كيف نبتعد عن شرور الحياة؟
الإنسان ذو هدف ورسالة، فما هي رسالته في هذه الدنيا؟
الإنسان خُلِقَ ليطلب الخير والسّعادة في الحياة لا ليتّجه إلى شرورها وما يجلب له الشّقاء .. فالحياة فيها الخير وفيها الشّر، والإنسان هو الذي يختار ما يليق به من الخير، ويتجنّب ما لا يليق به من الشّر.
يا تُرى إذا قُدَّم َلأحدنا وجبة من طعام أو قطعة حلوى من شخص لا نعرفه، فهل نتوجّه إلى الأكل مُباشرة، أم نطمئن أوّلاً إن كانت وجبة الطّعام هذه أو قطعة الحلوى تلك سالمتان من التلوّث على الأقل.
نحن نختار النظافة في كلَّ شيء نتناوله أو نستعمله لندرأ عن أنفسنا الجراثيم والأوساخ التي تجلب الأمراض وتضرّ بسلامتنا الصحيّة .. ينبغي أن نفعل هكذا مع الصّفات السّيّئة والأهواء الشّرّيرة التي تعبث بأخلاقنا وتُخرّب مزاجنا النفسيّ.
الإنسان عندما يتعرّض إلى الأمراض البدنيّة يُبادِر إلى العلاج، فيشفي من المرض عادة، إلاّ أنّه يتعرّض أحياناً إلى أمراض النّفس والرّوح فلا يُبادِر إلى العلاج؛ لأنّه لا يشعر بها في الظّاهر، وقد تفتك به في نهاية الأمر.
كل منّا يملك إضافة إلى جهازه البدنيّ جهازاً نفسيّاً، وأخطر شرور الحياة هي التي تُؤذي جهازنا النفسي أو تُخرّب برنامجه الأخلاقي الرّائع.
البرنامج الأخلاقي يُشكّل جوهر الإنسان وروحه، فإذا فقد الإنسان هذا البرنامج لم يبقَ له سوى قشرة لا تنفعه إلاّ للعيش في هذه الحياة كالنّبات أو الحيوان.
صفات الخير والفضائل في المقابل ترى قلب الإنسان وروحه بالأمور التي تُسعده وتجعله كاملاً ومصدراً للخير لنفسه وللآخرين.
هناك حقيقة أخرى هي أنّ الإنسان في هذه الحياة يقع بين قطبي الشّرّ والخير .. فكلّما اقترب من قطب الخير ابتعد بنفس المقدار عن الشّر.
إذا كان أحدنا وفيّا ً مع صديقه ومضحِّياً له عندما يتعرّض هذا الصّديق لنائبة أو مشكلة، فإّننا في الحقيقة بعيدون عن خيانته أو الغدر به .. والنتيجة الطّبيعية لهذه الصِّفة هي حُبّ الأصدقاء لنا والتفافهم حولنا.
هكذا إذا كان أحدنا بارّاً بوالديه .. فذلك يعني ببساطة أنّنا لا نُسيء إليهما، وما نحصل عليه في المقابل هو حبّهما وتقديرهما لنا، أو حبّ الآخرين واحترامهم لنا، وفوق ذلك كلّه حبّ ورضا من مصدر الخير في الكون أي الله تبارك وتعالى.
يشيع البعض أو يُحاول أن يُصوِّر لنا أنّ الخير معناه الحرمان من لذائذ الحياة ومُتعها، والحقيقة هي أنّ الخير هو حسن استعمال المواهب والطّاقات، وهو الاستفادة الصحيحة من لذائذ الحياة ومُتعها وجمالها.
إن الّذي خلق لنا هذه المواهب وزوّدنا بهذه الطّاقات لا يريد أن يحرمنا من ثمارها، وإنّما يريدنا أن نستخدمها بطريقة صحيحة نافعة، وتجعلنا في طريق الخير أبداً وعلى الدّوام.
الشّرّ إذن هو أن نسيء استعمال هذه المواهب ولا نستمتع بشكل صحيح من لذائذ الحياة، فنضيع في متاهات الطّريق ونغفل عن الغايات التي تتلائم معنا كبشر. لكن السؤال المهم والكبير هو ما الّذي يجعلنا أحياناً نختار الشّرّ رغم مساوئه أو نفسح له المجال ليدخل عالمنا الشّبابيّ الجميل؟!
الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى طرح العديد من الأسئلة الصغيرة في الظّاهر، ولكن الكبيرة في حقيقتها وأثرها على حياتنا، خاصّة في المرحلة التي نعيشها.
فهل نحنُ ممّن يستصغر نفسه ويحتقر ذاته؟! إذا كان كذلك هانَ علينا الشّر.
لا يعقل أحد أنّ أميراً من الأمراء أو زعيماً من زعماء الدّول أو نجماً من نجوم الأدب ينحني لالتقاط شيء تافه من الأرض.
ربّما كان هذا الشيء مهمّا بالنسبة للآخرين، لكن شأن الأمير أو الزّعيم أو النّجم يمنعه من الاهتمام بذلك الشيء، ولا يليق به أن يفعل ذلك، كذلك لا يليق بنا كبشر أن نجعل أنفسنا عرضة لسوء الخلق أو الحقد، أو الإساءة والظّلم للآخرين، أو الكذب أو السّرقة، وما شابه ذلك من الشّرور والذّنوب.
هل نحنُ ممّن يستهين بالعدوّ؟
على الأقل لا نفعل ذلك مع أعدائنا من الميكروبات والفيروسات المرضيّة.. فهل نفعل ذلك مع الفيروسات من النوع الآخر، أي الفيروسات الأخلاقيّة.
هناك قصّة طريفة تُروى عن أصحاب النبيّ "صلى الله عليه وآله" حينما كانوا بصُحبته في أرض قاحلة جرداء، وكان الجوّ بارداً، فسألهم النبيّ "صلى الله عليه وآله"، هل يستطيعون جمع كمِّيّة من الحطب لإشعالها والدفء بحرارتها؟
فقال الأصحاب بأجمعهم: إنّه لا يوجد في هذه الأرض زرع أو شجر، فكيف يجمعوا حطباً؟
فقال "صلى الله عليه وآله": فليأتِ كلّ فرد بما يقدر عليه.
فذهب الأصحاب يجمعون ما يشاهدونه من أشواك ونباتات يابسة صغيرة، ثمّ جاءوا به إلى رسول الله "صلى الله عليه وآله"، فتجمّع من الحطب مقدار كبير.
فقال النبيّ "صلى الله عليه وآله": هكذا تجتمع الذّنوب الصّغيرة، مثلما اجتمع هذا الحطب. ثمّ قال: إيّاكم والمحقرات من الذّنوب.
هل نحنُ ممن لا يرى إلاّ أمام قدميه ولا ينظر إلى الأفق البعيد ويتجاهل العواقب؟
لا يبدو أنّ الحصان المشدود إلى محور الطاحونة ليديرها كما كان يحصل في الماضي أو يحصل في الحاضر في بعض مناطق من العالم، لا يبدو هذا الحصان مستاءً من عمله وهو يسير آلاف الأميال دون أن يبرح مكانه ..
قد يكون كذلك لأنّه ينظر فقط أمام قدمية، ولكن الذي يراه عن بُعد ومن خارج الطّاحونة يأسف لحاله ..
نفس الحالة نجدها مع الحصان الذي شُدّ بعربة ووضع صاحبها جزرة معلّقة بعصا طويلة على مسافة أمام عينيه ليسير الحصان طمعاً في الوصول إلى الجزرة دون جدوى؛ لأنّ الجزرة تبقى على مسافة من الحصان أمامه كلّما دفع بالعربة إلى الأمام، ولكن الذي يمكن أن ينقذ الحصان من هذا الوضع هو أن يغضّ بصره عن الجزرة وينظر إلى آفاق الطّريق.
هل نحنُ ممن تنحصر همّته في دائرة نفسه؟
إذا كان الأمر كذلك، فنحنُ أشبه بتلك الضِّفدعة التي تعيش في البئر ولا تُفارقه، وتحسَب أنّ العالَم كلّه هو ما يحيط به جدران البئر، ولا يدخل في مخيّلتها عالَم الحقول والمزارع والمياه المتدفِّقة الجارية خارج البئر.
هل نحنُ ممن يمضي في طريق دون أن يُراجِع نفسه؟
هذا هو حال المسافر الذي يختار طريقاً خاطئاً ولا يلتفت إلى العلائم والإشارات على جانب الطّريق، ولا يسأل أحداً .. فما دام هذا المسافر على حاله لن يصل إلى مقصده ولو زاد في سرعته بنفس الاتجاه لازداد بُعداً عن المقصد الّذي يريده.
هل نحنُ ممن يُؤجِّل فعل الخير إلى أجلٍ مُسمّى؟
مثلاً أن نقول مازال هناك مُتّسع من الوقت لفعل هذا الخير أو ذاك .. أو نقول إنّ المسؤوليّة ما زالت مُبكِّرة بالنسبة لنا، وما شابه من الأقوال والأفكار..
هذا يعني أنّنا نريد أن نُبقي صماّم الشّرّ مفتوحاً دون أن نفتح صماّم الخير .. فنجد بعد فترة أنّ خزّان النّفس قد مُلئِ شرّاً؛ لأنّنا أغلقنا صماّم الخير حتىّ إشعار آخر، ولم نفسح له المجال ليملأ نفوسنا وتبتهج به حياتنا.
هل نُصادِق الأشرار وأصحاب الخُلق السّيِّئ؟
هل نحنُ مُستعدّون لبناء علاقات شخصيّة مع هؤلاء؟
إذن سنجعل قطب الشّرّ يقوى فينا ونقع شيئاً فشيئاً في ميدان جاذبيّته؛ لأنّ الاقتراب من قطب الشّرّ والانسجام معه بشكل من الأشكال يُبعِدنا من قطب الخير.
هل نستخدِم جهازنا العقليّ وبرنامجنا الأخلاقيّ باستمرار؟
وإذا حصل ودخل فيروس من الشّرّ في برنامجنا هذا، هل نبحث عن طريقة سريعة لإخراجه؟، كما نفعل بأجهزتنا الكمبيوتريّة التي نملكها في البيوت، أو التي نستخدمها في أماكن دون دراستنا وعملنا.
هناك العديد من الأسئلة على غرار التي ذكرناها لمعرفة السُّبل التي تسلك منها الشّرور إلى حياتنا، فمثلاً قد نُسأل أيضاً، هل نحنُ من الذين يهتمّون بجمال الظّاهر والأناقة في الملبَس فحسب؟ أم نهتم أيضاً بجمال الباطن والأخلاق وجمال العقل والفكر.
وأيضاً، هل نستطيع أن نُميِّز الخير من الشّرّ؟
إنّ الشّر قد لا يكشف لنا عن وجهه البَشِع، بل يأتي إلينا بظاهر جذّاب يخلط فيه السمّ بالعسل ..
فالحذر كلّ الحذر من الشّرّ إذا لبسَ ملابس الخير.
إنّ أفضل الطّرق لمعرفة الشّرّ أو حقيقة الأعمال التي نُسمّيِها شروراً ورذائل أخلاقيّة أو ذنوباً هو أن نتأمّل في عواقبها ونتائجها.
الانحراف، امتهان النّفس، الإدمان على المخدّرات، الانجراف في عصابات الجريمة، السّجون وغيرها، هي أمثلة من هذه العواقب إذا ما سمح الإنسان للشّرور أن تغزو عالمه الطّاهر الشّفّاف لتُعكِّر ما فيه.
ونقول أخيراً إنّ الخير يعني أن نشيع الفضائل في حياتنا وحياة الآخرين من حولِنا .. وهذا يعني استمتاع بمواهب الحياة وجمالها ولذائذها، مع شعور بالاطمئنان والتوازن والسّعادة.
والشّر لا يمنحنا ذلك كلّه، وإنّما يتظاهر بأنّه يُحقِّق لنا الاستمتاع بالحياة.
هل من الخير أن يعيش الإنسان أنانيّاً دون أن يهتم بالآخرين؟
هل من الخير أن يعبث الناس بالغذاء في الوقت الّذي يموت فيه ملايين الأطفال من الجوع؟
أسئلة وأسئلة تدعونا للتفكير لكي نختار نوع الحياة التي نعيشها ولا نقع فيما وقع به غيرنا من الشّرور والأخطاء، وأن نستغلّ فرص الحياة في طريق يحفظ الإنسان ومجتمعه من المخاطر والمشاكل والويلات.(*).
________________
(1) المصدر كتاب "على أبواب الشباب" من إصدار دار التوحيد.