نبذة مختصرة عن حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله               ولادة الرسول الأكرم ومنطلقات الوحدة الإسلامية               النبوة لطف               التربية بالقدوة الحسنة               عملي وعملكم                كلّا إنّها كلمة هو قائلها                 الله والتغيير                التربية بالقدوة الحسنة                القرآن وتربية الإنسان                 الشّباب ووقت الفراغ               
  الرئيسية
  من نحن ؟
  من خدماتنا
  مواقع مهمة
  كشوف مالية بمساعداتنا
  المكتبة
  أنشطتنا
  المساهمات الخيرية
  الركن الاجتماعي
  أسئلة وأجوبة
  معرض الصور
  بحوث ومقالات
  اتصل بنا
 
عدد الزوار
183739
بحوث ومقالات > بحوث ومقالات أخلاقية
 
 
إتباع الهوى
مكتب الشؤون الفقهية بأوقاف اللواتية - 2013/09/20 - [المشاهدات : 1890]
 

إتباع الهوى

قال الله عزّ وجل: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)(1).

يستلزم موضوع "إتباع الهوى" الحديث في مجموعة من النقاط:

أولاً: في معنى الهوى:

إن من أكثر الأمور التي تعيق حركة الإنسان وفاعليته، وفق ما رسمه الله عزّ وجل له، هو عدم استعماله للطاقات والقابليات التي أودعها فيه عزّ وجل، والاستفادة السلبية من هذه الطاقات والقدرات في غير الطريق الذي رسمه، فهو أعظم المخلوقات بلا شك ولا ريب، وأودع الله عزّ وجل فيه من الإمكانيات والقابليات ما لم يودعها في غيره من المخلوقات، بل حتى أقرب المخلوقات له وهي الملائكة، فالإنسان يمكن من خلال إمكانياته أن يفضل على هذه المخلوقات العظيمة، شريطة أن يستغل هذه الطاقات والإمكانيات، وخصوصاً العقل الذي يحتوي على أعظم القدرات، ضمن الخط الذي رسمه له الله عزّ وجل.

واستعمال الطاقات والقدرات المودعة في النفس الإنسانية في ما رسمه الله عزّ وجل يُعبِّر عن اتباع الهوى، وهو ميل النفس إلى الشهوة وانسياق الإنسان للعمل وفق رغباته وشهواته، والعمل على إسكات هذه الرغبات والشهوات بإعطائها كلّ ما ترغب، والسير وفق هوى النفس مما يفقد الإنسان قدرته في السيطرة على ذاته وإمكاناته.

يطرح تساؤل مهم، وهو هل أن كل ما تهواه النفس يعتبر أمراً مذموماً، وكل ما لا تهواه يعتبر أمراً محموداً؟

نقف أمام معيار مفقود وميزان لا يستطيع فهم ضوابطه، فإن البعض يرى أن العقل كل العقل هو في مخالفة النفس في كل ما تهوى، ولا بدَّ لإدراك الحق ومعرفة الصواب والسعادة في الحياة من مخالفة النفس في كل ما تهوى. ويجد البعض الآخر أن الإنسان لا بدّ أن يرضي نفسه، والعقل كل العقل في محاولته إرضاء غرائزه وإشباع شهواته والانسياق ورائها لتحقيق اللذة التي ينشدها.

في الحقيقة لا يمكن لنا أن نعتبر أن كلّ مخالفة للنفس أمر محمود، وأن كل ما تهواه النفس يعتبر أمراً مذموماً، بل المعيار الصحيح هو العمل وفق رضا الله عزّ وجل، تهوى النفس الطعام والشراب واللذات الأخرى، فإن كان الإنسان يأتي بهذه الأمور من باب سدّ باب الحرام والتقوي على طاعة الله سبحانه عزّ وجل، فإن ما تهواه النفس هنا هو عين ما يقرِّب الإنسان إلى الله عزّ وجل، وهو عين ما أمر به الباري جلّ وعلا، وأما إذا كان من باب اتباع النفس في مراداتها وسد هذه الحاجات بأي طريق كان، فإن ذلك يعدّ من الأمور المذمومة وهو اتّباع للهوى الذي نهى الله عزّ وجل عنه.

وكذلك الأمر في جانب الترك، فترك الطعام والشراب وكثير من لذات الدنيا يعتبر زهداً وطلباً لثواب الله عزّ وجل، شريطة أن يكون ضمن الضوابط الشرعية، فإن عدم متابعة هوى النفس هنا من الأمور الممدوحة؛ لأن المطلوب فيها الوصول إلى رضا الله عزّ وجل، أما إذا كان الترك لكي يُعرف الإنسان بالزهد، أو للوصول إلى قدرات نفسانية وغيبية لا تتأتى إلاّ من خلال هذا الطريق، أو العمل على ترك هذه الأمور بخلاف الضوابط الشرعية، فإن هذا يعتبر من إتباع الهوى لا ترك الهوى.

فالضابط والمعيار في حسن ما تهواه النفس أو قبحه أو حسن ما لا تهواه النفس أو قبحه، مقدار ما يطلب وجه الله عزّ وجل في هذا الفعل أو ذاك الترك.

ثانياً: أنواع الهوى:

من الخطأ الكبير أن نحصر الهوى في عملية إتّباع الشهوات من الطعام والشراب وإشباع الرغبات الجنسية، أو كل ما يتعلق بالرغبات الجسمية والنفسية لدى الإنسان، فهذه في الواقع نوع من أنواع الهوى، ويمكن أن نقسم الهوى إلى مجموعة من الأقسام:

1-إتباع الشهوات(1): عملية إشباع الشهوات والسعي لإشباعها بأي طريق كان وأي وسيلة، واعتبار إشباع هذه الرّغبات والنزوات من أهم عوامل الحياة، هو إتباع للهوى، فالإنسان الذي يرى الدنيا في جمع المال لأنه من خلاله يستطيع أن يحصل على تلبية كل رغباته وشهواته، أو الذي يسعى للجاه والقوة والسلطة ليتسنى له إشباع رغباته وميوله النفسية وبأي وسيلة كانت، فإن ذلك من إتباع الهوى وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بأنه: متاع الحياة الدنيا: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْـخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْـحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ)(3).

فالسعي وراء هذه الأشياء وإتباع مختلف الأساليب في الحصول عليها هو إتباع للهوى.

(2)عدم اعتماد البرهان والدليل في الأمور(4): يحصل إتباع الهوى أيضاً في حالة عدم الدّقة في إصدار الأحكام، وقد يتصوّر البعض أن هذه الأمور مختصّة بمن يتولى القضاء والحكم بين النّاس، نعم، هؤلاء من أظهر مصاديقه ولكن أيضاً يشمل كل ما يصدره الإنسان من أحكام على الآخرين من دون استناد إلى دليل وبرهان، وما أكثر ما نلاحظ في حياتنا أننا نصدر أحكاماً بشكل جزاف على الناس دون أن يكون لنا أي دليل في ذلك، وإنما هو الهوى والحب الذي يعمي ويصم.

فالإنسان الذي نحبه ونوده تعمى عيوننا عن إبصار عيوبه، ونحاول أن نجد له من المعاذير والمحامل الصحيحة الشيء الكثير، بينما لا نعذر من لا نحب، ونحاول أن نصفه بأقسى الصفات ونحكم عليه بأشد الأحكام إذا تصرّف تصرّفاً لا يعجبنا، وهذا ما نهى الله عزّ وجل عنه: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)(5) وبطبيعة الحال تزداد أهمية اتباع الحق في الحكم بحسب الدرجة التي يتمتع بها ذلك الحاكم، ولكن الكل مطالب باتّباع الحق وعدم اتّباع الهوى في إصدار الأحكام، ولا يختلف في ذلك إثنان، نعم، الاختلاف إنما يكون في الدرجة والموقع الذي يحمله الإنسان.

(3)الهوى في اختيار الملة والطريق(6): من الهوى المنهي عنه اتّباع النفس في اختيارها للملّة والطريقة والرأي الذي لا يستند إلى الحقائق الربانية، ويعتمد فيه الإنسان على التقليد الأعمى للآباء والأجداد، أو كل من يراه عظيماً بعينه، أو يعتمد على التعصب الذي يحاول من خلاله أن يغض النظر عن الحق ويحاول التعامي عنه، مع كامل اعترافه بالحق، وقد عاب الله عزّ وجل على كثير من الناس عدم أخذهم بالحق واتباع الآباء والأجداد والسادة والكبراء في المعتقد، مع العلم بضلالتهم أو عدم إعمال الفكر في معتقداتهم، قال الله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)(7) وقوله سبحانه وتعالى حكاية على لسان الكافرين وهم يعذبون في نار جهنم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(8).

وهذا النوع من أخطر أنواع إتباع الهوى، لأن إتباع الهوى في المعتقد يخرج الإنسان عن جادة الحق، وبالتالي يجعل الإنسان لا يعيش إلاّ ضمن الهوى، لذا نلاحظ في الدعاء المأثور عن الإمام الصادق "عليه السلام" ما يشير إلى هذه الحقيقة: (اللهم صَلِّ على محمدٍ وآل محمد، وأرني الحق حقاً فأتبعه، والباطل باطلاً فأجتنبه، ولا تجعلهما عليّ متشابهين فأتبع هواي بغير هدىً منك، واجعل هواي تبعاً لطاعتك، وخذ لنفسك رضاها من نفسي، وأهدني لما أختلف فيه من الحق بأذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(9).

إذن، فالإنسان ربما تحصل لديه حالة من الضياع في المعتقد نتيجة التشابه بين الحق والباطل، وبالتالي فيتبع الإنسان الهوى في معتقده، ويضل عن طريق الحق وطريق الله سبحانه وتعالى، والدعاء يشير إلى حقيقة أن الهوى لا بدَّ أن يكون تبعاً لطاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يدَّ أن يميل الإنسان إلى ما يوصل إلى رضا الله سبحانه وتعالى، لأن ذلك هو الفيصل بين الحق والباطل، وهو الفيصل بين ما تهواه النفس من الممدوح وما تهواه النفس من المذموم.

ثالثاً: أسباب إتّباع الهوى:

قد تختلف أسباب اتباع الهوى بحسب اختلاف الأنواع، فالأسباب في إتباع الهوى السلوكي تختلف عن الأسباب في اتباع الهوى العقائدي، ولكن يمكن إجمالاً أن نذكر مجموعة من الأسباب نعتقد أنها الأسباب الأساسية لعملية إتباع الهوى والخروج عن جادة الحق، ويمكن أن تكون سبباً لجميع أنواع اتباع الهوى.

(1)ما يتعلق بالآخرين: التقليد الأعمى والتأثر بالآخرين:

من أهم عوامل اتباع الهوى وعدم إعمال العقل في اتخاذ القرارات الصحيحة والسير وفق إرادة الله سبحانه وتعالى، هو التأثر بالآخرين واتباعهم من غير تدقيق في مسيرتهم وسلوكهم، فاتباع الآباء الناجم عن الإعجاب بهم والحب لهم والتأثر بشخصيتهم بحيث يحجب هذا الحب والإعجاب البصر والنظر إلى الحقيقة، كما ذكرنا في بعض الآيات الكريمة الدّالة على تقليد الآباء وإطاعة السادة والكبراء الذين يوصلون الإنسان إلى نار جهنم.

وأيضاً نجد تأثير الأخلاء وأصدقاء السوء في انحراف الإنسان عن جادة الحق، بالإضافة إلى عمل أهل المنكرات والمنحرفين وتأثيرهم في الآخرين وسعيهم الدؤوب في حرف الإنسان، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)(10)، وأيضاً في قوله سبحانه وتعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(11).

فالباري جلّ وعلا يحذّر من اتّباع أولئك الغافلين الذين اتبعوا أهواءهم، والذين يريدون فرض أهوائهم على الآخرين، وإبعادهم عن جادة الحق والصواب، ويحذر أيضاً من اتّباع الآخرين دون تمحيص وتدقيق، ولا يعتبر ذلك سبباً كافياً للعفو عن هؤلاء الجاهلين في اتباعهم لأولئك الذين حرفوهم، والقرآن الكريم يحدثنا في أكثر من موضع عن عدم وجود عذر للجهلة في اتباعهم الآخرين دون تأكد و تدقيق، لأن ذلك في الواقع نوع من أنواع الاستهانة بالدين والمعتقد، لأن الأمر إذا كامن متعلقاً بقضية دنيوية تجد الإنسان يدقق ويرجع إلى أهل الخبرة، ويستشير قبل أن يقوم بأي عمل دنيوي فيه شيء من الفائدة له، ونجده يقدم على الأمور الدينية دون أن يبذل أدنى جهد في سبيل معرفة الواقع، فأيّ عذر لمثل هؤلاء الذين سوف يتبرأ منهم الذين حرفوهم عن الحق كما ذكر ذلك الحق جلّ شأنه (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا  كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (12).

بل أكثر من ذلك عندما نجد هؤلاء الأتباع الجهلة يطالبون الله سبحانه وتعالى أن يزيد في عذاب من كان سبباً لشقائهم، فنجده يفرض الزيادة في العذاب على الجميع ، يقول سبحانه وتعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ) (13).

2- ما يتعلق بالإنسان نفسه: عدم الصبر أمام الشهوات:

العامل الثاني من عوامل انحراف الإنسان وإتباعه لهوى النفس هو عدم قدرته على الوقوف أمام شهواته، وعدم تحمله مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، فيجد نفسه مع علمه بالآثار السلبية لاتّباع الهوى وما يمكن أن يوصل الإنسان إليه، إلاّ أنّه نتيجة الضعف البشري وعدم رياضته ومجاهدته لنفسه يقع فريسة أمام شهواته ونزواته.

والقرآن الكريم يحدثنا عن مثل هؤلاء الناس وعاقبتهم، ويحدثنا أيضاً عن الطرف الآخر الذي يجاهد نفسه والعاقبة التي يصل إليها، قال الله سبحانه وتعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (14).

ويشبر الرسول "صلى الله عليه وآله" وأهل البيت "عليهم السلام" في أحاديث كثيرة إلى هذه المسألة وأهمية مجاهدة النفس، يقول أمير المؤمنين "عليه السلام" في إحدى خطبه: (إنَّ رَسُولَ اللهِ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ" كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، وَإنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَاعْلَمُوا أنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْءٌ إلاَّ يَأْتي فِي كُرْهٍ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيءٌ إلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ، فَرَحِمَ اللهُ رَجُلاً نَزَعَ (15) عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ، فَإنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً (16)، وَإنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ (17) إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوىً) (18).

فالإنسان الذي يستطيع أن يصبر، ويتحمل ضغط الشهوات والنفس فإنه لا شك إنسان فائز، ومنتصر على هواه، بل هو من أشجع النّاس، كما روي ذلك عن أمير المؤمنين "عليه السلام" فيما ورد عن الإمام الصادق "عليه السلام" قال: قال أمير المؤمنين "عليه السلام": (أشجع الناس من غلب هواه)(19)، وأما الذي لا يستطيع أ، يصبر ويتحمل هذه الضغوط، فإنّه ينساق إلى اتباع الهوى والميل إلى متطلبات النفس مما يجعله يقع في الرّدى.

رابعاً: كيفية مقاومة الهوى:

وهنا نأتي إلى الأمر الذي يقف الكثيرون أمامه معلنين الصعوبة البالغة في الالتزام به، أو صعوبة معرفة الطريقة لمقاومة هوى النفس، ونحن بدورنا لا نستطيع أن نبسّط هذه المسألة أو نقلل من أهمّيتها، خصوصاً وأن هذه العملية هي ما عبّر عنها الرسول الأعظم "صلى الله عليه وآله" في أحاديث متعددة بأنها الجهاد الأكبر، فلا شيء أعظم وأكبر من مجاهدة الإنسان لنفسه، وعدم إطاعته لهواه واتباع أوامر مولاه، ومقاومة الهوى والفوز بالدارين.

وهنا عدّة نقاط جديرة بالبحث في هذا الطريق الشاق:

(1)النظر في آثار أتباع الهوى:

قد يتصور البعض أن الذين انفلتوا من زمام القيود الدينية، واتبعوا أهواءهم يعيشون حياة ملؤها السعادة، إذ لا يوجد ما يضغط عليهم ليلبوا نداءه، فهم يشبعون شهواتهم ونزواتهم ورغباتهم، وبالتالي فالنظرة الساذجة الأولية تبدي هؤلاء وهم يعيشون حالة من السعادة والرفاه، ولكن لا بدَّ للإنسان العاقل أن لا يكتفي بالنظرة الساذجة البسيطة إلى الأمور، بل لا بدَّ أن يمعن النظر ويدقق في الأمور ليتوصل إلى فهم الحقائق بصورة صحيحة، ولا يكتفي بالمظاهر الخدّاعة.

ونحن لا نريد الخوض في حقيقة الحالة التي يعيشها هؤلاء، هل أنهم يعيشون السعادة أم الشقاء، وهل السعادة في اتباع الهوى، أم في اتباع المولى، هذا الحديث القدسي يبين فيه حقيقة الحالة التي يعيشها الإنسان المتبع لهواه، والإنسان المخالف لهواه: عن الباقر "عليه السلام" قال: (قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" يقول الله عزّ وجلّ : وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلاّ شتتّ أمره، ولبّست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أوته منها إلاّ ما قدّرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلاّ استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)(20).

ولا يستصغر الإنسان الأيمان والأقسام العالية التي أقسمها الله سبحانه وتعالى بصفاته، حيث أنَّ لكلّ صفة من هذه الصفات معنى أراد الله سبحانه وتعالى أن يبينه لعباده(21)، وكان يكفي له جلّ  جلاله أن يقسم بذاته المقدسة، ولكن أن يذكر سبعاً من صفاته العليا وأسمائه الكبرى، فهذا دليل على أهمية المطلوب، وعظمة ما يريد أن يبينه جلّ اسمه إلى عباده، فأي سعادة يحققها الإنسان؟ والله سبحانه وتعالى يقسم بهذه الأسماء العظيمة أن الذي يؤثر هواه على هوى الله سبحانه وتعالى كان ذلك سبباً لتشتت باله وتلبّس الدنيا عليه، لا يعرف ما ينفعه مما يضرّه، يعيش متخبّطاً فيها ولا يمكن له أن يحصل إلاّ ما قدّر الله سبحانه وتعالى له، ولو حاولنا أن نطبّق هذا الحديث القدسي الشريف على اتباع الهوى واتباع المولى لوجدنا مدى انطباق ذلك عليهم وصدق الله سبحانه وتعالى وصدق رسوله.

(2)تذكر الموت:

الحديث عن تذكر الموت حديث طويل لما فيه من أهمية عظيمة وآثار وبركات كثيرة، ولكن نذكر إجمالاً أن تذكر الموت ومآل الإنسان ومصيره ونهايته والاعتبار بمن عاش قبلنا، والنظر في آثارهم وعاقبتهم، كل ذلك له أثر كبير في إبعاد الإنسان عن المعاصي، وجعله يبتعد عن اتباع الهوى. يقول أمير المؤمنين علي "عليه السلام" : (وأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، فإنّه كفى بالموت واعظاً، وكان رسول الله "صلى الله عليه وآله" يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: وأكثروا ذكر الموت، فإنه هادم اللذات ...) (22).

(3)مصاحبة أهل الصلاح:

إن أكثر ما يؤثر في الإنسان هو الصاحب والصديق والخليل، فكم من أناس كانوا على هدى من أمرهم وانحرفوا لصحبتهم أهل الأهواء واتّباع الرأي، وكم من أناس استفادوا من مصاحبتهم لأهل الصلاح، فلا بد أن يتخيّر الإنسان إخوانه الذين يعاشرهم وليبحث عمّن يوصله إليه سبحانه وتعالى وإن أتعبه، فهو خير له من مخالطة إخوان السوء.

عن أمير المؤمنين "عليه السلام" : (خير إخوانك من عنّفك في طاعة الله سبحانه)(23).

وعنه "عليه السلام" : (خير إخوانك من سارع إلى الخير وجذبك إليه، وأمرك بالبر وأعانك عليه) (24).

وعنه "عليه السلام" أيضاً : (خير إخوانك من دعاك إلى صدق المقال بصدق مقاله، وندبك إلى أفضل الأعمال بحسن أعماله) (25).

وعن رسول الله "صلى الله عليه وآله": ( خير إخوانك من أعانك على طاعة الله وصدّك عن معاصيه وأمرك برضاه) (26).

(4)خلق الأجواء المناسبة للصلاح:

يتأثر الإنسان بالجوّ المحيط به، فكما يتأثر بالأصدقاء والأخلاء فإن الجو الاجتماعي الذي يعيشه له الأثر الكبير ومن هنا نجد الحكم الشرعي بحرمة أن يبدّل الإنسان مكان عيشه إلى مكان يضعف فيه الدين، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالتعرب بعد الهجرة، إذ يعدّ من الكبائر. وقد ورد الكثير من الروايات الشريفة بتحريمه، لأنّ ذلك يؤدي إلى ضعف الدين والتأثر بالأجواء الغريبة عن الدين.

عن محمد بن سنان أن أبا الحسن الرضا "عليه السلام" كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: (وحرّم اللّه التعرّب بعد الهجرة، للرجوع عن الدِّين، وترك المؤازرة للأنبياء والحجج "عليه السلام"، وما في ذلك من الفساد وإبطال حقّ كلّ ذي حقّ لعلّة سكنى البدو، ولذلك لو عرف الرّجل الدِّين كاملاً، لـم يجز له مساكنة أهل الجهل والخوف عليه، لأنَّه لا يؤمن أن يقع منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك) (27).

ضرب الإمام "عليه السلام" مثلاً للتعرب بعد الهجرة كأن يساكن الإنسان المتعلّم والعارف للأحكام الشرعية أهل البادية، إذ إنهم في ذلك الوقت كانوا أبعد الناس عن معرفة الأحكام وبالتالي فالإنسان عندما ينتقل إلى مثل هذه الأماكن، فإنّه سيتأثر بالجوّ العام المحيط به، وبالتالي يبتعد تدريجيّاً عن الدين ويتبع الهوى.

لذا لا بدّ للإنسان الذي يريد أن لا يتّبع الهوى أن يعيش وسط أجواء إيمانية صالحة، ويبتعد قدر الإمكان عن الأجواء المتأثرة بالهوى وبحب الدنيا، فإذا كان تواجد الإنسان في المساجد والحسينيات فإنه لا شكّ سيعيش أجواء نقيّة بعيدة عن الهوى وعن الدنيا، أما إذا كان تواجده دائماً في الأسواق أو الأماكن التي يتعرّض فيها للمحرّمات فإنه لا شكّ سيتأثر بها.

اللهم أرنا الحق حقاً فنتّبعه والباطل باطلاً فنجتنبه، والحمد لله ربّ العالمين.(*)

_________________

(1)ص: 26.

(2)ويمكن أن نعبّر عنه الهوى السلوكي.

(3)آل عمران: 14 .

(4)ويمكن التعبير عنه بالهوى في العلاقات.

(5)ص:26.

(6) ويمكن التعبير عنه بالهوى العقائدي.

(7)البقرة: 170.

(8)الأحزاب: 67.

(9) المجلسي، البحار: ج83، ص 120.

(10)النساء:27.

(11)الكهف: 28.

(12)البقرة: 166-167.

(13)الأعراف:28.

(14)النازعات: 36- 41.

(15)نزع عن: انتهى وأقلع.

(16)أبعد منزعا: أي نزوعاً بمعنى الانتهاء والكف.

(17)تنزع إلى: تشتاق إلى.

(18)الشريف الرضي، نهج البلاغة: ج2 ص 90، خطبة 176.

(19)المجلسي، البحار: ج67، ص 76، ح5.

(20)المجلسي، البحار: ج67، ص 78، ح14.

(21)يراجع ما ذكره العلامة المجلسي قدس سرّه في الهامش على هذا الحديث في البحار 67 ص 86-87.

(22)الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج2، ص 65، باب استحباب ذكر الموت، ح9.

(23)الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ: ص 238.

(24)نفس المصدر: ص 239.

(25)نفس المصدر: ص 239.

(26)الريشهري، ميزان الحكمة: ج1 ص 46.

(27)الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: ج11 ص 75، ب 36 من أبواب الجهاد، ح1.

(*)المصدر كتاب "دروس من الإسلام" للسيد علي الحكيم.

 
 
أضف تعليقاً
الاسم
البريد الإلكتروني
التعليق
من
أرقام التأكيد Security Image
 
 
 
محرك البحث
 
القائمة البريدية
 
آخر المواقع المضافة
موقع مكتب آية الله العظمى السيد الشبيري الزنجاني دام ظله
موقع سماحة آية الله العظمى السيد محمود الهاشمي الشّاهرودي
موقع سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله
موقع سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي دام ظله
موقع سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم دام ظله
 
آخر الصور المضافة
 
آخر الصوتيات المضافة
الإمام المجتبى عليه السلام بين حكم التاريخ وحاكميته
ضوابط قرآنية في حل المشكلات
الإمام الصادق عليه السلام ومحاربة الإنحراف
من ثمار التقوى
وقفات مع علم النفس القرآني
 
آخر الكتب المضافة
العبادة والعبودية
آية التطهير فوق الشبهات
إرشاد الحائر إلى صحة حديث الطائر
حديث الغدير فوق الشبهات
رسالة مختصرة في الفطرة والمشكلة الإنسانية
 
آخر الأسئلة المضافة
س:

  هل یجوز للرجل الزاني الزواج بابنة المراة التي زنا بها؟

ج:

  یجوز والاحوط استحباباً تركه.