يجد الباب مغلقًا أمامه، فيحصل عنده الإحباط واليأس من نيل عفو الله ورحمته وغفرانه، فربّما أدّى الأمر أنْ يستمرّ في غيّه وخطئه؛ لذلك جاءت الرّحمة الإلهيّة لتفتح الأمل، ولتفتح بابًا من أبواب لطفه وعطفه، إنّه باب التوبة والإنابة؛ ليرجع العبد الآبق إلى مولاه، ويرجع الإنسان المذنب إلى رشده، وإلى الطريق المستقيم.
والتوبة في الاصطلاح الدّيني هي الرّجوع إلى الصراط المستقيم بعد الانحراف عنه وهو عكس الإصرار على الذّنب، وللتوبة دعائم جسّدتها كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (التوبة ندم بالقلب، واستغفار باللّسان، والعزم على أنْ لا يعود).
هذه الكلمة لربما هي أفضل وأكمل بيان جامع وبليغ لحقيقة ومفهوم التوبة ودعائمها.
والتّوبة يا إخواني، باب من الأبواب التي فتحها الله لعباده المذنبين والمقصّرين كما جاء في دعاء زين العابدين (عليه السلام) حيث قال: (إلهي أنت الذي فتحت لبادك بابًا إلى عفوك سمّيته التوبة..) (مناجاة التائبين)، فالتوبة باب مفتوح ليلاً ونهارًا، وهي ملجأ ومأوى لعباده الفارّين من واقعهم المنحرف، وهي باب للضائعين والمذنبين؛ ليدخلوه متى ما أرادوا بمجرد أنْ تكون عندهم الرّغبة والنيّة الصادقة والخالصة للطهارة من الدّنس، والخطايا، والتخلص من واقعهم الضّال.
ولقد رد في القرآن الكريم (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة:222.
وفي موضع ثانٍ منه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) الشورى: 25.
كما جاء في الحديث الشريف عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): (ليس شيء أحبّ إلى الله تعالى من مؤمن تائب، أو مؤمنة نائبة).
وقد ترجم لنا الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث له الحبَّ الإلهيّ للتائب، وصوّره على شكل فرحة جيّاشة يلقى الله بها التائبين من عباده: (إنّ الله تعالى أشدّ فرحًا بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده من ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحًا بتوبة عبده من ذلك الرّجل براحلته حين وجدها).
كما جاء في الأثر عنهم (عليهم السلام): (إنّ التائب حبيب الله)، و(أنّ التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له).
يقال أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج يومًا من شهر ذي القعدة، فقال (صلّى الله عليه وآله): (يا أيّها النّاس مَن كان منكم يريد التوبة؟، قلنا: كلّنا نريد التوبة يا رسول الله، فقال (صلّى الله عليه وآله): اغتسلوا وتوضّؤوا، وصلّوا أربع ركعات، واقرؤوا في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة (وقل هو الله أحد) ثلاث مرّات، والمعوّذتين مرّة، ثمّ استغفروا سبعين مرّة، ثم اختموا بلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ثم قولوا: يا عزيز يا غفّار، اغفر لي ذنوبي، وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلا أنت، ثم قال (صلّى الله عليه وآله): ما من عبد من أمتي فعل هذا إلا نودي من السماء يا عبد الله، استأنف العمل، فإنّك مقبول التوبة مغفور الذنب).
وفي نهاية الحديث أشير إلى البرنامج العمليّ للتّائب حتى يقال أنّه تائب حقيقة حيث جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ردّ على رجل قال بحضرته: (أستغفر الله) قائلاً له: ثكلتك أمّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ:
أولاً: النّدم على ما مضى.
ثانيًا: العزم على ترك العود إليه أبدًا.
ثالثًا: أنْ تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عزّ وجلّ وأنت أملس ليس عليك تَبِعة.
رابعًا: أنْ تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.
خامسًا: أنْ تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السحت، فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.
سادسًا: أنْ تذيق جسمك ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: "أستغفر الله".