الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله سبحانه وتعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
مقدمة:
يعيش الإنسان في الحياة الدنيا مسيرةَ كدحٍ للوصول إلى الله سبحانه وتعالى ، فهو غير خالد في هذه الدنيا ، وإنما يعيش مدة سرعان ما تنقضي ، وينتقل إلى عالم الخلود والبقاء، فإما إلى خلود في نعيم الله الأبدي وجنّته ، وإما إلى شقاء إلى ما شاء الله لذا فالمطلوب من الإنسان في هذه الحياة هو العمل الجاد والدؤوب من أجل الله سبحانه والابتعاد عن كلّ ما يوجبُ سخطه وغضبه تعالى ، ولما كان الإنسان اجتماعيّا ً بطبعه أو بحاجته – إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش إلاّ في إطار المجتمع وضمن مسيرة جماعية – فهو مؤثر ومتأثر، فاعل ومنفعل، وبالتالي دفعاً لكلّ تخبّط بين مصالح البشر، ودفعاً للصراع المادي والاستئثار بالخير، أنزل الله سبحانه وتعالى شريعة السماء لتكون سبيلاً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ووضع وسائل متعددة تضمن للإنسان باُتّباعها، وإمكانية العمل وفق قوانين الشريعة، والموضوع يتطرق إلى أمور عديدة أبرزها:
أولاً: عوامل ضبط الإنسان:
1) الدافع الذاتي: وذلك بأن جعل الله سبحانه وتعالى الثواب والعقاب. فالجنه لمن أطاعه والنار لمن عصاه، ورغّب وأنذر، ووصف نتيجة الخير ومآله والجنان وما فيها من نعيم وأنهار وحور وريحان، وذكر الشرَّ ونتيجته النار وما تحمله في طياتها من آلام وعذابات.
كل ذلك ليدفع الإنسان ويجعل له دافعاً ذاتياً لعمل المعروف وترك المنكر، فالنفس إذا شُوّقت لعمل شيءٍ فإنّها تنبعث نحوه، كالطفل عندما نشوّقه لعمل ما بأن نعده بجائزةٍ، فإنه ينبعث نحو ذلك الشيء بشكل كبير، وكذلك العكس، فالنفس إذا ما هُدّدت ورهّبت ووعدت بالعذاب عن عمل شيءٍ فإنها ترتدع عنه.
ولكن يبقى الدافع الذاتي غير فاعلٍ بشكلٍ كامل، لما يصاب به الإنسان من ظلمة ورين في القلب، خصوصاً إذا كان الوعد والوعيد أمراً غيبياً كما هو حال في جزاء الأعمال وعقابها. فما وُعد به إنما هو ليومٍ لم نشهده، ولم نحضره، وليس البشر بتلك القوة الإيمانية التي تجعلهم ينظرون إلى الحقائق بعين الواقع.
ومع وجود الشيطان وقدراته وتزيينه للإنسان حبّ فعل الشر، ومع ضعف الإنسان أمام عامل الشهوات وحبّ الخير للنفس، يجعل من العامل الذاتي أو الدافع الذاتي غير مؤثر تأثيراً كبيراً إلاّ عند من حصل على درجات الإيمان وترقّى في مراتب الكمال.
2) العامل القانوني: لتنظيم شؤون الحياة وللوصول إلى المجتمع الفاضل الذي أراده الله سبحانه للبشرية؛ لتعيشَ في نعيم الطاعة، وتبتعد عن شقاء المعصية وتعاستها.
فقد وضع الله مجموعة من القوانين تنظم شؤون الحياة ، سواء على مستوى علاقة الإنسان مع نفسه أم مع المجتمع ، أو مع الله سبحانه وتعالى ، وجعل عقوبات كفيلة بأن تردع العصاة والمنشقّين عن الطاعة ، فالحدود والديات والكفارات وغيرها من العقوبات المفروضة على الإنسان في حالة ارتكابه جريمة معينة ليست إلاّ عوامل أساسية ومهمة لردع الإنسان من الإخلال بنظام المجتمع من ناحية ، ومن الأخلال بعلاقته مع الله من ناحية أخرى ، ورغم ما لهذه الشرائع والأحكام من آثار كبيرة في حفظ الإنسان ودفعه نحو العمل وفق ما أراده الله له وردعه عن ارتكاب الذنوب والموبقات. إلاّ أنها تبقى – أيضاً – غير فاعلة لوحدها بشكل كبير، وذلك لأن تطبيقاتها لا يمكن أن تتمّ إلاّ بظروف معينة، وقدرة الإنسان على التحايل على القانون لا يمكن الاستهانة بها، فالإنسان لا يرتكب المخالفات المرورية – مثلاً – عندما يكون الرقيب متابعاً وملاحظاً له، أمام إذا غفلت عين الرقيب وشرطي السير فسرعان ما نلاحظ التجاوزات والمخالفات المرورية بشكلٍ واضحٍ عند الكثير من الناس، إلاّ الذين يكون الوازع الذاتي لديهم قوياً.
3) العامل الاجتماعي: لمّا كان الوازعان الذاتي والقانوني غير كافيين في مجال دفع الإنسان نحو الخير وردعه عن الشر، كان لا بدّ من وجود دافع آخر تكون له القوة الكبيرة جداً في تنظيم هذه العملية ، وهذا الدافع هو المجتمع ، فعندما يكون المجتمع متبنياً لفكرة دفع الإنسان نحو الخير وردعه عن الشرّ، فإننا نلاحظ أن التوجّه العام يكون نحو العمل على الخير والابتعاد عن الشرّ، وهذا ما يصطلح عليه في المفهوم القرآني (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ وهذا العامل له التأثير الكبير جداً على الإنسان ، وهو أقوى من بقية العوامل في جانب الردع عن المعصية على أقل التقادير ، إن لم يكن له القوة الأكبر في جانب فعل الخير أو المعروف حسب المصطلح القرآني ، باعتبار أن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن بقية البشر فهو في احتكاك دائم معهم في أكثر ممارساته ، وبالتالي فإنّ رقابة المجتمع تكون أوسع وأشمل من رقابة القانون ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أقوى من رقابة الذات ، لأن الإنسان يكون حينئذ عرضة لعقوبة المجتمع المتمثلة بالقطيعة وعدم الانسجام.
لذلك نلاحظ أن كثيراً من المجتمعات ، بل وحتى مجتمعاتنا – ومع الأسف الشديد – يكون للعادات والتقاليد تأثير أكبر من تأثير الدين ، فقانون (العيب) أقوى من قانون (الحرام) فالإنسان عندما يرتكب عملاً شائناً ، ويلاحظ أنه أينما التفت هناك من يقول له: (لا تفعل كذا فإنه عيب) فهو يحاول قدر المستطاع أن يتجنّب إثارة حفيظة المجتمع لما لعقوبته من تأثير كبير ، بينما نراه ينغمس بالذنوب دون خجل وحياء من خالقه ، بل نلاحظ أن كثيراً من المحرّمات تصبح من الأمور السهلة والهينة ؛ باعتبار أن يد قانون (العيب) لا يطالها بينما هناك ذنوب أخفّ لا يرتكبها الإنسان ؛ باعتبار أن قانون العيب يقف أمامه حاجزاً دون الوصول إليها ، فمثلاً الغيبة التي اعتبرتها الروايات الكثيرة من أشدّ الذنوب وأعظمها ، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال لأبي ذر: (يا أبا ذر إيّاك والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزنا) – نلاحظ أنها متفشية بشكل كبير في المجتمع، بل وحتى في أوساط المتدينين، فلا نستكثر أن نلاحظ إنساناً يستغيب أمامنا، ولا نعتبر بأنه عملٌ يستحق به المقاطعة أو الاستنكار بالوسائل المختلفة، ولا نلاحظ أننا نستنقص أي إنسان يرتكب هذا العمل، بينما لو زنى فإن الدنيا تقوم ولا تقعد لارتكابه هذا الفعل ، وسبب ذلك أن المجتمع والعرف استصغر ذلك الذنب العظيم واستهول الذنب الآخر ، بينما في قانون الله ، ربما تكون عقوبة الغيبة أشدّ وأعظم ، والربا الذي وردت فيه عن النبي (ص): ((درهم ربا أعظم من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام)) .
هل إننا ننظر إلى المرابي فيما بيننا بهذه الصورة القبيحة أم أنه من الأشخاص المحترمين وأصحاب رؤوس الأموال الذين لهم ثقلهم في المجتمع وكلمتهم، وهكذا في بقية المحرمات.
ثانياً: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ المجتمع:
ومن هنا تنبع أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبارها من أهم الفرائض التي فرضها الله على عباده؛ لما لها من دور كبير في حفظ الفرد والمجتمع من الانحراف، ودفعه نحو جادة الحقّ وسبيل السلام، فالمجتمع عندما يقوم بهذه الوظيفة الشرعية، هذه الوظيفة الإلهية، فإنه يكون بذلك حافظاً لنفسه من الوقوع في الانحرافات، وحافظاً لأفراده ورادعاً لهم من الوقوع في الانحراف، لذا ورد فيه كثير من النصوص القرآنية التي تدعو إلى هذه الفريضة الإلهية، وكثير من الروايات التي تبين أهميته ودوره في سعادة الإنسان. فقد ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر).
وعلى هذا الأساس نلاحظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن اعتباره فريضة إلهية فحسب، بل يمكن اعتباره مهمة اجتماعية لها دورها الكبير والفاعل في نمو المجتمع ورقيّه ، والابتعاد به عن كلّ ما هو موجب لانحطاطه وتأخره ، فهو عامل مهم جداً لإقامة الفرائض التي تبني العلاقة بين الإنسان وخالقه ، ونحن نعلم ما لهذه العلاقة من أثرٍ كبيرٍ في حفظ الإنسان وسكون نفسه، وبالتالي عندما يكون أفراد المجتمع لا يعيشون حالة القلق النفسي الناجمة عن الإعراض عن ذكر الله تعالى فإنه يكون مجتمعاً منتجاً فاعلاً: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) .
وهو عامل مهم جداً في حفظ النظام الاقتصادي للمجتمع. فالمجتمع الذي يسوده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن يقع في المظالم الناجمة عن سوء توزيع الثروة وأكل الأموال بالباطل ، فالمرابي والمخادع والمحتكر والمختلس لا يجدون لهم مكاناً في مجتمع كله آذان صاغية وألسن ناطقة ترشد وتدل على الخير ، وهذا عامل مهم جداً في حفظ حقوق الناس دون الحاجة إلى الرجوع إلى قوة القانون والقضاء ، فما من مظلوم إلاّ ويجد المجتمع يقف إلى صفه مدافعاً عنه مطالباً بحقوقه ، وما من ظالم إلاّ ويجد أنه سوف لا يقف خصماً لفرد واحد ، بل لكلّ إنسان يعمرُ قلبه الإيمان وتحركه النخوة والحمية الدينية لإنصاف المظلوم ، فيجد أنه لا يستطيع أن يقف قبال المجتمع.
هل يمكن أن نتصور حالة الاضطراب والفتن والمحن التي تعيشها الإنسانية منذ خلقتها في مجتمعٍ تعمر قلوب أبنائه المحبة والتعاون والتكافل الاجتماعي والاقتصادي، وهل يمكن أن نتصور مجتمعاً بهذه الصفات يعيش حالة من التخلف الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التمايز الطبقي غير المبني على أسس صحيحة. إنه سوف يكون مجتمعاً منتجاً متعاضداً له قوته، وآثاره الواضحة في عمارة الأرض وإحياء الموات.
ثالثاً: هل أن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختصة بمجموعة دون أخرى:
لعل من الأخطاء الشائعة التي أحد أسبابها يرجع إلى انعدام وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي حصر هذه الفريضة الإلهية العظيمة بصنف معين من الناس دون غيرهم، كأن نحصرها برجال الدين مثلاً، أو نعتبرها من اختصاصات الحاكم دون المحكوم، فهذا التصور خاطئ.
إذ أن هذه الفريضة إنما شرّعها الله سبحانه وتعالى لجميع أفراد المجتمع، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، حاكمهم ومحكومهم، انطلاقاً من المفهوم الإسلامي الذي خطّه الإسلام منذ أن وضع لبناته الأولى لبناء المجتمع الصالح، هذا المفهوم الذي يجسّد حالة الاندماج الكامل بين أفراد المجتمع في تحمّل عبء المسؤولية: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
نعم ربما تتفاوت درجات المسؤولية من شخص إلى آخر ، فالحاكم الذي يملك الوسائل الرادعة والأجهزة الكثيرة التي تستطيع بسطَ العدل وحفظ النظام لا شك وأن مسؤوليته أكبر من الإنسان العادي ، والعالم المطّلع على أحكام الله والحلال والحرام تكون مسؤولية أكبر من الإنسان العادي ، والمثقف الذي يمتلك مواهب وذهنية منفتحة ومعرفة بالخطأ والصواب تكون مسؤوليته أكبر من الإنسان العامي البسيط ، ولكن هذا كله لا يعني سقوط هذه المسؤولية عن أحدٍ ، بل إن جميع أفراد المجتمع مسؤولون عن هذه الفريضة ومسؤولون عن تطبيقها ، وإلاً فإنهم يكونون معرضين للسخط الإلهي بشكل عام.
نعم، هناك بعض الاستثناءات التي يذكرها الفقهاء، منها: معرفة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يؤثر في الشخص الذي يريد أن نمارس معه هذه المهمة، أو فيما لو جرّ إلى ضرر أكبر من نفس العملية.
* الآثار الناجمة عن ترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من خلال الرواية التي تقدم ذكرها عن الإمام الباقر عليه السلام ، نلاحظ أن ترك هذه الوظيفة الشرعية المهمة لا بدّ وأن يأتي بالنتائج العكسية، فعندما يتخلى الإنسان والمجتمع عن هذه الوظيفة الشرعية، لا بدّ وأن تضعف عملية إقامة الفرائض وتضيع المذاهب، وتحرم المكاسب، وتزيد المظالم، وتفسد الأرض ، ويضيع الإنصاف، وتمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، ولو لاحظنا الأجواء التي نعيشها والاتجاه الذي يسير عليه العالم ، لوجدنا أن أحد أسباب تخلف البشرية هو عدم الائتمار بالمعروف وعدم التناهي عن المنكر ، فالإنسان عندما لا يجد من يردعه عن الشرّ ولا من يهديه إلى طريق الخير ، فلا شك أنه سوف ينحرف ، خصوصاً مع ما نعرف من تعرّض الإنسان لعاملين هدّامين أساسيين (الشيطان ، وهوى النفس). وبالتالي مع وجود هذه القوة الكبيرة من الأعداء، ومع عدم وجود حاجز رادعٍ يقف أمام هذه القوى، فلا بدّ وأن يعيش الإنسان حالة الانهزام أمام هذين العدوين، ومتى ما كان الفرد فاسداً فلا بدّ وأن يؤدي ذلك إلى فساد المجتمع وإلى تغيّره نحو الأسوأ.
روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" قال: (قال النبي "ص" كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر: فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرٌّ من ذلك: كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً).
نعم، عندما يترك المجتمع هذه الأمانة الإلهية فلا بدّ وأن يتعرّض لهذه الأمراض الخطيرة، ولا بدّ أن تفسدَ النساء، ولا بدّ أن يفسقَ الشباب؛ باعتبار عدم وجود الرادع الذي يردع الإنسان عن الوقوع في الحرام.
فالشاب الذي لا يجدُ من ينصحه ويهديه ويرشده إلى طريق الخير ، لا بدّ وأن يقع في الفساد والشهوات ، ولما لا يجدُ من يردعه أو يقف بوجهه ، فإنه سوف ينغمس بالشهوات والملذات ، وهو ما وقع به كثير من شبابنا فانغمسوا في الملذات والشهوات وارتموا بأحضان السموم القاتلة ، التي انتشرت في العالم انتشاراً ينبئ عن حلول كارثة كبرى بالبشرية جمعاء ، ولا بدّ أن تفسدَ النساء ، فالمرأة التي لا تجدُ من يقف حاجزاً بينها وبين الحرام – المرأة التي كرّمها الله سبحانه وتعالى فجعل الجنة تحت أقدامها لكونها أماً تربي الأجيال – لا بدّ وأن تفسق عندما يغضّ المجتمع النظر عن جميع تصرفاتها.
وفي هذه الرواية دروس جميلة لا بدّ أن نستفيد منها ، ومن هذه الدروس تعجب المسلمين لحصول هذه الأمور ، وهذا دليل على أن المجتمعات التي سبقتنا كانت تعي وتفهم أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لذا تعجبوا من حصول هذا الشيء ، وتعجبوا أن يمرّ وقت على المسلمين وهم يتركون هذه الوظيفة الإلهية ، ثم ينبئُهم الرسول بما هو شرّ من ذلك ، وهو التردّي إلى الهاوية والزيادة في التسافل ، وذلك عندما يتحول المجتمع من مجتمع يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى مجتمع يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف ، ثم يتسافل أكثر عندما يتحول الأمر إلى حالة الاقتناع بأن المعروف هو المنكر والمنكر هو المعروف ، وما ذلك إلاّ لتحكّم المنكر في نفوس الناس ، بحيث يصبح أمراً متعارفاً ، والمعروف مأخوذة من العرف ، ويصبح المعروف في نظرهم أمراً منكراً ، وحينما نلاحظ ما عليه العالم اليوم ، نجد أننا قد وصلنا إلى هذه المرحلة التي أخبر بها رسول الله "ص" ، فما أكثر المعروف الذي أصبح منكراً – وربما نلاحظ أن بعض المجتمعات لا زالت بعيدة عن هذه الحالة – فالأعمّ الأغلب في العالم اليوم ينظرون إلى المعروف وكأنه منكر ، فالتدين رجعية وتخلف ، والحجاب عقد وقهر للمرأة بعد أن حافظ الحجاب على المرأة بشكل كبير ، وكان له الدور الكبير في حفظ المجتمعات من تفشّي الزنا الموجب لتفشي كثير من الأمراض الاجتماعية والصحية ، وأصبح التاجر النظيف الذي يحاول أن يحصل على المال بطريق الحلال إنساناً لا يعرف التجارة ولا يعرف التعامل.
وبعد أن كان عمار وأويس والمقداد مثال الشاب المؤمن الذي يسير الشباب المؤمنون على خطاهم ودربهم، أصبح مايكل جاكسون وأضرابه القدوة في كل شيء، ولو أردنا أن نعدد المساوئ والأمراض الاجتماعية التي تفشّت في مجتمعاتنا لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات.
فحري بنا أن نعود إلى قيمنا ومُثلنا التي عندما كنا متمسكين بها كنا سادة العالم والمنار الذي تتطلع إليه أبصار العالم، وتهتدي به الأمم الغارقة في بحر الجهل والضلالة، وأن نعود إلى الثقافة الأصلية، إلى الدين، الذي يدعو إلى التفكر والتدبر والعلم والتقدم والرقي(*).
____________________
(*) المصدر كتاب "دروس من الإسلام" للسيد علي الحكيم.