يعرّف العلماء الأخلاق بتعريفات كثيرة، وكلها ترجع إلى معنى واحد جامع، وهو أنّ الأخلاق: (ما يحصل بها الكمال من الأفعال الحميدة، واجتناب القبيحة).
وعلى هذا فإنّنا حينما نتحدث عن الأخلاق في أعلى مراتبها، فإنّنا في واقع الأمر نتحدث عن العصمة في أعلى مراتبها، وحسبنا أنّ الله تعالى قال في سيّد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
فمعنى الخُلُق العظيم في هذه الآية الشريفة هو الكمال العظيم، وليس هو هنا إلاّ العصمة الذاتيّة المجعولة من قبل الله تعالى كما أعلنت عن ذلك الأدلة الواردة في شأن خصوص الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم، أمّا في غيرهم عليهم السلام فالحديث عن الأخلاق يكون حديثاً عمّا يسمّى بالعصمة الاكتسابيّة التي يمكن أن ينالها الإنسان كلّما أمعن في فعل الطاعات واجتناب القبائح، بل يمكن للإنسان حينئذ أن يدرج في مجموعة الصدّيقين إدراجاً تشريفيّاً كما هو حال شهداء كربلاء رضوان الله تعالى عليهم.
الحسن والحسين ميزان لحب الله وبغضه
لكن يبقى السؤال الصعب كيف نعرف أننا نحب الله حبّاً حقيقيّاً؟!
تكفّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجواب عن ذلك في طائفة عظيمة من الأحاديث المتواترة والصحيحة، منها: «الحسن والحسين ابناي من أحبهما أحبّني ومن أحبّني أحبه الله ومن أحبّه الله أدخله الجنة ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله ومن أبغضه الله أدخله النار».
ومنها: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسند حسن قال: «أوصي من آمن بي وصدقني، بولاية علي بن أبي طالب..؛ من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله عزّ وجل، ومن أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجل».
ماذا يستفاد من هذين النصين
هذان النصان يوضحان انحصار طريق حب الله الحقيقي في حبّ أهل البيت: ومودتهم، وقد نصّ الله تعالى على ذلك قائلاً سبحانه: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). وقد ذكر المفسرون أنّها نزلت في أهل البيت.
الإمام الحسين عليه السلام يخير بين الشهادة والنصر
وإذا أردنا أن نتحدث عن أعظم أخلاق الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فلن نتوقف عند شجاعته وكرمه وحلمه وعلمه وما كان من هذا القبيل؛ لأنّه عليه السلام أجل من كلّ ذلك وأسمى وأعلى بما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ إذ لا ينبغي أن نتناسى أنّه عليه السلام خُيِّر من قبل الله تعالى بين النصر والشهادة في كربلاء، فاختار الشهادة...؛ حبّاً للقاء الله سبحانه وتعالى.
فقد روى الكليني بسند حسن عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «أنزل الله تعالى النصر على الحسين بن علي، حتى كان ما بين السماء والأرض، ثمّ خُيّرَ النصر أو لقاءَ الله، فاختار لقاء الله».
لماذا اختار الامام عليه السلام الشهادة دون النصر؟
أما لما اختار الإمام الحسين عليه السلام لقاء الله تعالى؟!!
الجواب: إنّنا لو جهلنا كلّ شيء فإننا لن نجهل أنه عليه السلام أراد بذلك أن يكون قبره الشريف، سراجاً للأمة في الهداية، وملاذاً من الضلال، وحصناً من الغواية، ودرعاً من الانحراف، وحسبنا ما رواه الصدوق بسنده الصحيح عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «من أتى قبر أبي عبد الله عليه السلام عارفاً بحقه، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر». فهذا من أسمى ما كان يريده الحسين عليه السلام لمّا اختار الشهادة.
لذلك: ورد في متواترات الأخبار أنّ حبّهم إيمان وبغضهم كفر، وهذا هو الذي يفسر ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسند صحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من مات على بغض آل ممد مات كافراً».
عفو الإمام الحسين عليه السلام
قال المحدّث القميّ: رأيت في بعض الكتب الأخلاقية ما هذا لفظه: قال عصار بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي عليهما السلام، فأعجبني سمته ورواؤه، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال عليه السلام: «نعم». فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطفٍ رؤوف، ثمّ قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم > خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)<.
قبوله العذر
قال العلامة جمال الدين محمد ين يوسف الزرندي الحنفي في نظر دُرَر السمطين: وروي عن علي بن الحسين قال: سمعت الحسين يقول: «لو شتمني رجل في هذه الأذن وأومئ إلى اليُمنى، وأعذر لي في الأخرى، لَقَبِلْتُ ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حدّثني أنّه سَمَعَ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يرد الحوض من لم يقبل العذر من مُحِقّ أو مُبطِل».
حلمه عليه السلام
جنى له غلام جناية توجب العقاب، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي والكاظمين الغيظ. فقال عليه السلام: «خّلّوا عنه». فقال: يا مولاي والعافين عن الناس، قال عليه السلام: «قد عفوتُ عنكَ». قال: يا مولاي والله يُحبُّ المُحسنين، قال عليه السلام: «أنت حُرّ لِوَجْهِ الله ولَكَ ضَعْفُ ما كُنتُ أعطيك».
تواضعه عليه السلام
مرَ عليه السلام بمساكين وهم يأكلون كسراً على كساءٍ، فسلّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: «لولا أنّه صدقة لأكلتُ معكم». ثمّ قال: «قوموا إلى منزلي». فأطعَمَهم وكساهم وأمر عليه السلام لهم بدراهم.
وعن مسعدة قال: مرّ الحسين بن علي عليهما السلام بمساكين قد بسطوا كساءً لهم وألقوا عليه كسراً، فقالوا: يا ابن رسول الله، فثنى وركه فأكل معه ثمّ تلا:>إنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ <.
ثمّ قال: «قد أجَبْتُكُم فأجيبوني». قالوا: نعم يا ابن رسول الله، فقاموا معه حتّى أتوا منزله، فقال عليه السلام للجارية: «أخرجي ما كنتِ تدّخرين».