الإسراف
بقلم: الشيخ حسن عبدالله العجمي
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) والإسرافُ مأخوذٌ من السرفِ، وهو مجاوزةُ الحدِّ، وحديثنا هنا سيكون حولَ الإسرافِ في الجانبِ المالي، والإسرافُ في الجانبِ المالي يكونُ في جانبين؛ في الجانبِ التملكي والجانبِ الاستهلاكي، والمرادُ بالإسرافِ في الجانبِ التملكي إسرافُ الإنسانِ في جمعِ الأموالِ واكتنازِها، فالشريعةُ الإسلاميةُ لا تنهى عن جمعِ المالِ وادّخارِهِ إذا تم اكتسابُهُ من الحلالِ، وأخرَجَ صاحبُهُ منه الحقوقَ الشرعيةَ والضرائبَ الماليةَ التي فرضها اللهُ سبحانه وتعالى على المالِ وفقَ الضوابطِ والشروطِ المحددةِ، ولم يشغُلْهُ جمعُ المالِ والسعيُ للحصولِ عليه عن القيامِ بواجباتِهِ العباديةِ وأداءِ الفرائضِ الإلهيةِ، ولم يفضِ إلى تقصيرِهِ في أداءِ المسؤوليةِ التي عليه تجاه أسرتِهِ وأرحامِهِ، ولم يولد عندهُ خَصْلَةَ التكبرِ والتعالي والترفعِ على الفقراءِ واحتقارِهم وازدرائِهم، وأما إذا كان جمعُ الإنسانِ للمالِ وادّخارِهِ واكتنازِهِ قد وصل إلى حدِّ الإسرافِ فيه بحيث كان همَّهُ الكبير وشغلَهُ الشاغل فإنّه مذمومٌ شرعاً خصوصاً إذا كان اكتسابُهُ والحصولُ عليه من الطرقِ المحرمةِ غيرِ الشرعيةِ كالربا والقمارِ والغشِّ والاعتداءِ على أموالِ الناسِ بالغصبِ والسرقةِ أو كان سعيُهُ لكسبِ المالِ سبباً في تفويتِهِ لأداء الفرائضِ الإلهيةِ أو التقصيرِ في حقوقِ أسرتِهِ وأرحامِهِ.
والمرادُ بالإسرافِ في الجانبِ الاستهلاكي هو الخروجُ عن الاعتدالِ والقصدِ في المعيشةِ سواء في جوانبِ الأكلِ والشربِ أم في الملبسِ والمسكنِ، ومن أمثلته أيضاً الإسرافُ في استهلاكِ الثرواتِ الطبيعيةِ استهلاكاً جائراً.
وأمّا إذا وصل الأمرُ إلى اتلافِ الشيءِ وتضييعِهِ كأن يُهيئُ طعامُ عشرةِ أشخاصٍ لشخصين بحيث يتمُّ رميُ الزائدِ في المزابلِ فإن هذا هو التبذيرُ المنهيُّ عنه في الشريعةِ الإسلامية، ولقد وصف القرآنُ الكريمُ المبذرينَ بأنهم إخوانُ الشياطينِ، فقال الحقُّ سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
إنَّ الشريعةَ الإسلاميةِ عندما نهت عن الإسرافِ وذمتِ المسرفينَ فهي لم تردْ أن يعيشَ الإنسانُ الفقرَ وعدمَ التزينِ والتجملِ في هذه الحياةِ الدنيا، ولم تُردْ التضييقَ عليه في التمتعِ بنعمِ الله سبحانه وتعالى، وإنما أرادت أن يستفيد من هذه النعمِ استفادةً مثلى بقدر حاجتِهِ دون أن يَخُرجَ عن حدِّ الاعتدالِ، فإن خرجَ عن حدّ الاعتدالِ في الصرفِ على شؤونهِ وأمورهِ الحياتيةِ كان ذلك إسرافاً أو تبذيراً.. فمظاهرُ الإسرافِ والتبذيرِ عند الناسِ في مجتمعاتِنا عديدةٌ، ومنها الإسرافُ في استهلاكِ الماءِ، فالماءُ نعمةٌ من نعمِ اللهِ سبحانه وتعالى وهو شريانُ الحياةِ، فيلزمُ الاقتصادُ في استهلاكِهِ والاستفادةُ من هذه النعمةِ بقَدَرِ الحاجةِ فقط، أما هدرُ الماءِ زائداً عن الحاجةِ فهو مذمومٌ، ويعد من الإسرافِ والتبذيرِ المحرّمِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، ومن مظاهرِ الإسرافِ أيضاً استهلاكُ الطاقةِ الكهربائيةِ زائداً عن الحاجة، فالبعضُ يستخدمُ الكهرباءَ بدونِ ترشيدٍ، فمثلاً يتركُ الإنارةَ مفتوحةً في الأماكنِ التي لا تحتاجُ إلى إنارةٍ، وكذلك يتركُ بعضَ الأجهزةِ الكهربائيةِ المنزليةِ تعملُ دون الحاجةِ إلى عملِها، وكلُّ ذلك إسرافٌ بل إنَّ المالَ الذي يدفعُهُ المرءُ للجهةِ المزودّةِ للكهرباءِ والذي هو في قبالِ الاستهلاكِ الزائدِ عن الحاجةِ يعدُّ تبذيراً للمال لأنّه صرفٌ للمالِ في غيرِ وجهِهِ الصحيحِ، وكذلك من مصاديق الإسرافِ والتبذيرِ ما يحصلُ في الأعراسِ من إعدادِ الطعامِ الكثيرِ بحيث أنّهُ يزيدُ مقدارٌ كبيرٌ منه ويرمى في المزابل، فالمالُ الذي بيدِ الإنسانِ هو مالُ اللهِ سبحانه وتعالى، والإنسانُ مخولٌ فيه بالتصرّفِ فقط لإقامةِ شؤونِ حياتِهِ المختلفةِ من مأكلٍ ومشربٍ ومسكنٍ ومركبٍ وغيرِ ذلك من الأمورِ التي يحتاجها لإقامةِ حياتِهِ، ولكن بشرطِ القصدِ وهو عدمُ الخروجِ عن حالةِ الاعتدالِ، اعتدالٌ في الصرفِ وتحكيمُ العقلِ والموازينِ الشرعيةِ في عمليةِ الانفاقِ على احتياجاتِهِ وشؤونِهِ الضروريةِ والكماليةِ، لأنّه مسؤولٌ عن هذا المالِ من جهتين؛ من جهةِ كسبِهِ هل اكتسبَهُ من الحلالِ والطرقِ الشرعيةِ التي أحلَّ وأجازَ الشرعُ الشريفُ كسبَ المالِ منها أم اكتسبَهُ من الحرام .. من الطرقِ التي حرّمت الشريعةُ الإسلاميةُ كسبَ المالِ منها.. ثم يُسألُ من جهةٍ أخرى عن صرفِهِ للمالِ هل صرفهُ في الحلالِ والأمورِ المباحةِ والجائزةِ شرعاً أم فيما حرّم اللهُ سبحانه وتعالى، فعن النبي الأكرمِ "صلى الله عليه وآله" أنّه قال: (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)