حقوق الوالدين على الأبناء
بقلم: الشيخ حسن عبد الله العجمي
لقد جعلت الشريعة الإسلامية للوالدين حقوقاً على الأبناء، وبالإمكان إدراج جميع هذه الحقوق تحت مفهوم "الاحسان" الذي أشارت إليه آيات عديدة من كتاب الله سبحانه وتعالى وهي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقوله عزّ من قائل: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وقوله : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وقد بين الإمام الصادق "عليه السلام" في حديث له المراد من الإحسان للوالدين، فقال: (الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين ...).
إذاً فالمراد بالإحسان هو أن يحسن الأبناء إلى الوالدين، ويشمل ذلك كل أنواع الإحسان ولا يختص بأمر معين، فكل ما يعدّ إحساناً فهو مما ينبغي فعله للوالدين، ومن ذلك أن يتعامل الأبناء مع والدين بالأخلاق الحسنة الفاضلة، فلا يؤذونهما بأي نوع من أنواع الأذية لا قولاً ولا فعلاً، فإن ذلك محرمٌ يلحق فاعله الإثم ويكون سبباً لاستحقاق عذاب الله الأليم، فهو من العقوق الذي هو من كبائر الذنوب.
ففي الرواية عن نبينا الأكرم "صلى الله عليه وآله": (من أحزن والديه فقد عقّهما).
ومصاديق أذية الوالدين المحرّمة كثيرة نذكر منها: أن ينهر الابن والديه بأن يزجرهما رافعاً صوته عليهما، فهذا التصرف فيه أذية لهما، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه في قوله: (... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، فقد يحصل أحياناً أن الولد يريد أن يناقش أحد والديه في بعض آرائه التي يرى الولد حسب نظره عدم صحتها، وهذا لا مانع منه شرعاً بشرط أن يراعي أدب النقاش والحوار معهما من الهدوء وعدم رفع الصوت فوق صوتهما، دون أن يستخدم الألفاظ والكلمات الخشنة، وأشد أذية من نهرهما أن يعتدي على والديه بالضرب فهذا أكثر جرماً وأشد عذاباً وهو من أشد أنواع العقوق للوالدين، بل إن الشريعة الإسلامية تنهى الأبناء عن النظر إلى الوالدين نظرة بغض وكراهية، ففي الرواية عن الإمام الصادق "عليه السلام" أنه قال: (من نظر إلى أبويه نظرة ماقت لهما وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة)، فإذا كان مجرد النظر ببغض وكراهية للوالدين مع ظلمهما لابنهما يعد مانعاً من قبول صلاته فإنه في حالة عدم ظلمهما له أو في حالة نهره وزجره لهما أو الاعتداء عليهما بالضرب فمن باب أولى أن لا تقبل له صلاة، وأما نظره إليهما حبّاً لهما فإنه عبادة يستحق عليها الثواب من الله سبحانه وتعالى، ففي الحديث عن النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" أنّه قال: (نظر الولد إلى والديه حبّاً لهما عبادة).
ومن مصاديق الإحسان إلى الوالدين أيضاً وجبوب الإنفاق عليهما في حالة عسرهما وعدم توفر المال لديهما، فمن الحقوق الواجبة على الأبناء للوالدين أن يدفعوا لهما النفقة اللائقة بحالهما.
والشريعة الإسلامية لم تخص الوالدين المسلمين بوجوب برِّ وإحسان الأبناء لهما، وإنّما أوجبت برّهما والإحسان إليهما وإن كانا كافرين مشركين، فعن الإمام محمد بن علي الباقر "عليه السلام" قال: (ثلاث لم يجعل الله عزّ وجل لأحد فيهنَّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين) (الكافي ج2 ص 168).
وعن جابر قال: (سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله "عليه السلام" : إن لي أبوين مخالفين، فقال: برّهما كما تبر المسلمين ممن يتولاّنا) (الكافي ج2 ص 168).
الأم أجدر بالإحسان:
ومع أن الشريعة الإسلامية قد أمرت الأبناء بالإحسان إلى كلا الوالدين إلاّ أنها خصت الأم بمزيد من البر والإحسان، وذلك لفضلها الكبير على الأبناء من حملها لهم تسعة أشهر في بطنها مع معاناتها من آلام الحمل وأوجاع الولادة والسهر ليلاً عندما ينهض طفلها من نومه لإرضاعه ومحاولة تنويمه مرة أخرى، ولما تعيشه من أذى نفسي عندما يمرض أبناؤها لكل ذلك وغيره من الجميل الذي قدمته لأبنائها مما لم يقدمه مخلوق آخر لهم كانت أحق ببرهم وإحسانهم. ففي صحيحة هشام بن سالم عن الإمام الصادق "عليه السلام" أنه قال: (جاء رجل الى النبي محمد "صلى الله عليه وآله" فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك) (الكافي ج2 ص 166).
ويتأكد ويتشدد الأمر بالإحسان إلى الوالدين إذا وصلا إلى مرحلة متقدمة من السن لأنّهما في هذه المرحلة يحتاجان إلى الرعاية والعناية والإحسان من قبل الأبناء بشكل أكبر وأكثر لضعفهما وعدم إمكانهما القيام بقضاء الكثير من حوائجهما، فلذلك يلزم الأبناء أن يقفوا معهما ويجبروا ضعفهما، ولأنّهما في حالة الشيخوخة والكبر يكونان أكثر تأثراً ببعض أفعال وأقوال الأبناء فتولد عندهما انزعاجاً وأذى قد يكون في بعض حالاته شديداً عليهما لذلك أمر الله سبحانه وتعالى الأبناء بالكف عن كل ما من شأنه أن يولد عندهما شيئاً من ذلك فقال سبحانه وتعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء : 23-24).
برُّ الوالدين لا يقتصر على حياتهما:
ويتصوّر بعض الأبناء أن برَّ الوالدين مقتصرٌ على حياتهما فقط فلا يجب على الأبناء برُّ الوالدين والإحسانُ إليهما بعد وفاتهما، والحق أن ذلك واجبٌ في حياتهما وبعد وفاتهما فعن الإمام الصادق "عليه السّلام" عن آبائه "عليهم السّلام"، قال: قال رسول الله "صلّى الله عليه وآله": (سيّدُ الأبرار يوم القيامة رجلٌ بَرَّ والديه بعد موتهما).
وعنه "عليه السّلام" أنّه قال: (ما يمنع الرجلَ منكم أن يبرّ والدَيه حيَّين أو ميّتين، يُصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صَنَع لهما وله مِثلُ ذلك، فيزيده اللهُ ببرّه وصلاته خيراً كثيراً) (بحار الأنوار ج74 ص 46).
ولقد ورد في بعض الرّوايات أن بعض الأبناء ممن كانوا بارّين بوالديهم في حياتهم يصبحون عاقّين لهم بعد مماتهم، وذلك لعدم قيامهم ببعض الحقوق التي عليهم لوالديهم؛ كعدم قضاء ما عليهم من دين، وترك الاستغفار لهم، وأن بعض الأبناء ممن كانوا عاقّين لوالديهم في حياتهم يكتبون عند الله سبحانه وتعالى بارّين بهم لقيامهم بقضاء الدّين عنهم وطلب العفو والمغفرة من الله لهم، وعمل بعض الأعمال الصالحة وإهداء ثوابها لهم، فعن الإمام الباقر "عليه السلام" قال: (إنّ العبد لَيكون بارّاً بوالدَيه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يَقْضي عنهما دَينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقاً؛ وإنّه لَيكون عاقّاً في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دَينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله بارّاً) (بحار الأنوار ج74 ص 56).
حدود طاعة الأبناء للوالدين:
إن من المسائل المهمة التي تطرح عند الحديث عن علاقة الأبناء بالوالدين مسألة حدود طاعة الأبناء للوالدين فيما يطلبانه من الأبناء أو يأمرانهم به أو ينهيانهم عنه، وذلك في غير ما إذا أمرا بترك واجب أو فعل محرّم فإنّه لا طاعة لهما في ذلك لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما في غير ذلك فهل يجب على الأبناء طاعة الوالدين طاعة مطلقة أم أن لطاعتهما حدود.
إن وجوب الطاعة للوالدين على أبنائهم إنما يكون في خصوص ما يعرف بالأوامر الإشفاقية، فلو أمر الأب أو الأم ابنهما أمراً سببه شفقتهما وخوفهما عليه فلا يجوز له مخالفتهما، ومثال ذلك ما لو منعاه من السفر إلى مكان ما شفقة عليه فإنه لا يجوز له مخالفتهما. أما في غير الأوامر الإشفاقية كأن يمنعاه من عملٍ لا لشيءٍ سوى عدم رغبتهما بذلك الشيء فتجوز مخالفتهما. ومثال ذلك ما لو طلب أحد الوالدين من ابنه أن يطلق زوجته فلا تجب عليه طاعته في ذلك، أو لو اختار الولد فتاة ليتزوج بها وكانت مقبولة لديه من ناحية دينها وأخلاقها ومستواها الفكري والتعليمي وكذلك من جهة شرفها ونسبها ورفض أحد والديه زواجه منها لمجرد عدم رغبته في زواج ابنه منها لسبب آخر غير الشفقة بل لأنه مثلاً لا يريد أن يتزوج ابنه من العائلة الفلانية أو من ابنة فلان أو فلانه فإنه لا يجب شرعاً على الولد أن ينصاع إلى هذا الرفض وله أن يتزوج من هذه الفتاة. نعم من كمال الإيمان الطاعة للوالدين في كل أوامرهما ما لم يكن فيه معصية للخالق.
من ثمار الإحسان للوالدين:
إن من ثمار وآثار الإحسان إلى الوالدين والبرّ بهما أن الله سبحانه وتعالى يدفع عن البارّ بوالديه والمحسن لهما الفقر، ويخفف عنه سكرات الموت، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام" قال: (من أحبّ أن يخفف الله عزّ وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبداً)، ويخفف عليه الحساب، فيحاسبه الله سبحانه وتعالى يوم القيامة حساباً يسيراً، فعن النبي المصطفى "صلى الله عليه وآله" : (برُّ الوالدين وصلة الرحم تهوّنان الحساب) (بحار الأنوار ج84 ص 85).
وأعظم ثمرة لبرِّ الوالدين والإحسان إليهما أن ذلك من موجبات الدخول إلى الجنة والتنعم فيها، ففي صحيحة عبد الله بن المغيرة عن الإمام الكاظم عن جدّه النبي الأعظم "صلى الله عليه وآله" أنّه قال: (كن بارّاً واقتصر على الجنة، وإن كنت عاقّاً [فظاً] فاقتصر على النار) (الكافي ج2 ص 348).