العدل ميزان للأحكام الشرعية
بقلم: حسين الخشن
الإسلام والعدل:
العدل عنوان كبير يختصر كل تعاليم السماء، ويلخص أهداف الرسل والأنبياء، ويظهر هدفية الحياة والدنيا، ويحقق الخير للإنسان، لأنّه يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الأمور في مواضعها، والله سبحانه هو العدل الحكيم وأمر بالعدل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، وأرسل رسله لتحقيق العدل بين الناس: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25)، وأراد يوم القيامة يوماً للجزاء وإقامة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه وانتصار المظلوم على ظالمه، وأراد لكل من يتولى حكم الناس أن يحكم بالعدل: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58). وهكذا نجد أنّ العدل يتحرك في كل الخطوط العامة للشريعة الإسلامية وينفذ منها إلى كل التفاصيل، فعلى مستوى النظام القضائي، نجد تعاليم صارمة في كيفية تعاطي القاضي مع المتحاكمين، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين "عليه السلام" : (من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر وفي المجلس) (الوسائل الباب 3 من أبواب آداب القاضي الحديث 1)، وقد أعطانا أمير المؤمنين "عليه السلام" المثل الأعلى في هذا الباب عندما وقف مع يهودي أو نصراني أمام قاضيه شريح ليتحاكما في درع سرقه اليهودي من الإمام، ولما كان الدرع في يد اليهودي فقد طلب القاضي من الإمام بينته على أنّ الدرع له انطلاقاً من القانون الإسلامي في باب القضاء، وهو أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين، ولما لم يكن لأمير المؤمنين بينه، حكم القاضي بالدرع لليهودي. وبعد انتهاء المحاكمة بدا على علي "عليه السلام" الغضب فقال له القاضي: أكرهت أن يكون خصمك يهودياً؟ فقال له علي "عليه السلام": "لا ولكني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه بل فضلتني عليه عندما كنيتني وناديته باسمه".
وعلى مستوى الخدمات التي يلزم الدولة توفيرها لمواطنيها، نجد أيضاً عدالة لا نظير لها، وأكتفي هنا بنقل حادثة حصلت مع أمير المؤمنين "عليه السلام"، وهو صوت العدالة الإنسانية وشهديها، تقول الرواية أنّه مرّ به شيخ كبير مكفوف يسأل فقال "عليه السلام": ما هذا؟ قالوا يا أمير المؤمنين نصراني فقال "عليه السلام": "استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال" (م.ن، الباب 19 من أبواب جهاد العدو والحديث: 1).
هذه هي عدالة الإسلام، عدالة لا تعرف ديناً ولا لوناً ولا عرقاً، بل تشمل الإنسان بما هو إنسان، عدالة لا تعرف المحاباة والمداهنة ولا تكيل بمكيالين ولا تستثني المقربين والأتباع، فقد قال النبي "صلى الله عليه وآله": (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف قطعوه وإذا سرق فيهم الضعيف تركوه، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (صحيح مسلم 5/114).
ولكي يضمن الإسلام تحقيق العدل في المجتمع اشترط في كل من يتولى الشأن العام أن يكون عادلاً في نفسه بمعنى أن يكون مستقيماً على جادة الشرع لأنّه لا يقيم العدل إلا العادل، ومن هنا فلا شرعية للحاكم أو المفتي أو القاضي وحتى إمام الجماعة إن لم يكونوا عدولاً، وحتى الشاهد لابدّ أن يكون عادلاً ضماناً لحقوق الناس.
العفو والرفق:
والإسلام ليس دين العدالة فحسب، بل هو دين العفو والرحمة، وقد تجلت مظاهر الرحمة في عقيدته وشريعته وكل تعاليمه.
فعلى المستوى العقائدي نجد أنّ أبواب الرحمة مشرعة للعباد وذلك:
لأنّ الله هو الرحيم الغفور الذي يدعو عباده المذنبين أن لا ييأسوا من رحمته، فإنّه قد فتح لهم إلى عفوه ورحمته باباً اسمه التوبة كما جاء في مناجاة زين العابدين "عليه السلام" وأنّه يغفر الذنوب كلها جميعاً (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/ 48).
وإنّ من رحمته أنّه إذا هم العبد بالحسنة فيكتبها له حسنه وإذا هم بالسيئة فلا تكتب له سيئة إلا إذا عملها، فتكتب له سيئة واحدة، وأما إذا أتى بالحسنة فتكتب له عشر حسنات، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام/ 160).
ومن رحمته تعالى أنّه أعطى أنبياءه وأولياءه وبعض عباده حقاً في أن يشفعوا للمذنبين.
ومن رحمته أنّه يتجاوز عن صغائر الذنوب بمجرد اجتناب الكبائر (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء/ 31).
ومن رحمته أنّه لا يباشر الناس بالعذاب عند المعاصي (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) (النحل/ 61)، وقد رفع العذاب من هذه الأمة ببركة النبي "صلى الله عليه وآله" وبركة الاستغفار (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال/ 33)، إلى غير ذلك من تجليات الرحمة الإلهية.
وأما على المستوى التشريعي، فنجد أنّ التشريعات الإسلامية تنبض بالرحمة، وأنّ الرفق هو القيمة الأخلاقية التي أراد الله للناس أن يأخذوا بها في علاقاتهم بكل ما حولهم من إنسان أو حيوان أو جماد، فلو ابتدأنا بالأسرة، سنجد أن تكوينها قائم على أساس المودة والرحمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21)، وأن علاقة الأبناء مع الآباء يجب أن تكون مغمورة بالرحمة (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء/ 24)، وكذلك تعاطي الأهل مع الأولاد، فقد ورد في النصوص: "من قبل ولده كتب الله له حسنة" "ومن كان عنده صبي فليتصاب له" (الوسائل أبواب أحكام الأولاد الباب 89 و90). ولو توسعنا إلى دائرة الأقارب والأرحام، فنجد أنّ الإنسان مأمور بصلتهم ويحرم عليه قطيعتهم، وإذا توسعنا إلى دائرة المؤمنين سنجد أن صفتهم القرآنية أنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29). وهكذا لابدّ أن يتعاطى الحاكم مع رعيته كتعاطي الأب المشفق مع أولاده، يقول علي "عليه السلام" في عهده للأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان؛ إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وإذا خرجنا إلى دائرة المجتمع الإنساني المتعدد الأديان، فالرفق والإحسان هو أسلوب التعاطي مع الآخر (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).
وإذا كان المؤمنون أشداء على الكفار كما جاء في الآية فإنّ الشدة المطلوبة هي أثناء المعركة، أما لو انتصر المؤمنون فالعفو عند المقدرة هي الخلق الذي ينبغي أن يتعاطوا به مع أعدائهم، كما فعل رسول الله "صلى الله عليه وآله" عند فتح مكة، فإنّه لما سمع أحد أصحابه يقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة.. أمر "صلى الله عليه وآله" أن ينادى: اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة (سيرة المصطفى 597)، وكيف لا يأمر بذلك وهو رسول الرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).
ولو خرجنا من دائرة الإنسان، لرأينا أنّ الرفق هو أسلوب التعاطي مع الحيوان، وإنّ قراءة سريعة لتعاليم الإسلام المرتبطة بالحيوان، من حرمة إيذائه وتعذيبه وضربه لغير ضرورة، إلى الأمر بإطعامه وسقيه والاهتمام به، إلى التعاليم الواردة في قضية ذبحه، مثل أن لا يذبح وحيوان آخر ينظر إليه وأن تكون سكين الذابح حادة حتى لا يعذب إلى غير ذلك، تبين أنّ للإسلام فقهاً كاملاً حول حقوق الحيوان وكيفية العناية به، وإلى الآن لم تستطع كل منظمات "الرفق بالحيوان" أن تصل إلى مستوى هذا الفقه، وإنّ كلمة أمير المؤمنين "عليه السلام" : "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت" (نهج البلاغة) تدلل على هذه الحقيقة، فإنّه "عليه السلام" قد اعتبر أن سلب النملة جلب الشعيرة هو معصية لله سبحانه، كما أن سلب الإنسان ماله وقته هو معصية لله سبحانه.
وهكذا امتدت مسؤولية الإنسان لتشمل البيئة أيضاً، فالمطلوب منه أن يرفق بنفسه وبكل مخلوقات الله الحية من خلال رفقه بالبيئة ومحافظته عليها: "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".
بين العدل والعفو:
ورب سائل يسأل أيهما أفضل العدل أم العفو والجود؟ ونترك الإجابة على هذا السؤال لأمير المؤمنين "عليه السلام"، وقد يظن لأوّل وهلة أنّ جواب الإمام سيكون بأنّ الجود أفضل من العدل، لأنّ العدل هو إعطاء الناس حقوقهم، أما الجود فهو إعطاء أكثر من الحق، ولكن الإمام يجيب عكس ذلك، مقدما العدل على الجود يقول "عليه السلام" : "العدل يضع الأمور في مواضعها والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما" (نهج البلاغة)، ويلاحظ أنّه "عليه السلام" يرجح العدل على الجود لدليلين:
1-إنّ العدل يكون بإعطاء كل إنسان حقه حسب حاجته وبذلك يتوازن المجتمع، وأما الجود فبإعطاء الإنسان فوق حقه، فربما أدى إلى حرمان البعض من حقوقهم، لأنّه وكما يقول "عليه السلام" : "ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع"، وبذلك يختل توازن المجتمع و"العدل يضع الأمور في مواضعها والجود يخرجها من جهتها".
2-إنّ العدالة قانون عام تدار شؤون المجتمع على أساسه، أما الجود أو العفو فهو حالة استثنائية لا يمكن اتخاذها قانوناً، وإلا لو أردنا أن نعفو عن المجرمين ومن يخل بأمن العباد لاختل النظام العام، فالعدل عارض عام والجود عارض خاص، ومن هنا يكون "العدل أفضلهما وأشرفهما".
وما نريد أن نستنتجه من ذلك كله، أنّ ديناً تتحرك تعاليمه بين العدالة والرفق، هو قادر بالتأكيد على مواكبة تطورات الحياة ومتغيراتها، لأنّ العدالة من القيم الاجتماعية التي لا تختص بزمان، والرفق من القيم الأخلاقية التي لا تختص بأُمّة دون أخرى.
ولما كان العدل من العناوين القرآنية الأساسية وله هذه المكانة في النصوص الإسلامية فيكون من الضروري إدخاله في عمليات الاستنباط الفقهي كمقياس توزن به النصوص ومقصد من مقاصد الشريعة، فكل نص ديني يطرح مفهوماً أو حكماً لا ينسجم مع قاعدة العدل لابدّ من رسم علاقة استفهام حوله وكذا كل عملية اجتهادية تكون نتيجتها فتوى أو رأيا لا يتوافق مع قاعدة العدل، وبالإمكان أن نشير هنا إلى نموذجين من الفتاوى التي لا تنسجم مع القاعدة المذكورة:
1- الإمساك ضراراً: إذا ساءت العلاقة الطبيعية بين الرجل وزوجته ولم تعد الحياة الزوجية ممكنة، ورفض الزوج القيام بواجبات الزوجية ورفض الطلاق فما أيضاً في العمل؟ يقول الشهيد مطهري: "إنّ رأي الكثيرين هو أنّ هذا الأمر لا يقبل العلاج في نظر الإسلام إنّه نوع من السرطان الذي يصيب بعض الناس أحياناً ولا يملكون له علاجاً ويجب على المرأة أن تشقى لتبقى حتى تنطفئ شمعة حياتها بالتدريج، وفي نظري إنّ هذا النوع من التفكير يتعارض مع المبادئ الإسلامية المعروفة، فالدين الذي ينادي بالعدل ويعتبر القيام بالقسط هو الهدف المبدئي والأساس لجميع الأنبياء (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25)، كيف يمكن ألا يفكر في حل لمثل هذا الظلم الفاحش الواضح؟ وهل يمكن أن يضع قوانينه بالشكل الذي تنجم عنه معاناة الضعفاء لما يشبه السرطان ويتجرعوا الغصص والآلام حتى الموت؟!
إن مما يدعو إلى الأسف أن يعتقد بعض الأفراد – الذين يقرون بأنّ الإسلام دين العدل وهم أنفسهم أعضاء محاكم – بمثل هذا الرأي، ولو أننا ألصقنا بالإسلام قانوناً ظالماً تحت عنوان "السرطان" فلن نجد بأساً بعد ذلك من قبول قانون ظالم آخر تحت عنوان "الكزاز" وآخر بعنوان "السل" ورابع بعنوان "الشلل" ومجموعة أخرى من القوانين الظالمة بعناوين أخرى.
إذا كان الأمر كذلك فأين مبدأ العدل الذي هو أساس التقنين الإسلامي؟ وأين القيام بالقسط الذي هو هدف الأنبياء؟ (نظام حقوق المرأة في الإسلام: ص252).
2-تنزل قيمة الأوراق النقدية: لو كان مهر امرأة قبل أربعين سنة ألف ليرة مثلاً وكان بإمكانها أن تشتري بها آنذاك منزلاً سكنياً فهل يكتفي زوجها لو أراد دفع المهر إليها أن يدفع الألف رغم تنزل قيمتها إلى حد أصبحت لا تكفي لشراء وجبة طعام لشخص واحد، أو يجب عليه دفع ما يعادل قوتها الشرائية في ذلك الزمان؟
ذهب بعض الفقهاء إلى اختبار الثاني على اعتبار "أنّ الدفع بالأوراق الفعلية مخالف لأصل العدل، فإنّه ليس من العدل دفع الأوراق الفعلية عوضاً عنها قبل أربعين سنة، نعم لو كان التفاوت بينها يسيراً يحكم بكفايته في براءة الذمة لجريان سيرة العقلاء على عدم الاعتناء باليسير بخلاف المال الخطير" (فقه أهل البيت العدد 5 و6 ص75).
وربما يثار بعض الاعتراضات على ما جاء في هذين الموردين إلا أنّ متابعة ذلك خارج عن محل البحث لأننا بصدد بيان الفكرة العامة مع قطع النظر عن الاعتراضات التي قد تسجل على التفاصيل.